أثارت محاولة اختطاف حاكمة ولاية ميتشيغان غريتشن ويتمر، يوم 8 أكتوبر من قبل 13 عنصرا ينتمون لميليشيا بيضاء متطرفة، مخاوف واسعة تشير إلى أن البلاد كلها على حافة مواجهات واسعة، في حالة خسارة الرئيس الحالي دونالد ترامب للانتخابات المقبلة في 3 نوفمبر. وتبين من التحقيقات أن هذه الجماعة التي تسمي نفسها «حراس وليفرين» كانت تخطط لخطف حاكم ولاية فرجينيا رالف نورثام أيضا، انتقاما للإجراءات الوقائية التي اتخذها الحاكمان لمواجهة وباء كورونا، خاصة عمليات الإغلاق الواسعة.
يتوعد هؤلاء وأمثالهم أن يأخذوا القانون بأياديهم، لإعادة أمريكا إلى سابق عهدها دولة للبيض فقط، وتسخير كل الفئات الأخرى في خدمة السيد الأبيض، أو طردهم من البلاد. هؤلاء يشعرون بأن أمريكا، كما يتصورونها، اختطفها السود والسمر من المهاجرين والأقليات، وبلغ هذا الاختطاف ذروته عندما وصل البيت الأبيض رئيس أسود هو باراك حسين أوباما. والأخطر من ذلك، في رأيهم، أن كمالا هاريس وهي امرأة سوداء من أب جامايكي وأم هندية، تستعد لتكون نائبة للرئيس الهرم، جو بايدن، الذي قد لا يظل مؤهلا للحكم للسنوات الأربع المقبلة لأسباب صحية، ما قد يتيح لها فرصة الدخول إلى المكتب البيضاوي رئيسة للولايات المتحدة، وهذا ما لا يقبلون به وسيمنعون حدوثه ولو بقوة السلاح.
تعيش الولايات المتحدة الآن حالة استقطاب غير مسبوقة بين أنصار الرئيس ترامب، الذين يمثلون أساسا أعضاء الحزب الجمهوري والإنجليكيين المسيحيين، وأنصار إسرائيل الملتفين حول منظمة الضغط الصهيونية (أيباك) والبيض العنصريين والفئات الأكثر ثروة ومجمعات الصناعات العسكرية، بينما يقود بايدن وهاريس إئتلافا واسعا من الحزب الديمقراطي والطبقة الوسطى، والعمال والأقليات والسود والمنظمات النسائية والمثليين والعرب والمسلمين والمنشقين عن الحزب الجمهوري.
كل الدلائل واستطلاعات الرأي، لغاية الآن، تشير إلى أن فوز ترامب صعب للغاية لأسباب عديدة أهمها، طريقة تعاطيه مع جائحة كوفيد-19، لكن أنصار ترامب لا يخفون نيتهم بعدم قبول خسارة قائدهم، الذي يعتبر بالنسبة لهم هدية من الرب، لاستعجال عودة المسيح المنتظر. بدأت الجماعات الملتفة حول ترامب الاستعداد للمواجهة والتدرب على السلاح وجمعه وتخزينه، تحت غطاء «التعديل الثاني» للدستور الأمريكي الذي يسمح باقتناء السلاح للحماية الفردية، والذي كان مبررا عند اعتماد التعديل سنة 1791، في الوقت الذي لم يكن هناك جيش وطني يحمي الولاية. كانت عملية لتقنين الميليشيات، التي تطورت في ما بعد لما يسمى «الحرس الوطني». فالأسباب التي دعت للتعديل لم تعد قائمة، في ظل وجود جيش قوي وحرس وطني وشرطة وقوات أمن مرئية وغير مرئية، وأجهزة متطورة للتنصت والوقاية والردع. أمريكا هي الدولة الوحيدة من بين الدول الغربية التي تتساهل في حمل السلاح الآلي، وهو ما يفسر بعض أسباب ارتفاع معدلات الجريمة، بمستوى لا يقارن مع دولة أخرى. أربعة أسباب رئيسية أدت إلى ظاهرة نشوء الميليشيات في ستينيات القرن الماضي وازدهارها في التسعينيات، خاصة بعد «مجرزة ويكو» تكساس، عام 1993 حيث اقتحمت القوات الحكومية معسكر جماعة الداووديين المتدينة، وأردت 82 شخصا من بينهم 17 طفلا.
