فجأة، ومن دون أية مقدمات، أعلنت الحكومة العراقية الأسبوع الماضي عن اتفاق بينها وبين حكومة إقليم كردستان حول «تطبيع» الأوضاع في قضاء/ مدينة سنجار التابع لمحافظة نينوى، والذي شهد واحدة من أقسى جرائم الإبادة الجماعية في العصر الحديث.
بعد سيطرة تنظيم الدولة/ داعش على مدينة الموصل، 2014 وبعد إعلانها لدولة الخلافة، هاجم التنظيم مدينة سنجار في بداية آب/أغسطس، وسيطر عليها، وفرض شروطه على أهلها من اليزيديين، بوصفهم «كفارا» تبعا لمعتقداته، وهو ما أفضى إلى أزمة إنسانية حقيقية ما زالت آثارها قائمة حتى اللحظة. وقد استدعى هذا الوضع، الذي تزامن مع هجوم التنظيم على قضاء مخمور التابع لمحافظة نينوى أيضا، وتهديده لمدينة أربيل، دخول حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) على خط المواجهة، ليشارك قوات البيشمركة بشكل علني في استعادة مدينة سنجار في نهاية 2014 وصولا إلى فرض الأخير لهيمنته الكاملة على المدينة بعد ذلك، في سياق اتفاق ضمني بينه وبين الحكومة الاتحادية في بغداد، كان للإيرانيين دور رئيسي فيه، لهذا وجدنا القوات العراقية والحشد الشعبي لا تقترب من مدينة سنجار مطلقا خلال عمليات استعادة المنطقة من تنظيم داعش في العام 2017 كما لم تقترب هذه القوات من المدينة في إطار تقدمها للسيطرة على المناطق المتنازع عليها بعد أزمة الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان في نهاية العام نفسه! كما وجدنا تعاونا وثيقا بين الحشد الشعبي وحزب العمال الكردستاني، من خلال السماح للأول بتشكيل قوة قتالية يزيدية تابعة له تحت وصاية الثاني في سنجار!
ولا يمكن فهم هذا الاتفاق بعيدا عن الترتيبات الذي حصلت بين تركيا وإيران في أيلول/ سبتمبر 2020 والتي قضت بتعزيز التعاون بين البلدين في محاربة التنظيمات المعارضة/ الانفصالية الكردية فيهما، تحديدا حزب العمال الكردستاني التركي، وحزب الحياة الحرة الإيراني، بل وتنفيذ عمليات مشتركة ضدهما في كردستان العراق حيث يتواجدان، وكان من الواضح أن اتفاق سنجار كان احد النتائج المباشرة لهذه الترتيبات، ولكن من دون ان يعني ذلك قطيعة حقيقية بين ايران والبي كي كي، فايران ما زالت حريصة على الإبقاء على علاقات استراتيجية معهم، وهذا ما سيضمنه الفصيل اليزيدي المسلح التابع للبي كي كي هناك، بعد انسحاب مقاتليها الكرد الاتراك من المدينة! خاصة وان حلم طريق الحرير الإيراني المار عبر هذه المنطقة وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط، سيبقى بحاجة إلى التعاون الوثيق مع البي كي كي، الذي يسيطر عمليا على شمال شرق سوريا، عبر مقاتليه الكرد السوريين بالنيابة! لهذا وجدنا الاتفاق يتحدث بلغة محايدة عن البي كي كي حرصا على عدم إغضابه، بل وجدناه يتحدث عن خروجهم من «حدود قضاء سنجار» حصرا، وليس عن خروجهم من الأراضي العراقية ككل!
