في “معسكرات كورونا”.. انس عواطفك الجياشة أو أجّلها على الأقل

في “معسكرات كورونا”.. انس عواطفك الجياشة أو أجّلها على الأقل

تعيش مختلف المجتمعات، دون استثناء، وضعا جديدا فرضه وباء كورونا. وجدت البشرية، بكل ثقافاتها ومعتقداتها، نفسها تعيش أحداث فيلم هوليوودي. ينتشر وباء غامض ويتحدى أعتى العلماء والجيوش. يفتك بالملايين. يغير من طبائع البشر. وتعجز أمامه مختلف الأنظمة. للحظة يتداخل الدرامي مع الواقعي. يصاب الناس بانفصام، هل ما يعيشونه حقيقة؟ العالم كله تغيرت عاداته ويومياته، أكثر من ثلث سكانه محبوسون في منازلهم خوفا من هذا الوباء الذي يترصدهم في الخارج.

أيها الناس.. كيف تحبون وتتزاوجون وتتكاثرون حين تجتاح العالم أوبئة وحروب، وتعصف به أزمات اقتصادية وسياسية؟ أيتها المرأة ويا أيها الرجل يا من جعل الله بينكما مودة، وألفة تسكنان إليها.. هل فكرتما يوما أن طارئا قد يحدث ويقلب الموازين في تلك العلاقة التي تظنانها أبدية لا تتغير، فيستحيل ما كان ممكنا ومتاحا، إلى أمر هو غاية في التعقيد والغرابة، والخروج عما كان مألوفا وروتينيا في حياتكما العاطفية والزوجية؟

بين الواقع والخيال
يتبادر للذهن، أول وهلة، أن هذا التساؤل لا يطرحه إلا المهووسون جنسيا أي أولئك الذين ينشطون خيالهم بحثا عن الطرافة والغرابة والإثارة في سبيل ابتكار نكتة مسلية وعابرة.

الحقيقة أن الخيال في عصرنا، بات يركض خلف الواقع ولا يدركه، ذلك أن العلم أصبح يصنع نوعا مما كان يسميه البشر بـ”الفانتازيا”، ويصنفه النقاد والدارسون بـ”السوريالية” أو “الواقعية السحرية” كمصطلح راج مع أدب أميركا اللاتينية، ذي النزوع الجانح نحو الغرابة وتوقع ما لم يكن متوقعا.

الأزمات كفيلة بتغيير ثقافات الشعوب في المأكل والمشرب والملبس والمسكن، وربما مرة واحدة وإلى الأبد فلا يكاد المرء يتذكر شيئا مما كان يمارسه قبل أي جائحة، خصوصا تلك التي تدوم طويلا، ذلك أن الذاكرة البشرية تتميز بـ”النكران والجحود” في حالات الخوف والهلع، وتصنع لنفسها آلية دفاع تتمثل في متلازمة التكيف والنسيان.

طلب المودة قد يصبح انتقاما وعقوبة في أزمنة الخوف والتوقي.. ألم يتحول الجنس إلى نقمة أول ظهور الإيدز، ورافق كل علاقة حميمة نوع من التوجس المفسد لأي شعور بالمتعة بين الجنسين؟ وبرزت، وقتها، للناس قصص وأفلام وغرائب وطرائف، تتناول حالة ما يخفيه ذلك العدو اللامرئي، والمتسبب في فقدان المناعة المكتسبة.

نعم، وكما أثبت الطب، فإن الجهاز المناعي، نفسه، قد ينهار تماما ويُشل أمام حالات الهلع فيرفع راية الاستسلام.. أليس الموت، كما ورد في بحوث علمية، هو إعطاء الجهاز العصبي للجسد أمرا بالفناء، وذلك لتفادي الألم حين يتجاوز سقفه؟

العالم العربي اكتفى بالحظر الصحي مع وباء كورونا، واستسلم للكسل والنوم، بينما يمارس العالم المتطور أبحاثه وهو في حالة حظر من خلف الكمامات وأنابيب الاختبار

هذه “الرأفة” بالجسم المصاب -ووفق ما ذهبت إليه الأبحاث القائلة إن العقل يعطي إيعازا بالاستسلام وفق آلية دفاعية معقدة- لم تأت من شريك في الحياة، وإنما من شخص المصاب نفسه. وبناء على ما سبق ذكره، فإن الشريك في الحياة الزوجية أو أي علاقة حميمة، لن يكون أكثر رأفة بك من شخصك وفق المنطق البيولوجي للجسد الإنساني، إذ سيستسلم لمنطق العلم، وينسى الاعتبارات العاطفية السائدة قبل اندلاع الأزمة.