أمريكا مقبلة على أخطر انتخابات وقد تشهد هزات تخرج عن السيطرة إذا ما خسر ترامب واعتبر الانتخابات مزورة ولم يلتزم بنتائجها
أولا- كانت الحكومة الفيدرالية هي الهدف من الغالبية الساحقة من الميليشيات التي تأسست في معظم الولايات الأمريكية. وكثير من الميليشيات كانت تقوم على أساس رفض دفع الضرائب وحرية اقتناء السلاح. وكان مصطلح «المواطنون الأسياد» منتشرا بين الميليشيات، بحجة السيادة للفرد وليس للدولة. ويأتي انتشار الميليشيات في عامي 1993 و1994 بعد انتهاء الحرب الباردة وتعميم نظرية «النظام العالمي الجديد» حيث انتشرت بين الميليشيات نظرية الحكومة العالمية التي تقودها الأمم المتحدة، التي ستنزع أسلحة الناس جميعهم. وقد جاءت «مذبحة ويكو» لتعزز قناعة الميليشيات بتورط الحكومة الفيدرالية في المؤامرة. وقد بلغت ذروة الاحتجاج على الحكومة في تفجير البناية الفيدرالية في أوكلاهوما ستي في 19 إبريل 1995على يد تيموثي ماكفي، الذي قتل فيه 168 شخصا وجرح أكثر من 600.
ثانيا- إقرار قانون المساواة، الذي جعل المواطنة بين السود والبيض متساوية تماما بعد ثورة الحقوق المدنية في الستينيات، التي قادها مارتن لوثر كينغ، ومالكوم أكس وغيرهما، ما يعني انضمام ملايين السود إلى صناديق الاقتراع والتأثير في مجريات الأحداث، وتطور ظاهرة مواجهة العنصرية والتمييز والإقصاء. وقد تفاقمت ظاهرة رفض اندماج السود في المجتمع من قبل البيض العنصريين وقرروا أن يتصدوا لها؛ وانتشرت الحركات العنصرية، والميليشيات الرافضة لاندماج السود، خاصة في الولايات الجنوبية. كثرت الحركات المناهضة للاندماج ومن أهمها «مجلس المواطنين المحافظين» الذي أنشئ عام 1985 ويدعو إلى المواطنة الحصرية للبيض، كما يؤمن بتفوقهم. وظل استهداف السود، أفرادا وتجمعات، مستمرا ليومنا هذا. وكانت مذبحة كنيسة شارلستون، التي ذهب ضحيتها تسعة من السود بمن فيهم الراهب عام 2015 من بين أبشع تلك الجرائم. وما انطلاق حركة «حياة السود لها قيمة» التي ما زالت مستمرة، إلا نوع من هذا الاحتجاج الجماعي بعد أن طفح الكيل على الممارسات العنصرية التي تعززت أيام الرئيس الحالي.
ثالثا- زيادة عدد المهاجرين من آسيا والشرق الأوسط، خاصة من الهند والدول العربية وأمريكا اللاتينية. ومع زيادة المهاجرين بدأت المزاحمة على كثير من الأشغال والوظائف والأعمال الصغيرة، بحيث بدأ كثير من الأمريكيين يشعرون بأن هذا المهاجر جاء ليأخذ مكان أمريكي من أصول بيضاء. ويرتبط مع هذه الظاهرة زيادة عدد المسلمين، خاصة في الثمانينيات بعد ثورة الخميني في إيران، وأثناء تشجيع الإدارة الأمريكية المسلمين على التطوع في أفغانستان لمحاربة الاحتلال السوفييتي. انتشرت المساجد والمدارس الإسلامية بشكل سريع، وانتشر الدعاة وأصبحت ظاهرة الحجاب منتشرة في المدارس والجامعات والحدائق والأسواق.
