دوافع وأسباب التعنت الإثيوبي في مفاوضات سد النهضة

دوافع وأسباب التعنت الإثيوبي في مفاوضات سد النهضة

فشلت جولة مفاوضات “سد النهضة” الأخيرة بين مصر والسودان وإثيوبيا في التوافق على​ صيغة مسودة اتفاق موحدة حسب ما اقترحته الوساطة الأفريقية. وطرح تكرار إخفاقات أطراف حوار “سد النهضة”، جملة ​تساؤلات حول حقيقة الظروف المحيطة بتلك المباحثات، وأبعاد الموقف الإثيوبي الذي يعتبره البعض تعنتاً، والأسباب الحقيقية وراء الفشل المتلاحق لتلك المفاوضات رغم جهود الوساطة الأفريقية.

تعليق مساعدات

وتفاقم الوضع بعد إعلان الولايات المتحدة الأربعاء 2 سبتمبر (أيلول) الحالي، تعليق جزء من مساعداتها المالية لإثيوبيا ردّاً على قرار أديس أبابا البدء بملء سد النهضة قبل التوصّل إلى اتفاق مع مصر والسودان.
وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية في بيان إنّه “بسبب قرار إثيوبيا الأحادي الجانب ملء سدّ النهضة من دون اتفاق مع مصر والسودان”، فإن وزير الخارجية مايك بومبيو وبتوجيهات من الرئيس دونالد ترمب “قرر تعليق جزء من المساعدات المخصصة لإثيوبيا مؤقتاً”. ولم يحدّد البيان مقدار المساعدات المشمولة بقرار التعليق ولا مدّة تعليقها.
وشدّد البيان على أن “الولايات المتحدة تشعر بقلق متزايد إزاء عدم إحراز تقدّم في المفاوضات الرامية إلى التوصّل إلى اتّفاق ثلاثي حول ملء سدّ النهضة وإدارته”.
وأوضحت واشنطن أن قرارها تعليق جزء من المساعدات المخصصة لأثيوبيا يعكس “مخاوف” الولايات المتحدة من القرار الإثيوبي، معتبرة أن الشروع في ملء خزّان السد “قبل اتخاذ كل الإجراءات الأمنية” ينطوي على “مخاطر جسيمة على سكان دول المصبّ”. وأضاف المتحدث باسم الخارجية الأميركية في بيانه أن الانتقال إلى “الملء أثناء المفاوضات يقوّض ثقة الأطراف الأخرى”، متهماً الحكومة الإثيوبية بعدم الوفاء بـ”التزاماتها” لجهة انتظار مصير المفاوضات التي يقودها الاتحاد الأفريقي قبل الشروع بأي خطوة عملية.
وأكد البيان أن واشنطن “تجري مباحثات حثيثة مع الحكومات الثلاث” بهدف “تسهيل وصولها إلى اتفاق عادل ومنصف يحقق توازناً” بين “مصالحها”. وأضاف أن الإدارة الأميركية لن تتوانى عن استخدام “كل الأدوات المتاحة أمامها” للضغط على الدول الثلاث للوصول إلى الاتفاق المرجو.
وكان السفير الإثيوبي لدى واشنطن فيتسوم أريغا قال الثلاثاء في منشور على فيسبوك إنه تلقّى تأكيدات بأن أي تخفيض في المساعدة الأميركية لبلده سيكون “مؤقتاً”. وأضاف السفير “السدّ لنا وسننجز بناءه بسواعدنا”.
وشدّدت الخارجية الأميركية في بيانها على أن قرارها تعليق قسم من المساعدات المخصصة لإثيوبيا لا يقلّل بتاتاً من “الأهميّة الحاسمة” لـ”الشراكة” بين البلدين.
وأوضح البيان أن الحكومة الأميركية ستواصل على وجه الخصوص تمويل برامج مكافحة فيروسَي “الإيدز” و”كورونا”، كما ستستمر في تقديم جزء من المساعدات الإنسانية المخصّصة للنازحين والمتضررين من النزاعات والجفاف، من دون أن توضح حجم هذا الجزء.


