في نهاية هذه السنة ستمر مئة سنة على بداية أحداث 1920 – 1921 التي ترمز في نظر كثيرين إلى ولادة الحركة الوطنية الفلسطينية الحديثة. فالاحتكاكات بين السكان العرب والمستوطنين اليهود كانت وقعت قبل ذلك، ولكن أحداث 1920 – 1921 حملت طابعاً خاصاً: قام بها عرب كانوا يعيشون في كيان جغرافي منفصل عن باقي المجال العربي الذي يحمل اسم فلسطين – بلاد إسرائيل، وبدأوا يطورون هوية خاصة تصممت في ظل المواجهة مع عدوين مركزيين: الحاضرة اليهودية والانتداب البريطاني.
ليس هناك فلسطينيون كثر يلخصون القرن الأخير بالإيجاب، والسنوات الأخيرة تفاقم إحساس التردي الوطني في أوساطهم: فإلى جانب الابتعاد عن حلم الدولة المستقلة، يتأطر الانقسام الداخلي، ويقل الاهتمام الإقليمي والدولي في قضيتهم، بل وتهتز الروايات التي تؤيد فعلهم، وعلى رأسها المطالبة ألا يتحقق التطبيع بين إسرائيل والعالم العربي أو التغيير في مكانة القدس إلا بعد التسوية. والتدهور ليس بالطبع نتيجة للسلوك الفلسطيني فقط، فقد ساهمت إسرائيل أيضاً في التعقيد العنيف للواقع، سواء من خلال تجاهل مشكلة الفلسطينيين أم باتخاذ مواقف خلقت جموداً عميقاً في الاتصالات معهم.
إن الواقع البشع يستوجب تحقيقاً عميقاً لدى الفلسطينيين في الطريق التاريخي الذي اتخذته الحركة الوطنية. وتضمن القرن الماضي أنماطاً كررت نفسها ومنعت الفلسطينيين من تحقيق أهدافهم، وعلى رأسها مرونة سياسية محدودة وعدم قدرة أو رغبة من القيادة الوطنية للوصول إلى قرارات تلزم عموم الفلسطينيين. وبدلا من ذلك، فضل قسم كبير من الفلسطينيين التعلق بالأوهام لسنوات طويلة.
بعد مئة سنة من ولادتها، تعد الحركة الوطنية الفلسطينية إحدى الحركات المستقرة في العالم العربي. وتشكلت، حول فقدان الوطن وانعدام السيادة، إحدى الهويات الأكثر تبلوراً في الشرق الأوسط. ولكنها حركة وطنية تتباهى اليوم أيضاً بالحفاظ على “الصبر والصمود” بدلاً من النجاحات العملية، رغم كل المصائب التي وقعت عليها، ودون قدرة على تقديم جواب حقيقي لأزمات الفلسطينيين في الحاضر.
إذن، يمكن أن نجمل التاريخ الفلسطيني كـ “سلسلة من الفرص المفوتة”: من رفض مشروع التقسيم عبر الانخراط في مواجهات مريرة مع الأخوة العرب، والصراعات الداخلية الحادة، والاختيارات المغلوطة للحلفاء الإقليميين، وحتى رفض مبادرات سياسية كان يمكنها أن تمنح جواباً للطلب الفلسطيني في السيادة.
إن الاتفاقات بين إسرائيل والإمارات والبحرين تضع الفلسطينيين أمام معضلة: هل يستمرون في القرن العشرين تحت ظل شعارات الكفاح والمطالبة بالعدالة التاريخية، أم سيدخلون عبر بوابة القرن الـ 21 مع تركيز الجهد على تحقيق هدف الدولة وتنفيذ القرارات التاريخية الأليمة. الفلسطينيون – وكذا اليهود – غير مطالبين بشطب ذاكرة ماضيهم، بل إعادة “تأطيرها”: من قاعدة للتطلع إلى إعادة الدولاب إلى الوراء، نحو ذاكرة متفق على أنها لن تعود. إن ذاكرة جماعية من هذا النوع تسمح بالنظر إلى أجزاء الوطن التاريخي التي ليست في ملكيتك دون أن تستعبد حاضرك لغرض استعادة عالم الماضي بكامله.
لا يمكن لضائقة الفلسطينيين الاستراتيجية المتفاقمة أن تبعث الرضى في إسرائيل. العكس هو الصحيح… فقد أثبت القرن الأخير بأن الحركتين الوطنيتين المتصارعتين، مرتبطتان الواحدة بالأخرى، وعندما تتدهور واحدة إلى الهوة ترتبط الثانية بقدمها إليها. تسير الحركتان الوطنيتان اليوم دون تخطيط ووعي إلى واقع من “دولة واحدة”، والتي هي ليست فكرة إبداعية لحل النزاع، بل صيغة لصدام شديد. على الشعبين أن يكونا واعيين لهذه الآلية، ويفهما آثارها ويحسما إن كانا مستعدين للسير نحو مستقبل كهذا، وذلك قبل أن يصل إلى نقطة اللاعودة التي يكون فيها الانفصال غير ممكن بينهما.
بقلم: ميخائيل ميلشتاين
القدس العربي