شبح ميركل يطارد ماكرون

شبح ميركل يطارد ماكرون

كان يمكن لردّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على دعوة نظيره الأميركي دونالد ترامب لحضور قمة مجموعة السبع، التي كان ينوي الأخير عقدها قرب واشنطن خلال شهر يونيو/حزيران الحالي، عوضاً عن عقدها عبر الفيديو، أن يمرّ بهدوء أكبر لولا مسارعته بالموافقة على المشاركة في القمة، مظهراً غياب التنسيق مع نظرائه الأوروبيين، خصوصاً بعدما أعلنت المستشارة الألمانية رفضها الحضور فيما عاد ترامب ليعلن تأجيلها إلى سبتمبر/أيلول المقبل.
وبدا ماكرون متسرّعاً في 20 مايو/ أيار الماضي بقوله لترامب إنه “مستعدّ للحضور إلى كامب ديفيد”، منتجع الرئيس الأميركي المقترح كمكان للقمة، “إذا ما سمحت الظروف الصحية بذلك”، حسبما نقلت عنه وكالة “فرانس برس”. واستتبع ذلك بتأكيده لترامب يوم الخميس الماضي حضوره، وكرر موقفه أول من أمس السبت مع إضافة عبارة “حضور الجميع”.
تحوّل ماكرون جاء بعد إعلان المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، رفضها الحضور شخصياً إلى الولايات المتحدة لعقد اللقاء، وفق ما أعلن المتحدث باسم الحكومة الألمانية، شتيفن زايبرت، لموقع “بوليتيكو” الأميركي. وهو جوابٌ كان كافياً، كما يبدو، لإغضاب ترامب، الذي قرّر تأجيل القمة حتى سبتمبر المقبل “على الأقل”، واصفاً مجموعة السبع، في صيغتها الحالية، بأنها “مجموعة عفا عليها الزمن”. ودعا إلى ضم بلدان جديدة إليها، مثل روسيا وأستراليا وكوريا الجنوبية والهند.


ميركل تبدو رافضة الوقوف إلى جانب رئيس أميركي غارق


وعلى الرغم من أن ميركل علّلت رفضها الحضور إلى واشنطن بالظروف الصحية، إلا أنه يمكن قراءة هذا التعليل بوصفه غطاءً دبلوماسياً لخيار سياسيّ متمثّل في رفضها منح ترامب ما يبحث عنه من عقد القمة، قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية الأميركية. وبعكس ماكرون، فإن ميركل تبدو رافضة الوقوف إلى جانب رئيس أميركي غارق في وحول سياسية داخلية (ملف العنصرية) ودولية (ملف وباء كورونا، قطع الدعم لمنظمة الصحة العالمية..).

هذا التباين بين موقفي ماكرون وميركل لم يمرّ مرور الكرام في فرنسا، التي بات من المعتاد فيها في الأشهر الثلاثة الماضية، مقارنة أداء الرئيس الفرنسي وخياراته بأداء وخيارات المستشارة الألمانية في الملفات المشتركة. فكتب الصحافي جان كاترميه، المختص بالشؤون الأوروبية، على حسابه في “تويتر”: “إيمانويل ماكرون يستعجل، أما أنجيلا ميركل فتتخلص من الدعوة بمهارة. والحق معها: إذ لا فائدة من الحديث مع ترامب الذي يتقصّد تدمير النظام الدولي”. من جهتها، علقت النائبة في البرلمان الأوروبي عن حزب “أوروبا البيئة ـ الخضر”، كريمة دلي، ببساطة: “بعكس ماكرون، ميركل ترفض دعوة ترامب”، وهو العنوان الذي وضعته النسخة الفرنسية من “هافنغتون بوست” في مقال لها حول هذا الموضوع.

ويشير منتقدو الرئيس الفرنسي إلى غياب موقف محدّد لسياسته الخارجية، وإلى تعامله بلغة واحدة مع صانعي سياسات شديدي التناقض، ويرغب في البقاء صديقاً لهم جميعاً. ويجد هذا الامّحاء لموقف فرنسي رسميّ تعبيراً له في رغبة ماكرون المستمرة في العمل ضمن أطر جماعية، وفي اللحاق بركب الشركاء الدوليين. وهو أمرٌ لم يعد يشكل تخميناً أو قراءةً صحافية، إذ أكده القصر الرئاسي الفرنسي أول من أمس السبت، حين نُقل عن ماكرون قوله إنه يرغب بالحضور إلى واشنطن في حال “حضور الجميع”. ورغم إعلان ميركل، قبل أيام، أنها “ستكافح في سبيل العمل في إطار جماعي”، إلا أنها تختلف عن ماكرون بعدم ربطها الموقف الألماني بموقع دوليّ لا وجود له بعد.

