ان عملية اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني ومعه أبو مهدي المهندس نائب قائد الحشد الشعبي دفع الحالة الإيرانية الأمريكية نحو صدام مباشر. لقد فتح الاغتيال بابا لا يبدو أنه سيغلق بسهولة، كما أضر الاغتيال بحراك الشعب اللبناني والشعب العراقي لأنه خلق حالة من الاستقطاب فرضت نفسها، على الأقل مرحليا، على كل الأطراف.
الأهم في العملية الأمريكية انها لا تقل في المعنى عن قيام إيران، على سبيل المثال، باغتيال مستشار مجلس الأمن القومي الأمريكي أو نائب الرئيس أو قائد القوات المشتركة الأمريكية. لو وقع الاغتيال لقائد ميليشيا او مسؤول إيراني آخر ربما لكانت إيران ستتجاوزه، لكن قيام دولة باغتيال شخصية رسميه رئيسية (الشخص الثاني في إيران) ثم الاعتراف بذلك علنا وضع منطقة الخليج ومحيطها العربي والإسلامي على صفيح ساخن.
لقد بدأ هذا السيناريو التصعيدي منذ انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي الإيراني في 2018، ومنذ تفعيل العقوبات على إيران ومنعها من تصدير النفط في صيف 2019. لقد أدى الحصار الاقتصادي الأمريكي المفروض على إيران لردود فعل متباينة من قبل إيران كان مسرحها عدة مناطق ومواقع في النصف الثاني من العام 2019. على سبيل المثال: حادثة قصف شركة أرامكو السعودية وتفجيرات مختلفة تنسب بشكل مباشر أو غير مباشر لإيران ضد بوارج وسفن في منطقة الخليج. مع مرور كل يوم اتضح بأن استمرار العقوبات ومنع تصدير إيران للنفط سيدخل المنطقة في أزمات ومواجهات عسكريه، فإيران تتراجع عن الاتفاق النووي، ولن تقبل بمنعها تصدير النفط نهائيا، خاصة وأن إيران لم تقم من جانبها بخرق الاتفاق.
سيبقى التكهن أساس محاولة توقع طبيعة الرد الإيراني في المرحلة المقبلة. ربما يكون العراق هو المسرح الأكثر سهولة للرد خاصة بوجود أكثر من 5000 جندي أمريكي. لكن الرد لن يقتصر على العراق، فهو ممكن في افغانستان حيث تتبوأ إيران دورا رئيسيا، لكنه ممكن في عموم المنطقة العربية ومنطقة الخليج. إن الرد الإيراني سيستهدف العسكريين الأمريكيين، إضافة إلى إثارة قضية القواعد الأمريكية في عموم المنطقة، وهذا قد يعرض قواعد بعض الدول لضربات. هذا سيتوقف على مدى انكشاف تلك القواعد وطبيعة علاقة إيران بتلك الدول. وقد يتضمن الرد الإيراني إطلاق حرية التصرف لعدد من المجموعات المرتبطة بها بصورة غير مباشرة وذلك كما كان الوضع في ثمانينيات القرن العشرين أثناء الحرب العراقية الإيرانية.
إن العراق الذي كان يجب أن يكون مركزا للنفوذ الأمريكي بسبب حرب 2003 أصبح مركزا للصراع الإيراني الأمريكي، والأكثر وضوحا أن الاستراتيجية الأمريكية كانت منذ 2003 إستراتيجية فاشلة في التعامل مع العراق
لكن يجب أن ننتبه أن الرد الإيراني لن يكون مغامرا، فهو سيأخذ بعين الاعتبار عدم القيام بعمل عسكري كبير يؤدي لردة فعل أمريكية مدمرة تؤثر على أمن النظام السياسي الإيراني. لهذا سيبقى سقف الرد الإيراني مرتبط بعدم تعريض النظام لخسائر كبرى، فهو سيتحمل ضربة متوسطة الحجم وقد يستغلها سياسيا لأبعد الحدود. إن الهدف الإيراني الراهن واضح: العودة للاتفاق النووي ورفع العقوبات المفروضة على إيران.
الرد الإيراني سيقع في إطار السعي للحفاظ على حالة الوحدة الوطنية والتعاطف الداخلي التي أعادت للنظام جانب من شعبيته. هذه الحالة الشعبية أحيت في الإيرانيين نزعة الاستقلال والكرامة الوطنية. إن إيران تعيش حالة وطنية ستخدم النظام في معركته القادمة لرفع العقوبات. هذا الوضع يتناقض جذريا مع ما وقع في إيران منذ شهور من صدامات مع النظام من قبل متظاهرين ومحتجين ومعارضين. وقد نتج عن تلك الصدامات ما لا يقل عن 1500 قتيل.
والأهم في الرد الإيراني هو الجانب السياسي الإقليمي والدولي، بل سيسعى النظام الإيراني لاستغلال التعاطف الذي اكتسبته إيران بفضل عملية الاغتيال، وهذا سيقود إيران باتجاه استغلال الفجوة القائمة بين الولايات المتحدة وأوروبا والصين وتركيا وروسيا. لننتبه بأن تركيا تبني قواعد عسكرية وتقوم بتنسيق أمني عسكري خارج أراضيها، وأن الصين بنت قاعدة عسكريه في جيبوتي، وروسيا في حالة تقدم في عموم منطقة الشرق الأوسط. ويجب التنبه إلى أن الرد الإيراني سيأخذ بعين الاعتبار النزاع الداخلي الأمريكي الأمريكي والحملة الانتخابية الأمريكية والمقدرة على إضعاف الرئيس ترامب في الميزان العام للحملة الانتخابية. هذه معركة ستخوضها إيران، ولديها أن إدارتها باحتراف فرصة تحقيق مكاسب رئيسية قبل نهاية العام 2020.
لقد فقدت الولايات المتحدة ثقة دول الخليج على مستويات عدة، فسياسة تصفية قاسم سليماني بهذه الطريقة خير تعبير عن مأزق ترامب في الولايات المتحدة، كما أن هرولته نحو صفقة القرن ودعم القوى الصهيونية دليل آخر على مدى المأزق الذي تمر به الدولة الكبرى. ويوضح اعتراف ترامب بالمستوطنات في الضفة الغربية ونقله للسفارة للقدس مدى البؤس الذي وصلته السياسة الأمريكية الراهنة. وتمثل أزمة الخليج وحصار قطر هي الأخرى دليل على عدم الثقة، خاصة مع تركيز الرئيس ترامب على جني الأموال والمبالغ لقاء الحماية. إن ردة الفعل الأمريكية على قصف إيران لأرامكو لم تكن ردة الفعل المتوقعة. لقد بدأ الخليج ينتبه الى أن ترامب قد يفاوض إيران في لحظة ما تاركا الحلفاء في الخليج بلا غطاء.
إن العراق الذي كان يجب أن يكون مركزا للنفوذ الأمريكي بسبب حرب 2003 أصبح مركزا للصراع الإيراني الأمريكي، والأكثر وضوحا أن الاستراتيجية الأمريكية كانت منذ 2003 استراتيجية فاشلة في التعامل مع العراق، بل يمكن القول بأن فشل الولايات المتحدة هو الذي دفع بالعراق للاعتماد على إيران. إن صعود قاسم سليماني بالأساس في العراق ثم موته في العراق لم ينبع سوى من فشل السياسات الأمريكية في عموم الشرق الاوسط.
شفيق الغبرا
القدس العربي