الحث على تجنب الاختلاطات والملامسات والقبلات مع ظهور وباء كورونا، قد يبدو في ظاهره مجانبا للطبيعة الإنسانية التي تنشد الوئام وتروم التعبير عن مشاعرها بلغة حسية، لكن مقتضى الحال يفرض نوعا من الصرامة القاسية، والتي تبدو خالية ومجردة من روحها الإنسانية، كأن لا يحضن الواحد أطفاله أو يقبل من يحب أو يحتفل ويرقص في عرس صديق أو قريب.

الامتثال لمنطق الحظر يقول لك “انس عواطفك الجياشة أو أجلها على الأقل” لكنك سوف تتهم هذه المعادلة بالقسوة والتنكر لأنبل المشاعر التي خلقنا من أجلها.. طيب فلتقض على نفسك وكل من حولك إذن.. هذا ما سيرده عليك العلم الذي يسعى جاهدا إلى “إراحتك عبر حرمانك من بعض راحتك”.

البشرية -ومن هذا المنطلق- يحكمها عقد خفي مبرم وقد يكون معلنا وهو السعي والحرص على استمرار العنصر البشري ولو كلفها ذلك التضحية بقسم منها. إنها تسلك طريقا “دكتاتورية” بل وتستخدم حتى طرقا فاشستية يبيحها العلم الذي وظفته كخادم لها، لكن هذا “الخادم” قد يصبح -بشكل من الأشكال- أشبه بالصنف الألماني من “الكلب الراعي”، والذي قد يهاجم حتى صاحب قطيع الأغنام إذا همّ بذبح خروف من خرفانه، ذلك أن آلية الدفاع المتأصلة فيه بالغريزة، قد تعمي بصيرته، وتغيّب لديه ملكة التفريق والتقدير واستنباط المواقف والأحكام.

العلم يمارس نوعا من القسوة باسم خدمة البشرية، وهو نوع من “الفرانكشتاينية” في نظر الذين يضعون الإنسانية هدفا مطلقا ووحيدا.. ولكن، مهلا.. أليست هذه النزعة في حد ذاتها ضربا من ضروب الأنانية المقيتة والدكتاتورية القاتلة التي تشبه سلوكا انتحاريا؟

الأمر يذكر بفيلم “الرجل المدمر”، قام ببطولته الأميركي سيلفستر ستالون، ويتحدث عن رجل يستيقظ من براد التجميد بعد عقود من الزمن، ويتعامل مع الواقع الذي تغير كثيرا بفعل العلم واحتياطاته، وكأنه البارحة.يستلطف شرطية ثم يتطور الأمر بينهما إلى الدعوة لإقامة علاقة حميمة. تتجاوب معه فترتدي خوذة لتعطيه هو خوذة ثانية. يستغرب هذا ويسألها عن جدوى ذلك فتجيبه “لأداء المهمة”.. عجبا هل صارت الخوذة تعوض الواقي الذكري؟ قالت الشرطية التي سبقت البطل الذي كان متجمدا بمئتي عام: لم يعد البشر يلمسون بعضهم بعضا خوفا من التلوث والأمراض.. إن الأمر صار يتم عبر المجسات المعنية في الدماغ وتحريضها لأداء المهمة.

يمتعض البطل مما آلت إليه البشرية أثناء فترة تجميده، وبعد جملة أحداث تشوبها الإثارة والتشويق والطرافة المبنية على ما وصلت إليه البشرية من غرابة باسم العلم الذي نصب نفسه وصيا ومدافعا عن الإنسانية من الأوبئة والأمراض، تطيح الشخصيتان بالخوذ، وتعود البشرية إلى سليقتها في انتصار للطبيعة الإنسانية التي تحن -أبدا- لبداياتها ولحظاتها الحميمية المعبرة عن شتى المشاعر التي لا ينبغي أن تنقرض.

