الفكرة السائدة في وسائل الإعلام أن المسلمين الهنود لا يستسلمون بسهولة للسقوط في حبائل التطرف ليست صحيحة دائما، لذلك يعمل تنظيم داعش على مشاركة عناصر من المسلمين الهنود في هجماته الإرهابية في عدة دول لتبديد ما تتناوله وسائل الإعلام من أن التطرف لم يتوغل بعمق بين مسلمي الهند.
لندن – أثار إعلان تنظيم داعش الإرهابي أن عناصره من المقاتلين الهنود وراء الهجوم على السجن المركزي في جلال آباد، عاصمة إقليم ننجرهار شرقي أفغانستان، مطلع أغسطس 2020، جدلا جديدا بشأن التهديد الذي يسببه التنظيم في شبه القارة الهندية.
وفي غضون ستة أشهر، كانت هذه هي المرة الثانية التي يشارك فيها متطرفون من المسلمين الهنود في تنفيذ هجوم لتنظيم داعش، وذلك بعد يوم واحد من إعلان وكالة المخابرات الأفغانية عن مقتل أسدالله أوروكازاي، قائد استخبارات تنظيم داعش في أفغانستان بجلال آباد.
وكان مسلحو تنظيم داعش يستخدمون إقليم ننجرهار كقاعدة لهم قبل أن تطردهم قوات الأمن الأفغانية وحركة طالبان في السنوات الأخيرة.
ويسعى جناح الدعاية في تنظيم داعش من خلال محاولة إشراك المقاتلين الهنود في هجمات بارزة في أفغانستان، إلى تبديد الرواية القائلة بأن المسلمين الهنود لا يمكنهم الاستسلام للتطرف، وعلاوة على ذلك، يحاول داعش نفي ما أشارت إليه تقارير إخبارية سابقة بأن المتطرفين الهنود الذين انضموا إلى داعش في سوريا والعراق قد أُجبروا في الكثير من الأحيان على العمل في وظائف وضيعة مثل تنظيف المراحيض.
ولا يخفي خبراء في شؤون التنظيم الإرهابي قلقهم من أن تكون الهند بيئة لمسار التطرف الذي اتبعه تنظيم داعش في بعض الدول مثل أفغانستان والعراق وسوريا، خصوصا بعدما نشر جناح الدعاية للتنظيم في ولاية خراسان الإسلامية صورا لـ11 مهاجما، من بينهم ثلاثة مجندين هنود من ولاية كيرالا.
ويثير اهتمام المتابعين الرسالة الصوتية باللغة الأردية، التي أصدرها المتحدث باسم دعاية تنظيم داعش في ولاية خراسان الإسلامية، سلطان عزيز عزام، إثر الهجوم الأخير الذي نُفذ على سجن ننجرهار.
وتستهدف دعاية داعش الهنود باللغات المحلية المنطوقة في جنوب البلاد مثل، المالايالامية والتاميلية، إضافة إلى لغات أخرى.
وتحتل الهند المرتبة الثالثة في قائمة أكثر الدول التي يعتنق سكانها الإسلام بعد إندونيسيا وباكستان، بنحو 200 مليون مسلم، ما جعل بعض المحللين لا يستبعدون فكرة أن تكون الهند بؤرة محتملة لداعش لتجنيد مقاتلين في صفوفه، ومحفزا للنظيمات المتطرفة لاستعادة نشاطها الارهابي في كامل المنطقة.
وقدر تقرير للأمم المتحدة نشر في يوليو الماضي أن نحو 2200 من أفراد تنظيم داعش موجودون في أفغانستان وأنه على الرغم من تراجع التنظيم في المنطقة واستنزاف قيادته، لا يزال قادرا على شن هجمات بارزة.
200 مليون مسلم في الهند يحاول داعش مخاطبتهم بلغاتهم المحلية
ومن جانبه أكد مدير المركز الوطني الأميركي لمكافحة الإرهاب أن تنظيم الدولة الإسلامية يواصل تمدده عالميا مع نحو عشرين فصيلا تابعا له، وذلك على الرغم من اجتثاثه من سوريا والعراق والقضاء على قيادييه.
وخلال جلسة استماع أمام لجنة الأمن القومي في مجلس النواب الأميركي، قال مدير المركز الوطني الأميركي لمكافحة الإرهاب كريستوفر ميلر إن التنظيم المتطرف “أظهر مراراً قدرة على النهوض من خسائر فادحة تكبدها في السنوات الستّ الماضية بالاتكال على كادر مخصص من القادة المخضرمين من الصفوف المتوسطة، وشبكات سرية واسعة النطاق، وتراجع ضغوط مكافحة الإرهاب”.
ومنذ القضاء في أكتوبر 2019 على قائد التنظيم أبوبكر البغدادي وغيره من القادة البارزين، تمكّن القائد الجديد محمد سعيد عبدالرحمن المولى من إدارة هجمات جديدة بواسطة فصائل تابعة للتنظيم بعيدة جغرافياً عن القيادة.