حقوق طبيعية

ووصف الباحث الإثيوبي في شؤون القرن الأفريقي أيوب قدي أمبي، تعثر المفاوضات الحالية بأنه “أمر عادي تجاه حقوق قومية لا تتلاعب إثيوبيا في الحفاظ عليها مهما كان الثمن، وما يُهدَر من وقت”. وأشار إلى أن الوضع المائي الذي استمر ما يقارب المئة سنة​ بعد توقيع مصر والسودان اتفاقية عام​ 1929 التي ظلت تستحوذ بموجبها القاهرة على حصة الـ 55 ​ مليار متر مكعب من المياه، يصعب تغييره في يوم ​أو شهر أو سنة، لذلك فإن ما يقتضيه الواقع الجديد لـ”سد النهضة” هو الذي يفرض مسار هذه المفاوضات وما تأخذه من وقت وتواجهه​ من صعوبات.
وأكد قدي “جديّة إثيوبيا في التوصل إلى حلول منصفة في قضية سد النهضة، تكفل لكل الأطراف حقها الطبيعي”، مشيراً إلى أن “إثيوبيا حريصة على حقوقها المائية في ذات الوقت الذي تحرص فيه على عدم التسبب في أذية الآخرين”.
وحول تفسيره لتصرفات إثيوبيا الفردية في شروعها بملئ خزان بحيرة السد بحوالي 4.9 مليار متر مكعب من المياه​ دون الرجوع إلى دولتَي المصب في الوقت ذاته الذي تدور فيه المفاوضات، قال قدي أمبي إن “تمسك إثيوبيا بحقها في عملية ملئ الخزان نابع من اتفاقية الخرطوم للمبادئ التي ضمت موادها​ مسألة مزامنَة​ ملئ خزان البحيرة مع عملية التفاوض”. ونفى الباحث الإثيوبي ​تعمّد أديس أبابا اتخاذ مواقف مستفزة لأطراف الحوار، مشيراً إلى أنها تتصرف وفق الحقوق المشروعة. وأشار إلى أن “الوصول إلى حل لقضية سد النهضة بكل جوانبها​ في ملء وتشغيل السد، وإزالة المخاوف، ووضع الضمانات بما فيها آلية فض النزاعات، كلها قضايا غير خاضعة للطرف الإثيوبي وحده وإنما تتطلب عملاً مشتركاً، وتنازلات متبادلة”. وأكد الباحث الإثيوبي أيوب قدي “تمسك أثيوبيا بخيار الحوار مهما يتطلبه من جهد”، مشيداً بـ “وعي الوساطة الأفريقية وحرصها على الحلول المنصفة لقضية أزمة سد النهضة”.


رفض المبادئ

من جهة أخرى،​ وضمن تعليقه على مسار المحادثات الجارية​ والموقف الإثيوبي، رأى ديجين يميني ميسلي الباحث فى كلية الحقوق والدراسات الإدارية في جامعة أديس أبابا، أن “إثيوبيا كانت فى وضع قانوني دولي جيد مقارنة ببلدان المصب قبل توقيعها على إعلان مبادئ الخرطوم عام 2015”. وأوضح أنه “لم يكن هناك أي أساس قانوني لمصر لدعم مطالباتها بملئ وتشغيل سد النهضة باستثناء الاعتماد على اتفاق الحقبة الاستعمارية الموقع عام 1903 بين​ الاستعمار الإيطالي الذي كان يحتل إثيوبيا والاستعمار البريطاني الذى كان يحتل مصر”.
ووصف الباحث الإثيوبي تقيّد بلاده باتفاقية المبادئ​ بأنه “انتكاسة للموقف الإثيوبي”، مضيفاً أن “ما يؤسَف عليه هو أن نرى إثيوبيا وهى تتفاوض مع مصر لإنتاج مبادئ توجيهية بشأن ملء وتشغيل سد النهضة”​، في إشارة إلى​ المفاوضات الثلاثية التي استضافتها الولايات المتحدة مع البنك الدولي في يناير (كانون الثاني) الماضي.
وانتقد ميسلي المعاهدات الاستعمارية القديمة، قائلاً إن “مصر استشهدت وأصرت على معاهدات تخصيص المياه فى الحقبة الاستعمارية لإضفاء الشرعية على مطالباتها بالاستخدام الطبيعي والتاريخي لمياه النيل، وهذا الاعتماد يتعارض مع المبادئ العامة المهيمنة على القانون الدولي، لا سيما مبدأ المساواة في السيادة بين الدول كما هو مدرج فى ميثاق الأمم المتحدة”.
وفي معرض حديثه عن المواقف الإثيوبية​ التي يصفها بعض المراقبين بالمتعنتة، قال الباحث​ ديجين ميسلي إن “مصر إلى جانب الدول المتشاطئة الأخرى لن تكون على استعداد لتقديم تنازلات عما تعتقد أنه مصالح مشروعة لها، فما بال إثيوبيا التي تبحث عن حقوقها الشرعية في قسمة مياه النيل التي ظلت حكراً على دول المصب”.
وأكد الباحث الإثيوبي ميسلي​ أنه “لا يمكن الوصول إلى حل قضية سد النهضة عبر إدعاء تاريخي”، معتبراً أن “ما تعارفت عليه الحقب الاستعمارية ذهب مع تلك الحقب”.