هذا التجميد الذي تعرض إليه البطل في فيلم “الرجل المدمر”، ألا يشبه فترة الحجر الصحي التي نعيشها اليوم اتقاء لوباء كورونا، وإن اختلفت المسافة الزمنية؟ ألم يخطر ببال أحد منا أن يخرج يوما من إقامته الجبرية في بيته ليجد العالم مختلفا عما تركه؟

قد تختلف الظروف والشروط والملابسات، لكن في الأمر تشابها صارخا يبلغ حتى التطابق، لو فكر الواحد في الحيثيات والدوافع رغم حضور الوعي الذي تحفظه وسائل الإعلام والتواصل، لكن هذه الأخيرة لا تغير في الأمر شيئا إن كان الواحد مجمدا في براد أو محبوسا في بيته.

ألسنا اليوم أشبه بفتية “أهل الكهف” حين مكثوا في ملجئهم مع كلبهم حقبة طويلة من الزمن اتقاء من ظلم حكام روما ثم استيقظوا وظهروا إلى المدينة وقد وجدوا كل شيء تبدل، حتى أن عملاتهم المعدنية لم تعد صالحة للتناول؟

الفارق أن فتية الكهف قد وجدوا الأمور تغيرت نحو الأفضل، إذا اختفى الحاكم الظالم وسادت عقيدتهم، ولكن مع شيء من الاختلاف وغياب الحماسة التي كانت تختلج قلوبهم زمن “النضال السري”.

قراءة توفيق الحكيم في مسرحيته التي تحمل العنوان نفسه، والتي طرح فيها معضلة الإنسان والزمن، كسؤال وجودي مربك، ذهبت بالأمور نحو إسقاطات حضارية تتناول حال العرب إزاء التطورات الفكرية والعلمية التي أنجزها العالم المتقدم فجعل فتية الكهف يعودون إلى مغارتهم مع كلبهم وقد عجزوا عن مجاراة البشرية والالتحاق بركبها.

“كيف تنامون والشمس في كبد السماء؟” كانت هذه العبارة المدوية للفتى”يمليخا” في المسرحية مع كلبه “قطمير” الذي بدأ بالنباح في وجه رفاقه. الحقيقة أن العالم العربي اكتفى بالحظر الصحي مع وباء كورونا، واستسلم للكسل والنوم، بينما يمارس العالم المتطور أبحاثه وهو في حالة حظر من خلف الكمامات وأنابيب الاختبار.

أما عن العلاقات الإنسانية داخل الأسرة والحياة الزوجية، فزادت -على ما يبدو- احتقانا وتذمرا، ويبدو ذلك من خلال التغريدات والتعليقات التي تمزج الجد بالهزل على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ بدأت تكثر التشكيات و”البوستات” التي تسخر من هذه العزلة وتشبهها بالسجون الانفرادية.

بعض الماكرين كتبوا بأنهم يغبطون نزلاء الزنازين لأنهم بمفردهم دون زوجات، وآخرون لانوا للحوار مع شركائهم تحت سقف الزوجية كما يدعون، لكن الخشية -كل الخشية- أن تكون هدنة هشة، أملتها الحاجة والضرورة، إذ سرعان ما ينفرط عقدها لمجرد انتهاء الحظر، و”عودة حليمة إلى عادتها القديمة”.

الخوف والضجر يلينان المشاعر ويصنعان أرضية مشتركة للتقارب بين شريكين.. إن الأمر يشبه تلك الاتفاقيات الموقعة بين طرفين متحاربين أثناء الكوارث الطبيعية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، وبعيدا عن المماحكات والخلافات الزوجية التي يحلو لبعضهم المبالغة في تهويلها، هو: هل حقا ثمة تصدعات بين رجل وامرأته، تصل حد هذا التذمر، وإن كان التعبير عنه يأخذ في أحيان كثيرة منحى هزليا وساخرا على شبكات التواصل؟

كل شيء مؤجل

هل حقا لا تظهر الخلافات إلا في الأزمات؟ إن ظهرت هذه الخلافات فما هو مصيرها في خضم بدائل محدودة، فحتى مجرد الخروج من المنزل لملاقاة الأصدقاء وتعديل المزاج لم يعد ممكنا، علاوة على أن التقاضي صار شبه مستحيل في ظل هذه الوضعية الحرجة، إذ أصبح “أبغض الحلال” في حد ذاته، حلا صعب المنال.