ويرجح مراقبون أمنيون أن يقوم تنظيم داعش بإيجاد بؤر جديدة في بعض دول آسيا لإعادة تجميع شتات عناصره، التي هربت عقب هزيمة التنظيم في سوريا والعراق، خاصة أن هذه الدول تعاني من وجود جماعات إسلامية متشددة.
وفي مارس الماضي نفذ مواطن هندي هجوما انتحاريا على مزار ديني للسيخ في العاصمة الأفغانية كابل أسفر عن سقوط 28 قتيلاً.
وأعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري، مشيراً إلى أن أحد المنفذين هو مواطن هندي يحمل كنية “أبوخالد الهندي”، الذي تطوع في الهجوم انتقاماً من محنة المسلمين في كشمير. وتم نشر صورته وهو يحمل بندقية هجومية، وذلك على صفحات مجلة التنظيم الدعائية المعروفة باسم “النبأ” بتاريخ 26 مارس.
ويكشف ذلك أن التنظيم الإرهابي يحاول استقطاب عناصر جديدة من الجالية المسلمة في شمال الهند لتعزيز أيديولوجية التجنيد الجديد والتطرف.
ورقة الانقسام
كما لا يستبعد خبراء أن يكون جناح الدعاية لتنظيم داعش في ولاية خراسان الإسلامية بالهند يتعمد اللعب على ورقة الانقسام في الهند متعددة الأقليات والأديان والطوائف، لجذب الشباب الهنود للانظمام إلى صفوفه، باستغلال ظروفهم والتأثير عليهم ودعوتهم للجهاد.
وتعيش الهند منذ وصول حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي القومي، بزعامة ناريندرا مودي إلى سدّة الحكم في عام 2014، على وقع صراعات طائفية في بعض القرى ذات الأغلبية المسلمة تقوم على فصل الهندوس عن المسلمين، رغم عراقة العلاقة بين الطائفتين.
وينشط في ولاية جامو وكشمير، وهي المنطقة الوحيدة في البلاد التي يشكل المسلمون أغلبية سكانها، انفصاليون يحاربون سلطات الهند لأجل الانضمام إلى باكستان وذلك في ظل انعدام حدود رسمية بين الهند وباكستان، ويحل محلها خط فاصل بين جيشي الدولتين.
وعانت الهند من هجمات للمتشددين. ففي عام 2008 شنت جماعة مسلحة تتمركز في باكستان هجوما على مدينة مومباي أدى إلى مقتل 166 شخصا وأثار الرعب في البلاد.
وخلال السنوات الأخيرة الماضية أثارت معلومات استخباراتية عن التحاق العشرات من الشبان الهنود بتنظيم داعش الإرهابي عبر التسلل إلى أفغانستان مخاوف من أن يكون التنظيم يكثّف نشاطه في الهند لاستقطاب المزيد من الأنصار.
وأعلنت حسابات مرتبطة بالتنظيم الإرهابي على شبكات التواصل في مايو 2019 تأسيس “ولاية الهند” بعد مقتل مسلح قيل إنه على صلة بالتنظيم، في اشتباك بين مسلحين وقوات الأمن الهندية في الشطر الذي تسيطر عليه نيودلهي من كشمير.
ووفق هذه الحسابات، فقد قال داعش إنه أوقع ضحايا من قوات الجيش الهندي في بلدة أمشيبورا في منطقة شوبيان في كشمير.
وهاجر نحو 98 شخصاً من ولاية كيرالا الهندية بين مايو ويونيو في عام 2019 بغية الانضمام إلى ما يسمى بـ”محافظة خراسان” في ننجرهار الأفغانية.
ومن بين المهاجرين المذكورين، انطلق 30 مواطناً منهم مباشرة من ولاية كيرالا، و70 مواطناً رفقة أسرهم. ومن بينهم 7 أشخاص قتلوا في غارات جوية في أفغانستان خلال السنوات الماضية.
وفي تسجيل فيديو رصده موقع سايت الأمريكي المعني بمتابعة أخبار الجماعات المتشددة سخر تنظيم داعش من تعايش المسلمين في تناغم مع الهندوس وحثهم على السفر إلى المناطق التي يسيطر عليها التنظيم.
وقال مقاتل هندي في التنظيم عرف باسم أبوسلمان الهندي وهو ناشط في محافظة حمص في سوريا “في هذه الأرض نستطيع أن نجهر ببغضنا للكفار. وفي هذه الأرض نجاهد في سبيل الله. وفي هذه الأرض نأمن على ديننا وكلمة الله هي العليا. وفي هذه الأرض لا أحد يوقفنا عن العمل الصالح والدعوة وتعلم الدين. في هذه الأرض حياتكم وعزتكم وأملاككم في الحفظ”.
