في القرن 18 برز العديد من المفكرين الفرنسيين الذين ألهموا الثورة الفرنسية 1789- 1799م ومنهم فرانسوا ماري أرويه المعروف باسم فولتير، وجان جاك روسو، ومونتسكيو، ودنيس ديدرو، وقد شجعت أفكارهم الثورية الجماهير الفرنسية على “القتال” من أجل حقوقهم، كاشفين عن عدم كفاءة الملك وحكومته.
وأثار هؤلاء الفلاسفة وغيرهم الشعب لتحدي السلطة عبر كتاباتهم، وهاجم فولتير الكنيسة الكاثوليكية وآمن أن “مصير الإنسان بين يديه وليس في الجنة”. وشجعت أفكاره الناس على القتال ضد امتيازات وهيمنة الكنيسة، واعتبر الفيلسوف الفرنسي رمزاً لعهد التنوير، وذاعت شهرته بسبب سخريته الفلسفية الظريفة ودفاعه عن الحريات المدنية وخاصة حرية المعتقد.
وتركت أعماله وأفكاره بصمتها الواضحة على مفكرين مهمين تنتمي أفكارهم إلى الثورتين الأميركية والفرنسية. وكان فولتير كاتبا غزير الإنتاج، حيث قام بكتابة أعمال في كل الأشكال الأدبية تقريبا، من المسرحيات والشعر والروايات إلى المقالات والأعمال التاريخية والعلمية، إضافة إلى أكثر من 20 ألفا من الرسائل.
لكن هذه الصورة “الناصعة” ليست كل الحقيقة، فبحسب تقرير لمجلة فورين بوليسي الأميركية كان الفيلسوف الشهير عنصريًا ومعاديا للسامية وألهم الزعيم النازي هتلر.
الوجه المظلم
قال تقرير المجلة الأميركية، الذي كتبته الصحفية الفرنسية الجزائرية نبيلة رمضان، أنه عندما أزيل تمثال فولتير من خارج الأكاديمية الفرنسية في باريس في أغسطس/آب الماضي، لم يكن أعضاء اليمين المتطرف وحدهم الذين عبروا عن غضبهم، فقد قال معتدلون من جميع الانتماءات السياسية إن كاتب القرن 18 غزير الإنتاج يجب ألا يُمس. في المقابل رش غاضبون كتابات مناهضة للعنصرية على صوره بسبب صلاته بتجارة الرقيق.
كانت اتهامات المسؤولين عن تخريب صوره وتمثاله تؤكد أن فولتير قد استثمر شخصيًا في شركة الهند الشرقية الفرنسية، التي تأسست عام 1664 لاستغلال العالم الجديد، بما في ذلك تجارة العبيد الأفارقة الذين تم بيعهم كسلع من أجل الربح.
كان لدى فولتير الكثير من الأعداء، وكان هناك بالتأكيد العديد من الشائعات مثل الوثائق المزورة التي تربطه بتجارة الرقيق. ومع ذلك، فقد أحب تعريف نفسه بأنه “فيلسوف تاجر” وبالتأكيد قام بتمويل شركة الهند الشرقية الفرنسية بلا شك في أربعينيات القرن 18، عندما ركزت فرقاطاتها المسلحة على الرحلات التجارية إلى أفريقيا.
بالإضافة إلى امتلاك أسهم الشركات، تم توثيق أن فولتير وضع أمواله الخاصة مباشرة في مغامرات نقل الرقيق بواسطة سفن مثل Le Saint-Georges، التي غادرت قادس، إسبانيا، في ديسمبر/كانون الأول 1751 متجهة إلى غينيا، بحسب الكاتبة.