الدراما الاجتماعية أصبحت مع وباء كورونا، من الماضي، فلا تطورات تحدث خارج الفضاءات المغلقة، وبعيدا عن مؤثرات وأحداث خارجية، فكأنما نحن أمام فصل مكرر من مسرح إيبسن، أو سترنبرغ أو بيكيب، إذ لا شيء يحدث خارج الانتظار والتصعيد النفسي للشخصيات.

كل شيء مؤجل إلى حين التعافي وزوال الكابوس.. تبقى الضغائن كامنة في النفوس إلى حين الانفراج الذي يجود به العلم عبر فتوحاته في إيجاد الدواء. الأمور عالقة في انتظار ما يشبه المعجزة مثل الزلازل والبراكين والفيضانات. فقدت أطراف كثيرة توازنها وشككت في مناهجها ومعتقداتها أو تكاد، إذ رمى ساسة علمانيون كراتهم إلى مجاهل الغيب، وصلى رجال دين داعين أن يلهم الله العلماء قدرات على اكتشاف أدوية والاهتداء إلى أمصال ولقاحات.

العمل من البيت بالنسبة للموظفين وأصحاب الياقات البيضاء أمر ليس سهلا كما كانوا يظنون، ذلك أن الجلوس أمام جهاز الكمبيوتر ببدلة النوم يزيد الكسول كسلا، ويشعره أن الأمر ليس جديا في ثياب رئيس عمل يقف على رأسه كل لحظة.

العاملون بالساعد من عمال الخدمات في المقاهي والمطاعم والفنادق، في عداد العاطلين عن العمل، وكذلك معظم أصحاب الياقات الزرقاء الذين صاروا يشبهون ما قاله محمود درويش “نفعل ما يفعل العاطلون عن العمل.. نربي الأمل”.. إنه حصار من أنكى وأخبث وأدهى أنواع الحصار.

التباعد بين الزوجين ينقي النفوس ويزرع الحاجة إلى الشوق الذي من شأنه أن يطهّر القلوب، لكن في حالات التماهي والاندماج والاختلاط، ينفّر الأمزجة ويجعلها أكثر حدة وأقل تسامحا.

ما ألطف زوجة تعد الطاولة وتنتظر زوجها للعشاء، ما أبهج أطفالا يركضون إلى الباب لاحتضان أب محمل بالهدايا الصغيرة، وما أتعس مدبرة منزل تتحرك تحت مراقبة أهل البيت في كل لحظة.

الأحضان والقبلات تفقد دفئها في أيام الحظر الصحي.. عفوا، عن أية أحضان وأية قبلات يتكلم المرء.. لقد أصبح جميع أفراد الأسرة مثل طاقم طبي في غرفة عمليات.. الجميع يتخاطبون من خلف كمامات ويغسلون أياديهم في كل دقيقة.

صلاة الجماعة بدورها، تعطي نوعا من اقتسام اللحظات الروحية مع الآخرين في المساجد والكنائس وجميع دور العبادة، أصبحت اليوم مصدرا للتوجس والخوف والإحساس بالابتعاد عن الله.

الأمل في عودة الحب والوئام يجب أن يظل قائما ولو بعد وقت طويل لأن قدر البشرية أن تبقى محكومة بالأمل، وهو ما يذكر برائعة غارسيا ماركيز “الحب في زمن الكوليرا”. وتتحدث الرواية عن شاب لا يمل ولا يكل عن حب فتاته التي تعاهد معها على الإخلاص، وظل يمطرها بالرسائل بعد وفاة زوجها وهي في السبعين، رفضته بقوة في البداية ثم لان قلبها حين اقتسمت معه تلك التأملات التي يكتبها لها في الشيخوخة والحياة.

لنقاوم كورونا حتى بالبكاء على مصائرنا، واقتسام أوجاعنا مثل عشاق لا يملون العشق أبدا.

العرب