وقال مسلح آخر في التسجيل إن مقاتلي الدولة الإسلامية سيأتون إلى الهند لتحرير المسلمين والانتقام من العنف الذي مورس ضدهم عام 2002 في ولاية غوجارات غرب البلاد وفي كشمير وتدمير الهندوس لمسجد بابري عام 1992.
كيرالا أولا
وأشارت دراسة جديدة أصدرتها مؤسسة أوبزرفر الهندية للأبحاث تحت عنوان “الدولة الإسلامية في الهند، كيرالا أولًا”، للباحثين كبير تانجيا زميل في برنامج الدراسات الاستراتيجية بالمؤسسة، ومحمد سنان سيش الباحث في المركز الدولي لأبحاث العنف، إلى أن نحو 60 أو 70 في المئة من المقاتلين الذين انضموا إلى داعش الهند ينحدرون من ولاية كيرالا.
وأكدت الدراسة أن أغلب مناصري داعش الذين ينحدرون من ولاية كيرالا سعوا للسفر والالتحاق بتنظيم داعش في سوريا والعراق، قبل أن تتحول وجهتهم المفضلة لما يسمى بـ”ولاية خراسان”، فرع داعش في أفغانستان، بينما خطط مناصرو داعش في الولايات الأخرى لشن هجمات في داخل الهند.
وأرجعت الدراسة سبب انتشار الأفكار الداعشية في ولاية كيرالا إلى التراث التاريخي للولاية الممتد عبر حقب متعددة في التاريخ الإسلامي، وإلى اعتناق عدد كبير من أبناء الولاية للأيديولوجيا الوهابية، وإلى نشاط عناصر داعش في الترويج للأفكار داخل الولاية.
وشدد الباحثان في خاتمة دراستهما على أن التطرف في ولاية كيرالا يشكل تهديدًا حقيقيًّا لصناع السياسة الأمنية في الهند، مؤكدين على أن افتقار الشفافية وغياب الرؤية الموضوعية يُعقدان فهم ظاهرة التطرف ويعيقان أعمال مكافحة الإرهاب في الهند.
غير أن الهند كانت على الدوام لغزًا محيرا للجهاديين العالميين عندما يتعلق الأمر بتجنيد المقاتلين، لاسيما وأن عدد المتطرفين الهنود في صفوف القاعدة وداعش كان منخفضًا بشكل ملحوظ.
وحتى في ذروة الهجمات الإرهابية الإقليمية والعالمية، وازدياد اعتماد التنظيمات المتطرفة على مواقع التواصل في التجنيد والترويج لعملياتها الإرهابية، لم يكن من السهل استقطاب الشباب الهندي المسلم للمشاركة في التنظيمات الإرهابية.
ونجح التنظيم منذ أن وطّد أقدامه في الأراضي التي كانت خاضعة لسيطرته كالعراق وسوريا، في تجنيد أكثر من 40 ألف مؤيد ومتعاطف باستخدام الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي من 120 دولة حول العالم. ومع ذلك، لم يصل عدد الهنود الذين انظموا إلى صفوفه إلى أكثر من 200.
والجدير بالذكر أن شبه القارة الهندية تعد مسقط رأس أكبر عدد من الديانات غير الإبراهيمية في العالم، بما في ذلك الهندوسية والسيخية والبوذية والجاينية وغيرها.
كما تعد الهند أيضًا مقرا لاثنتين من أقدم الحضارات في العالم وأكثرها تقدمًا، وهي حضارة غاندهاران ووادي السند أو ما تسمى”حضارة هارابا”، وتعطي هذه العوامل للإسلام الهندي خصائص توفيقية فريدة، والتي وعبر قرون من الزمن اندمجت مع معطيات هذا المجتمع الذي يتميز بتنوع المعتقدات والممارسات الدينية، وهذا النمط من التكيف الديني سمح لمختلف الديانات بالتآلف في ما بينها.
لكن في السنوات الأخيرة بدأت الهند تشهد بروز نزعة قومية متصاعدة تهدد التعايش والوحدة بين مختلف مكوناتها، وتزيد من تأجيج مشاعر العداء بينها، في تنكر صريح لمبادئ التسامح التي كرسها المهاتما غاندي. وجعل بموجبها الهند نموذجا للتعايش بين القوميات والديانات واللغات المختلفة.
ولا يستبعد خبراء أن تكون بيئة الصراع الطائفي في الهند مواتية لعناصر التنظيم الإرهابي الذي يسعى لينشب مخالب تطرفه ورجعيته في البلاد وفي جميع أنحاء المنطقة.
وأمام تواصل الصراع الهندي الباكستاني حول كشمير، الذي تسبب في خلق أجواء من التأزم والتوتر على الحدود، يرى البعض أنه قد يتيح الفرصة لتنظيم داعش لبناء دولة “خلافة” في آسيا الوسطى أقوى من التي كانت في السابق.
العرب