إذا كانت تركيا تتدخل في إدلب من منطلق مؤازرة المعارضة السورية في معركتها ضد النظام السوري، فإن التساؤل البديهي سيكون: وهل إدلب أكثر أهمية من ريفي دمشق وحمص ودرعا بالنسبة للمعارضة؟ فمناطق خفض التصعيد الثلاث الأخرى، التي كانت أيضا برعاية أنقرة كـ»دولة ضامنة» كانت تمثل أهمية استراتيجية تفوق إدلب، بالنسبة لمن يفكر بمنازعة النظام في دمشق.
لذلك، فإن الاهتمام التركي بإدلب متعلق بشأن يمس تركيا قبل أصدقائها من «المعارضة المعتدلة»، كون إدلب محافظة حدودية، وهو يدور حول قلق تركيا من تدفق مئات الآلاف من النازحين السوريين للأراضي التركية مجددا، أي القلق من تدفق «المهاجرين لأرض الأنصار» باللغة التي استخدمتها الرئاسة التركية، في بداية الأزمة السورية، قبل أن يصبح الوجود السوري في تركيا أزمة سياسية كبرى في البلاد، وورقة للتنافس الانتخابي، بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، قبل غيره، بحيث وصلت نسبة الراغبين بعودة النازحين السوريين لبلادهم، لأكثر من 60% من جمهور حزب العدالة ذي الميول الإسلامية، حسب إحصائيات صدرت من مركز أكاديمي تركي .
وبتحول كبير من لغة «المهاجرين والأنصار» أصبحت خطابات قادة حزب العدالة والتنمية، ترتكز على إعادة السوريين لبلادهم، وهو ما شدد عليه أردوغان نفسه أكثر من مرة، وما توعد به رئيس الوزراء السابق والمرشح لبلدية إسطنبول بن علي يلدريم، في حملته الانتخابية، مستخدما عبارات أثارت استفزاز السوريين، بالحديث عن مبالغات، مثل «تخوف العائلات التركية من التجول في الليل في إسطنبول خوفا من النازحين السوريين». قضية تقليص الوجود السوري في تركيا، أصبحت مطلبا تركيا عاما، بعد أن كانت مطلبا يتعلق بأحزاب المعارضة وجمهورها فقط، لذلك باتت مسألة إدلب تمثل قلقا داخليا بالنسبة لتركيا، كونها تهديد بملايين أخرى من النازحين. وزير الدفاع التركي، أعلن صراحة عن أهداف بلاده، الدفع بالتعزيزات العسكرية ونقاط المراقبة في إدلب، وقال قبل أيام قليلة، إن الهدف الأول من الوجود العسكري لبلاده هو منع تدفق النازحين، كما تحدث الرئيس أردوغان عن هذا الهاجس في عدة خطابات مؤخرا.
مأزق المعارضة الأهم في سوريا، أن حلفائها وبينهم تركيا، ليسوا مستعدين للموت في سبيل الدفاع عن الأراضي المحررة من النظام
ولعل السياسات التركية في إدلب تمنحنا جوابا على سبب التصعيد التركي هناك، إن كان خوفا من تقدم النظام وسيطرته على مزيد من الأراضي، أو خوفا من تدفق النازحين كنتيجة لتقدم النظام، فالقوات التركية المتواجدة في نقاط المراقبة، وعلى مدى شهور طويلة من هجمات النظام السوري على إدلب، سيطر فيها على نصف مساحة المحافظة، وأهم مدنها، ودمر العشرات من القرى وقتل المئات من المدنيين وعناصر المعارضة، وسط كل هذا، لم تشتبك القوات التركية في إدلب مع قوات النظام نهائيا، إلا بعد مقتل الجنود الأتراك تحديدا، أي أن الأمر يتعلق بتركيا مجددا، وليس بأصدقائها من المعارضة وأراضيهم التي يلتهمها النظام يوما بعد يوم، ويحاصر نقاط المراقبة التركية التي تراقب.
وفي ضوء هذه السياسات التركية في إدلب، فإن روسيا ووفق تسريبات، اقترحت على تركيا ما يلبي أهدافها مباشرة، وهو الاحتفاظ بشريط حدودي بين إدلب والحدود التركية، يحتوي النازحين قبل دخولهم للأراضي التركية، وهذا الشريط «الآمن» الممتد من أطمه إلى دركوش، هو عمليا ومنذ سنوات، موطن العشرات من مخيمات النزوح الضخمة للسوريين، ويبدو أنه سيكون محور النقاشات المقبلة بين أنقرة وموسكو، كحل يطمئن الاتراك من مشكلة النازحين، ويضمن بالمقابل للنظام وحلفائه في طهران وموسكو، السيطرة على مدينة إدلب، آخر معقل للمعارضة السورية. كما أن هذا الشريط، سيمثل حلا لعناصر «تحرير الشام» وحلفائهم الجهاديين من التركستان وغيرهم، كونه «المنفى الأخير» الذي يمنح الجهاديين ملجأ، بعد حصار النظام المرتقب لإدلب، ففي كل منطقة كانت تتم محاصرتها كان يوجد دائما «منفى»، فقد خرجت المعارضة من حلب ودوما وداريا وريف حمص ودرعا إلى مناطق إدلب ودرع الفرات، ولأن الجهاديين غير مرغوب فيهم في مناطق درع الفرات ذات الهيمنة التركية، فإنهم قد يضطرون للاندماج بعائلاتهم وبالمدنيين النازحين في هذا الشريط الآمن للنازحين، لكن من دون سلاحهم هذه المرة، فهذا الشريط إن تم الاتفاق عليه، سيكون آمنا للنازحين وللنظام السوري في الوقت نفسه بضمانة تركية ورعاية روسية.
هذا السيناريو يبدو مرشحا للتطبيق، ولا تملك تركيا الرغبة ولا القدرة على مواجهة عنيفة مع شركائها في أستانة وسوتشي، إيران وروسيا، بالصدام مع النظام في سوريا، ويبدو مقتل ما يربو على 17 جنديا تركيا في إدلب حتى اليوم، بقصف قوات النظام، مؤشرا على تزايد المأزق التركي في إدلب، الذي يضيف للمعارضة المتحالفة معها مأزقا جديدا، خصوصا مع المحاولة الثالثة الفاشلة للهجوم على بلدة النيرب، وهو الهجوم الذي تم بدعم لـ»الجيش الوطني» من دون مشاركة برية من القوات التركية، كما أشيع، بل إن المرميات والمدرعات التركية تتواجد بحوزة «الجيش الوطني» منذ معارك نبع السلام الأخيرة، وهي تقاد من قبل عناصرهم وليس جنود القوات التركية.
ويبقى مأزق المعارضة الأهم في سوريا، أن حلفائها وبينهم تركيا، ليسوا مستعدين للموت في سبيل الدفاع عن الأراضي المحررة من النظام، بينما تقاتل إيران وميليشياتها مع النظام حتى الموت، في سبيل استعادة سيطرة الأسد، وليس هذا تآمرا تركيا، كما يطلق عليه البعض من النشطاء، بل هو الممكن والأولوية بالنسبة للأمن القومي التركي، الذي لا يبدو انه يتقاطع كثيرا مع مصالح المعارضة السورية، إذ يبدو أن الاهتمام بإدلب متعلق بقضية تخص تركيا تحديدا، قبل معركة المعارضة مع النظام، والأهم أنه يبدو متأخرا جدا، بعد ضياع معاقل المعارضة المشمولة بالضمان التركي، كمناطق خفض تصعيد في دمشق ودرعا وحمص.
وائل عصام
القدس العربي