على صعيد متصل بمسار مفاوضات سد النهضة وما أشرنا إليه من خلافات متجددة ​ومدى قدرة الوسيط الأفريقي على تحقيق هدف الاتفاق، فرأى المتخصص في الشأن الأفريقي سعيد علي تيني أن “أهم ما تفتقده هذه المحادثات هو عزيمة الأطراف للوصول إلى حلول للقضايا المعقدة لإفرازات هذا السد، وهو ما تسعى الوساطة الأفريقية للمساعدة على تحقيقه”. وأكد سعيد تيني على ​قدرة الوساطة الأفريقية في الوصول إلى حل لقضية السد بالاعتماد على الأخذ بالتجارب المشابهة في قضايا المياه، لا سيما بين الدول ذات الأنهر المشتركة في أوروبا وأميركا اللاتينية وغيرها، في ما أسسته من منافع مشتركة، فضلاً عن الأخذ بالقانون الدولي الذي يكفل حقوق مشتركة ومنصفة بين دول المنبع ودول المصب”.

خلاف متجدد

وكانت الوساطة الأفريقية اقترحت خلال محاولاتها دفع أطراف مفاوضات سد النهضة مصر والسودان وإثيوبيا، الى أسس اتفاق في جولة المفاوضات الأخيرة في أغسطس (آب) الماضي، أن تضع كل دولة مسودة اتفاق يحمل وجهة نظرها، لتدمج هذه المسودات الثلاث في واحدة تجمع عليها الأطراف، وهو ما فشلت فيه الدول الثلاث بسبب تباعد وجهات النظر، ما تسبب بفشل المفاوضات.

وذكرت وزارة الري السودانية أن جولة المفاوضات انتهت من دون تحديد​ موعد جديد لاستئنافها. وتصطدم مفاوضات سد النهضة بقضايا لا تزال عالقة في قواعد ملء البحيرة، وتشغيل وإدارة السد، والتخفيف من حدة الجفاف والجفاف الممتد، والطابع الملزم للاتفاق، وآلية فض النزاعات المستقبلية. وتتمسك أثيوبيا بالتوصل فقط إلى مجرد قواعد إرشادية يمكن تعديلها بشكل منفرد. كما تختلف وجهات النظر حول التنسيق في إدارة سد النهضة والسد العالي طبقاً لآلية إدارة السدود على الأنهار المشتركة التي تقترحها مصر. كما أضافت إثيوبيا بعداً جديداً في المفاوضات وهو ربطها قضية السد بحصة تنالها هي في قسمة المياه أسوةً بدولتي المصب، ما خلق نوعاً من الارتباك في مسار التفاوض.
جدير بالذكر أن دولتا المصب مصر والسودان تخشيان أن يتسبب السد الذي تبنيه إثيوبيا على النيل الأزرق والذي يُعتبر الأكبر في القارة الأفريقية والعاشر عالمياً (تبلغ سعته الاستيعابية من المياه 74 مليار متر مكعب) بنقص حصصها من المياه، وما يُتوقع من تأثير على السدود داخل البلدين فضلاً عن آثار أخرى تترتب على تشغيله.
وسيصبح سدّ النهضة الذي بدأت أديس أبابا ببنائه في عام 2011 عند إنجازه، أكبر سدّ كهرمائي في أفريقيا، بارتفاع 145 متراً، مع قدرة انتاج بقوة ستة آلاف ميغاواط.

اندبندت عربي