ردت الجمهورية الإسلامية الإيرانية على اغتيال أمريكا للجنرال قاسم سليماني (في العراق، كما توقعت «القدس العربي»، قبل أيام) لكنها أضافت عناصر جديدة ذات طابع سياسي ورمزي، منها إعلان أن الصواريخ الإيرانية انطلقت من كرمانشاه، مسقط رأس قائد «فيلق القدس» القتيل، (الذي تم دفنه بعد لحظات من الهجوم الصاروخي الإيراني)، واختيار طهران توقيت العملية لتكون في الساعة التي تمت فيها عملية اغتياله، وكون الهجوم هو الأول الذي يصدر بشكل معلن ومباشر من أراض إيرانية ضد القوات الأمريكية، في كسر هو الأول من نوعه لما يشبه «خطا أحمر» سابقا، الأمر الذي يمكن للولايات المتحدة الأمريكية، أن تؤسس عليه ردا انتقاميا في الأراضي الإيرانية، وهو ما قد يرفع مستوى المواجهة بين الطرفين.
«الرد المتناسب»، كما سماه وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، استهدف قاعدتين عسكريتين يتواجد فيهما جنود أمريكيون، الأولى قاعدة «عين الأسد» الجوية، الموجودة في محافظة الأنبار، والثانية، قاعدة «الحرير»، الموجودة في أربيل، في إقليم كردستان.
تتقصد القيادة الإيرانية إذن تأكيد إمكانيتها على الرد، والانتقام لمقتل قائدها العسكري الكبير، وإظهار قدرتها على التعرض للولايات المتحدة مباشرة، غير أن لهذه الرسائل السياسية، وفي المواجهة الأمريكية ـ الإيرانية بأكملها، تداعيات واضحة تكشف هزال كيان العراق السياسي وهشاشته، من ناحية، واستهانة الطرفين بسيادته المفترضة واقتصاده وأرواح مواطنيه.
على هذه الخلفية، يكشف تصريح رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي حول الهجوم الإيراني ركاكة وضعيته، فقد قال إن السلطات الإيرانية قامت بإبلاغه «شفويا»، بعد منتصف الليل (أي قبل الهجوم أو خلاله)، بأنها تقوم بعملية عسكرية في العراق، وهذا الإبلاغ يعني أن لا يد لرئيس وزراء العراق في الاعتراض أو الموافقة على هذا الهجوم الذي يتم على أراضي البلد الذي يتحمل مسؤولية حكمه.
ولعل الرسالة الأكبر كانت أن الصواريخ الإيرانية لم تؤد، على الأغلب، إلى مقتل أي جندي أمريكي، والنتيجة أن الإيرانيين يمكنهم القول إنهم قاموا بالرد على عملية الاغتيال، وأن «العملية انتهت»، على حد قول وزير الخارجية جواد ظريف، تاركين للقيادة الأمريكية، أيضا فرصة الهبوط عن شجرة التصعيد، وبذلك تنجو إيران من ضربة انتقامية أمريكية كبيرة محافظة على «ماء الوجه» أمام شعبها ومؤيديها، كما تنجح إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في استيعاب ردود الفعل على عملية اغتيالها لسليماني وتوقف التصعيد الذي يفتح الاحتمالات على حرب لا ترغب في خوضها كونها لا يمكن السيطرة على احتمالاتها في السنة التي تشهد انتخابات رئاسية أمريكية جديدة.
بغياب فزاعات «القاعدة» و«الدولة الإسلامية» (التي كان لسياسات إيران وأمريكا دور كبير في نشوئهما أصلا) تراجع توافق الاستراتيجيتين الأمريكية ـ الإيرانية الذي دشنه احتلال العراق عام 2003 وتصعدت أسباب الخصومة والصراع، خصوصا في ساحة العراق الملتهبة، والتي تملك إيران فيها نفوذا هائلا، ولكن اغتيال سليماني والرد الإيراني «المتناسب» يعني أن المعادلة التي كانت طهران تستفيد منها نتيجة استيعاب الولايات المتحدة الأمريكية لضرباتها وهجمات أذرعها وتمددها في بلدان ومناطق عديدة قد تبدلت، وأن على إيران، من الآن فصاعدا، أن «تستوعب» الردود الأمريكية عليها، وليس العكس.
لا يعني هذا أن إيران ستستكين لكنها في طرق اشتباكها و«تسوياتها» مع الولايات المتحدة الأمريكية ستقوم بالصرف من الرأسمال العسكري الإقليمي الذي راكمته خلال عقدين من الزمن، وسيدفع العرب وبلدانهم، بالتالي، ثمن هذه «المفاوضات» بين الطرفين.
القدس العربي