وعلى أي حال، فالاختلاف الفرنسي الألماني في التعاطي مع دعوة ترامب ليس إلا نموذجاً جديداً من الاختلاف الذي أظهرته، أكثر من أي وقت مضى، سياساتهما إزاء وباء كورونا. وقد بات هذا التباين، في الأسابيع الماضية، مادة غنية للصحف الفرنسية، التي احتوت على تحقيقات ومقالات مطولة حول “الأسرار” التي تسرد حكاية النجاح الألماني في مواجهة الوباء، حتى من دون عزل كامل للسكان، في حين لم تنجح فرنسا في تأمين ما يكفيها من الكمامات الواقية، وظهرت أضعف بكثير من الصورة الفخورة التي كانت تعطيها عن مؤسساتها العامة ونظامها الصحي.

المقارنات لم تتوقف عند الفروق البنيوية بين البلدين فحسب، بل تمحورت حول المنطق المختلف لكلّ من الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية. وفي حوار مع موقع “ميديابارت”، وصف المؤرخ المختص بالتاريخ المعاصر، جوهان شابوتو، الاختلاف بين الخطابين بالعبارة التالية: “تتحدث ميركل إلى بالغين، مواطنين عقلانيين. التباين مع فرنسا شديد الوضوح، حيث يبدو الخطاب وكأنه موجه إلى أطفال”. وأضاف شابوتو: “في فرنسا، يجري إخفاء ضعف الحكومة، وهو ضعف ملموس وواقعي، بعبارات طنانة سخيفة. لقد قال ماكرون: إننا نخوض حرباً ضد وباء كورونا، وهو ما ردّ عليه الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، بهدوء وحزم، بالقول: لا، ما نعيشه ليس حرباً”.


يشير منتقدو الرئيس الفرنسي إلى غياب موقف محدّد لسياسته الخارجية


هذا الفرق بين المنطقين المختلفتين، عادت صحيفة “لوموند” وأشارت إليه، في تقرير مطوّل حول الاختلاف بين الديمقراطيتين الفرنسية والألمانية، نشرته يوم الجمعة. وقد وضع كاتب التقرير، توماس فيدر، مراسل الصحيفة في ألمانيا، يده على المشكلة نفسها، المتمثلة في اختلاف طريقة التفكير بين ماكرون وميركل. “التباين بين ميركل وماكرون مدهش. ففي الوقت الذي قررت فيه المستشارة الأميركية مواجهة الفيروس بوصفها عالِمةً، اختار الرئيس الفرنسي مواجهته كزعيم حرب”. وهو منطق لم يجنّب ماكرون الاتهامات بالسخافة في ألمانيا، ونقل فيدر عن المعلق الصحافي ماركوس ديكر قوله: “ماكرون يجعل من نفسه مدعاة سخرية. لا بد أن لاجئي إدلب سيكونون سعداء بالعيش في حرب كهذه”، أي في حرب مع فيروس، وليس مع جيش فعلي.

باتت المقارنات مع ميركل أشبه بكابوس يطارد الرئيس الفرنسي في الآونة الأخيرة، خصوصاً أنها تبدو محسومة لصالح المستشارة الألمانية. وبعد أن كان الخلاف بين الزعيمين مقتصراً على المختصين والعارفين في الأمور السياسية والدبلوماسية، جاءت أزمة كورونا وحوّلت التباين إلى قضية عامة، بات أغلب الفرنسيين واعين لها. ولم يكن استطلاع معهد “إيفوب” و”ريبيوتايشن سكود”، الذي نُظّم في الأسبوع الأول من مايو/ أيار الماضي، حول رأي الناس في أداء الزعماء الدوليين، إلا مثالاً على هذا. ففي ردّ على سؤال “أي من الزعماء التالين يتصرف انطلاقاً من المصلحة الخاصة ببلده؟”، جاءت ميركل في رأس القائمة، حاصدةً 39 في المائة من آراء المستطلعين الفرنسيين، في حين لم يحصل ماكرون إلا على 14 في المائة. وحول السؤال: “أيّ من الزعماء ينال ثقتكم بقدرته على جعل العالم يتقدم في المسار الصحيح؟”، حلت المستشارة الألمانية أيضاً في رأس القائمة، مع 37 في المائة من الآراء، في حين نال ماكرون 16 في المائة.

العربي الجديد