جدل يتجدد
بعد أكثر من 250 عامًا، عاد الجدل حول فولتير إلى باريس، فقد أثارت إزالة تمثاله منتصف الشهر الماضي غضباً، واتهم الكثيرون رئيس بلدية العاصمة بالانحناء لما يسمى ثقافة إلغاء رموز حركة “حياة السود مهمة” الهادفة لإزالة رموز حقبة الاستعمار والعبودية، لكن مسؤولا من مجلس مدينة باريس أكد أن التمثال أزيل مؤقتًا فقط للتنظيف والترميم بعد تعرضه لأعمال تخريب.
ويقول المدافعون عنه إن الفيلسوف -الذي كان يبلغ من العمر 83 عامًا عندما توفي عام 1778- كان ابن زمانه وعصره، ويعتبرون أنه كان من حق فرنسا التنافس مع القوى الإمبريالية الأخرى وخاصة بريطانيا، وإذا كان ذلك يعني أن يشتغل (فولتير) في نظام اقتصادي يتضمن استغلال العبيد من المستعمرات، فليكن ذلك، على حد تعبيرهم.
اعلان
ويعتبر أنصار الفيلسوف الفرنسي أن أفكاره للإنسانية هي التي أوصلت أوروبا لعصر “التنوير” ورفعت العلم والعقل فوق الخرافات و”ظلامية الدين” والملكية، لتصبح الحرية الفردية حجر الزاوية في ثقافة فرنسا العلمانية، وتتحول أسماء فلاسفة مثل فولتير الآن لنماذج للفكر العقلاني والليبرالي.
وتقارن الكاتبة بين الفيلسوف الفرنسي وكل من جيفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتحدة، ورئيس وزراء بريطانيا السابق وينستون تشرشل، الذين كانت لهم مواقف عنصرية صريحة، إذ امتلك جيفرسون العبيد الذين ورثهم من والده، واعترف تشرشل ذات مرة قائلاً “أنا أكره الهنود.. إنهم أناس وحشيون مع دين وحشي”.
وتقول الكاتبة إن الفرق أن جيفرسون وتشرشل لم يكونا من الفلاسفة ولكنهما سياسيان انخرطا في الضرورات العملية وإكراهات إدارة الدولة، مثل خوض النزاعات الكبرى، ويُعتبر تشرشل بطلاً في الحرب العالمية الثانية ويُنسب إليه جزئياً تدمير النازية، في حين صاغ جيفرسون إعلان الاستقلال مما مهد الطريق للحرب الثورية ضد الحكم البريطاني.
في المقابل، كان فولتير فيلسوفاً ومفكراً، وكان له تأثير فكري وثقافي بما في ذلك أفكاره التي كان لها تأثير ضار على عقول القادة التاريخيين، وكانت كراهيته الشديدة للجماعات الدينية كافية بسهولة للتحريض على العنف ضدهم، وأكدت عنصريته البيولوجية أن هناك تدرجات لأشكال الحياة وأن السود جاؤوا في مكان ما بالقرب من القاع، بعيدًا عن “القرود”. وعام 1769 صور فولتير في أحد كتبه الأفارقة على أنهم “حيوانات” ذات “أنف أسود مسطح بذكاء ضئيل أو معدوم”.
تنسب لفولتير العديد من المواقف العنصرية المعادية للأديان والأعراق (مواقع التواصل)
ورأى فولتير النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في البداية أنه متعصب ديني نموذجي، وذلك في مسرحية حملت اسم “محمد” والتي قيل إنها كانت رمزية قصد منها إسقاط على شخصية فرنسية أخرى ليتسنى له تمريرها ويتجنب رقابة الكنيسة، ومع ذلك تراجع فولتير عن رؤاه السلبية عن نبي الإسلام الذي اعتبره في أعمال لاحقة عدوا للخرافات، وأثنى عليه ممتدحاً دينه الذي ليس فيه طلاسم أو ألغاز، ويحرم القمار والخمر ويأمر بالصلاة والصدقة، بحسب كتاب “وجوه محمد: التصورات الغربية عن نبي الإسلام من العصور الوسطى حتى اليوم” للمؤرخ والأكاديمي الفرنسي جون تولان.