البحث عن تفاهمات «تكتيكية» تفرضها عوامل إقليمية، ومصالح ذاتية ذات طبيعة براغماتية، إنما تديم الأزمة عبر تدويرها فقط بدلا من حلها
ولكن بعيدا عن الإطار الجيوسياسي لهذا الاتفاق، فانه لم يفعل شيئا سوى إعادة الأوضاع في المنطقة إلى ما كانت عليه قبل دخول داعش اليها، مع متغير جوهري هو دخول البي كي كي طرفا في المعادلة الاجتماعية والسياسية، وهو ما سيزيد تعقيد المشهد بدلا من معالجته! فمن المعروف ان المنطقة كانت تشهد صراعا داخليا يزيديا ـ يزيديا بين من يصنفون أنفسهم أكرادا، وينتمون إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، وبين من يصنفون أنفسهم كيزيديين قومية وديانة من جهة، وصراعا يزيديا ـ عربيا من جهة ثانية، فرضته طبيعة التحولات في علاقات القوة بين الطرفين في أعقاب احتلال العراق في العام 2003، وهو ما يمكن أن يفسر جزئيا طبيعة الجرائم التي تعرضوا لها على يد مقاتلي داعش الذين ينتمون إلى هذه المنطقة، والانتقام المضاد الذي جرى بعد هزيمة داعش!
من الناحية الدستور والقانونية، يبدو واضحا ان الاتفاق حيدهما تماما لصالح اتفاق سياسي! وبعيدا عن مشكلة المادة الدستورية المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها، والتي لا يمكن لها ان تشمل سنجار بأي حال من الأحوال (لم يسم الدستور المناطق المتنازع عليها، بل حدد شرطين لتحديدهما، الأول المناطق التي جرى فيها تغيير ديمغرافي لأسباب ذات طبيعة قومية/ أثنية، والثاني المناطق التي جرى فيها تغيير إداري بعد العام 1968 وكلا الشرطين لا ينطبقان على سنجار) وما يعنيه هذا الاتفاق ضمنيا من ان الحكومة الاتحادية تعترف بان سنجار هي جزء من المناطق المتنازع عليها وفق التأويل المفرط للإقليم! فقد نص الاتفاق على أن تكون مسؤولية الأمن في سنجار من اختصاص «الشرطة المحلية وجهاز الامن الوطني والمخابرات حصرا» ولكن ملحق الاتفاق ضرب بهذه الحصرية عرض الحائط عندما أشار إلى أن ذلك سيتم عبر «التنسيق مع الأجهزة الأمنية في إقليم كردستان». كما تحدث الاتفاق عن تشكيل «لجنة مشتركة من الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان لإعادة إعمار القضاء» وهو ما يعني عمليا ان الحكومة الاتحادية باتفاقها هذا خالفت نصا دستوريا صريحا وغير قابل للتأويل! فالمادة 143 من الدستور قررت الإبقاء على المادة (58/ أ) الواردة في قانون إدارة الدولة والذي حصر سلطة الإقليم في الأراضي التي كانت تديرها 2003 ولم تكن سنجار تقع ضمنها! ويعترف ضمنا بالإدارة «المشتركة» في المناطق المتنازع عليها بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، وهو انتهاك صريح آخر للمادة 140 أولا وثانيا من الدستور التي جعلت السلطة حصرية للحكومة المركزية في المناطق المتنازع عليها إلى حين تنفيذ أحكام تلك المادة! كما نص الاتفاق على أنه سيتم اختيار قائممقام للقضاء «ضمن الآليات الدستورية والقانونية» وبالعودة إلى قانون مجالس المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم 21 لسنة 2008 فان القائممقام يتم «انتخابه» وليس «اختياره» من مجلس القضاء بالأغلبية المطلقة لعدد الأعضاء، وحيث ان التعديل الثاني لهذا القانون رقم 26 لسنة 2019 قد قرر إنهاء عمل مجالس الأقضية، فهذا يعني أن ثمة فراغا قانونيا حقيقيا في هذه المسألة، وهو ما لم «يلتفت» له الاتفاق، بل عمد للتدليس عليه!
قلنا دائما ان البحث عن تفاهمات «تكتيكية» تفرضها عوامل إقليمية، ومصالح ذاتية ذات طبيعة براغماتية، إنما تديم الأزمة عبر تدويرها فقط بدلا من حلها. واتفاق سنجار الأخير لن يكون سوى حلقة جديدة من حلقات الصراعات المتجذرة والمتجددة معا في سنجار، يزيديا ـ يزيديا، ويزيديا ـ عربيا، مع كل ما يمكن ان يترتب على ذلك من معاناة للناس من جهة، ومن إمكانية استثمار هذه الصراعات في ظل أي متغير من جهة ثانية!
يحيى الكبيسي
القدس الغربي