وبعد هجمات 11 سبتمبر 2001 انتشرت في الولايات المتحدة حملة شرسة من التمييز ضد العرب والمسلمين والأجانب بشكل عام، وبدأت عمليات منظمة تستهدف المساجد والتجمعات العربية والطلاب والمحجبات. وأنشئت ميليشيات متخصصة باستهداف المسلمين، مثل ميليشيا «الأرنب الأبيض» التي خططت لاستهداف مساجد في ولاية مينسوتا وإلينوي برئاسة مايكل هاري، الذي ضبطت لديه عام 2017 كميات من الأسلحة والمتفجرات والذخائر، بعد أن نفّذت المجموعة تفجيرا في «دار الفاروق» في مينسوتا في أغسطس 2017 وكان الهدف منها ترويع المسلمين وطردهم من البلاد. وضمن هذه الحملة ألقيت القنابل على المساجد، وقُتل العديد من المسلمين. وقد أصدر مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) كتيبا عام 2015 يؤكد أن بعض الميليشيات العنصرية، قررت استهداف المسلمين في السنوات المقبلة، ويؤكد الكتيب أن الولايات المتحدة ستشهد العديد من الهجومات على المسلمين وأماكن عبادتهم وتجمعاتهم. ويقول الكتيب إن مجموعة في مسيسبي، قررت خطف رجل مسلم وقطع رأسه ووضع شريط مصور للعملية. كما ضبطت ميليشيا تسمي نفسها «الصليبيون» كانوا يحاولون أن يفجروا سيارة مفخخة في مجمع سكني يقطنه صوماليون في مدينة كنساس عام 2016.
رابعا- تفشي الفكر الليبرالي، خاصة بين الشباب وجيل الإنترنت الذي لا يعطي أهمية لا للون ولا للجنس ولا للعرق ولا للدين ولا للميول الجنسية، ويؤكد على حق المرأة في الإنجاب من عدمه، أو في الإجهاض. وهذا أثار الجماعات الدينية الأصولية وزاد من شراستها واستعدادها لاستهداف العيادات التي تمارس الإجهاض، أو النوادي المخصصة للمثليين.
انتشرت الميليشيات بشكل غير مسبوق في عهد أوباما نتيجة تفاقم العنصرية، لكن بطريقة سرية أو شبه علنية. لكن الظهور إلى السطح بشكل سافر جاء في عهد ترامب، المؤمن أصلا بحق المواطنين بحمل السلاح، والمدافع عن هذه الميليشيات التي أصبحت تستعرض عضلاتها في وضح النهار وتنظم مسيرات بكامل أسلحتها وتقوم الآن بالتدريبات في معسكرات محددة، وتعلن أنها رهن إشارة الرئيس.
ترامب من جهته رفض أن يدين «العنصريين البيض» حتى بعد ارتكابهم للمجازر، كما كان جليا في مناظرته مع بايدن بتاريخ 29 سبتمبر الماضي الذي تحداه بأن يدين العنصريين البيض ولم يفعل ذلك. لقد عبّر الكاتب توماس فريدمان، بأنه قد يشهد حربا أهليا ثانية في بلده، وهو في نهاية عمره المهني كما شهد الحرب الأهلية الثانية في لبنان في بداية مهنته كصحافي مع جريدة «نيويورك تايمز». وجاء تعليقه هذا عندما رفض ترامب في المناظرة المذكورة أن يؤكد التزامه بالقانون في حالة ما خسر الانتخابات.
البلاد الآن مقبلة على أخطر انتخابات في تاريخها وقد تشهد هزات تخرج عن السيطرة إذا ما خسر ترامب ووقف ليعلن أن هذه الانتخابات غير شرعية ومزورة وأنه لن يلتزم بنتائجها. لا نستبعد ذلك إلا إذا كان كان الحسم لصالح بايدن كبيرا جدا بحيث يسقط أي محاولة للتشكيك في النتائج.
عبدالحميد صيام
القدس العربي