ويعود التغير في مواقف فولتير لاطلاعه على ترجمة المستشرق الإنجليزي جورج سيل لمعاني القرآن المنشورة عام 1734، وكتب الأخير في مقدمتها أن نبي الإسلام كان مصلحاً مبدعاً ومناهضاً للكهنوتية، وحرص على إلغاء الممارسات الخرافية مثل عبادة القديسين والآثار المقدسة، وألغى قوة رجال الدين الفاسدين والجشعين.
النازية والعداء للسامية
كان فولتير أيضًا معاديا للسامية، حيث كتب نصوصًا مختلفة تضع اليهود خارج الحضارات العظيمة لليونان وروما القديمة التي أعجب بها. وعلى سبيل المثال، كتب فولتير عن اليهود عام 1771، قائلاً “لقد ولدوا جميعًا بتعصب شديد في قلوبهم، تمامًا كما ولد البريطانيون والألمان بشعر أشقر”.
وكان فولتير نموذجًا لفلاسفة التنوير، الذين قدموا تبريرات مقلقة لكراهية الجماعات العرقية والدينية، وصنعت هذه العنصرية المنهجية تسلسلًا هرميًا علميًا زائفًا للحياة. وأكدت أن المفكرين متشابكون بشكل لا ينفصم مع الإمبرياليين الذين أرادوا قهر وقمع الأجناس التي يفترض أنها عرقياً أقل درجة ومستوى.
لم يكن تأثير هذا التنوير “الشرير” هامشيًا، فقد جرت قراءة كتبه على نطاق واسع في جميع أنحاء أوروبا، بما في ذلك من قبل صديق فولتير “العظيم” فريدريك الثاني ملك بروسيا، وسافر فولتير من باريس للانضمام إلى بلاطه الملكي في بوتسدام عام 1750، في الوقت الذي اعتبر فيه فريدريك الثاني فولتير مرشداً له.
وتقول الكاتبة إنه ليس من الصعب رسم الخط التاريخي الواصل بين معاداة فولتير للسامية، وألمانيا ذات النزعة القومية المتعصبة والعازمة على قتل الأعداء الذين تعتبرهم من دون البشر. من المؤكد أن أدولف هتلر تأثر بالنقاشات بين فريدريك “العظيم” وفولتير حيث صاغ خططه للرايخ الثالث.
وبشكل حاسم، هناك سجلات لمحادثات هتلر الخاصة التي أكد فيها دراسة المراسلات والاجتماعات بين فولتير ونموذجه الملهم فريدريك الثاني، الذي كانت صورته معلقة في برلين في المكان الذي توفي فيه القائد النازي في أبريل/ نيسان 1945.
وتعتبر الكاتبة أن المشكلة ليست ببساطة أن فولتير فشل في دمج الجماعات المضطهدة، مثل السود واليهود في ما يسمى التفكير التقدمي، لكن دفاعه عن العنصرية البيولوجية وتفوق البيض ما زال يقدم إلهاماً لجميع أنواع المتطرفين. ومن بين هؤلاء، المتعاطفون مع النازيين المرتبطين تقليديا بالتجمع الوطني اليميني المتطرف (الجبهة الوطنية سابقا) فضلا عن الإرهابيين الذين يستهدفون المعابد اليهودية والمساجد الإسلامية.
أصر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على أن تماثيل الأشخاص المرتبطين بأيديولوجيات مستهجنة للغاية جزء من تراث فرنسا ولا ينبغي إزالتها، وتختم الكاتبة معتبرةً أن هذه النظرة “رجعية وتتجاهل تمامًا سؤالًا وثيق الصلة بالموضوع. لماذا يظل عنصريو التنوير مقدسين؟.. حان الوقت لأن يتوقف الفرنسيون عن تبجيل الفلاسفة العنصريين، والانتقال لعصر جديد من العقلانية”.
الجزيرة