منذ أبصرت النور في عام 1945 تتعثر جامعة الدول العربية في حل مشكلات الدول الأعضاء فيها، الداخلية والإقليمية على حد سواء، ولعل أبرز المعضلات هي قضية فلسطين وسعي إيران منذ 1979 إلى تصدير “ثورتها” والتدخل في دول المنطقة. واندرج إنشاء الجامعة في سياق بروز عدد من المنظمات الإقليمية في ختام الحرب العالمية الثانية وحصول عدد من الدول في الشرق الأوسط على استقلالها، ومنها لبنان وسوريا والعراق والأردن. وسعى البريطانيون إلى إنشاء الجامعة لتساهم في تسوية الخلاف حول فلسطين من جهة وتهميش فرنسا، من جهة أخرى. والأخيرة كانت تنافس بريطانيا على بسط النفوذ في المنطقة.
ومنذ نشأتها كانت جامعة الدول العربية مدار تجاذب بين محورين، الأول سعودي – مصري، والثاني عراقي- أردني. وبقيت عرضة للنزاعات الداخلية، وانتهى فصل من النزاع في عهد عبد الناصر إلى وحدة سوريا ومصر، وسرعان ما انفرط عقد هذه الوحدة. وحين استقلت دول المغرب انضوت في محاور الانقسام هذه. وفي الحرب الباردة انقسم أعصاء الجامعة إلى محورين، السني المحافظ، والمحور الناصري. وهذه البنية طويت إثر حرب 1973، ونأي القاهرة عن الاتحاد السوفياتي وانضمامها إلى مسيرة مفاوضات تدعمها أميركا انتهت إلى اتفاقَي سلام بين إسرائيل ومصر وبين إسرائيل والأردن، وإلى اتفاق فك اشتباك برعاية أممية بين إسرائيل وسورية، وهذا الاتفاق التزمه المشاركون في الحرب السورية، على الرغم من خروج الغارات الإسرائيلية المزمنة عليه. ولكن اليوم هذه الدول منقسمة في الرأي حول إيران، فمنها من يدور في فلك ولاية الفقيه ومنها من يعارض الولاية هذه، والانقسام هذا عابر لحدود الدول. ففي الدولة الواحدة، تبرز جماعات توالي طهران وتقوّض سيادة الدولة الوطنية. وكذلك تنقسم دول الجامعة العربية في الموقف من القطبين الإقليميين من غير العرب: تركيا وإسرائيل.
اضطراب الشرق الأوسط
لكن في الأعوام الأخيرة، ومع اندلاع حوادث الربيع العربي، عمتّ الفوضى هذا النموذج الجغرافي- السياسي الأميركي في الشرق الأوسط، على ما لاحظ هنري كيسنجر، وزير خارجية أميركا ومستشار الأمن القومي في عهد ريتشارد نيكسون، في 2017. وخسرت 4 دول في المنطقة سيادتها، وصارت سورية والعراق (منذ الغزو الأميركي في 2003) وليبيا واليمن ميادين معارك فصائل تسعى إلى الغلبة والحكم. وكان لبنان منذ اتفاق القاهرة في 1969 “سباقاً”، إذا كان ثمة سبق في الأمر، إلى التحول إلى ساحة معركة “حيث يخوض جيرانه صراعاتهم”، على قول المؤرخ الراحل باتريك سيل صاحب “الأسد: والصراع على الشرق الأوسط”. وهو دعا اللبنانيين في مقابلة نشرتها صحيفة “النهار” اللبنانية في 2009 إلى “تطوير مفهوم المواطنية، فيتّحدوا، بدل أن يلعبوا لعبة المتخاصمين الإقليميين”.
وعلى الرغم من أن الجامعة العربية التزمت في ميثاقها احترام استقلال وسيادة كل دولة والاعتراف بحدودها القائمة – وهذا مبدأ فيستفالي يحاكي النموذج الأوروبي في القرن التاسع عشر وركنه عدم التدخل في شؤون الدول المجاورة – وعلى الرغم من أنها أخلّت بهذا المبدأ، إلا أن خسارة بعض دول الجامعة سيادتها حملت كيسنجر على القول إن النظام العالمي يتداعى في الشرق الأوسط. وهذا النظام يتغير وجهه شيئاً فشيئاً. فسيطرة إيران وقوات تابعة لها على إقليم داعش، كانت جسرها إلى حزام بري من طهران إلى بيروت، وآذنت ببروز إمبراطورية متطرفة.
أركان الولاية الإيرانية تهتز
لكن أركان هذه الإمبراطورية اليوم تهتز على وقع تظاهرات خريف 2019، في أوكتوبر (تشرين الأول) في العراق ولبنان، ثم في إيران نفسها في نوفمبر (تشرين الثاني) احتجاجاً على رفع الدعم عن الوقود، وفي مطلع العام الحالي، إثر إسقاط طائرة أوكرانية، شطر راجح من ركابها، يحملون الجنسية الإيرانية إلى جنسية أجنبية. وبين تظاهرات الاحتجاج الإيرانية في نوفمبر الماضي، وهذه شهدت خروج مدينة ماهرشهر وضواحيها عن سيطرة النظام طوال ثلاثة أيام وأصْلتها السلطات قمعاً دموياً أودى بمئات القتلى وبين تظاهرات الحداد الشاجبة للنظام في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقعت حوادث كثيرة. ففي الأثناء اغتيل قاسم سليماني في مطار بغداد الدولي في الثالث من يناير، وبدا أن الإيرانيين التفّوا حول نظامهم في مسيرات تأبين حاشدة. ولكن في الثامن من الشهر نفسه، ومع استهداف الحرس الثورة الطائرة الأوكرانية وعلى متنها خيرة الشباب الإيراني المهاجر، انفضّ إيرانيون كثر عن نظامهم. وعلى الرغم من أن النظام الإيراني لم يقمع قمعاً دموياً التجمعات الأخيرة مخافة أن يفاقم الاستياء الشعبي، بدا أن حادثة الطائرة ساهمت في تقويض مشروعية النظام الإيراني الحاكم في الداخل الإيراني إثر عزوف أبناء الطبقة الوسطى عن الاقتراع جراء خيبتهم وفقدانهم الأمل في التغيير. وضعف المشروعية في الداخل وإحكام طوق العقوبات الاقتصادية والمالية (إدراج إيران على اللائحة السوداء لمجموعة FATF ، مجموعة العمل المالي- وحدة مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب) يحكمان الطوق أكثر فأكثر على النظام الإيراني.
ووجد مراقبون كثر أوجه شبه بين حادثة تشرنوبيل في الاتحاد السوفياتي وبين حادثة إسقاط الطائرة الأوكرانية بنيران “صديقة” جراء “خطأ بشري” على قول الجنرال الحرسي الذي أذاع خبر مسؤولية الباسدران عن الحادثة. ويرى إيرانيون أن انفجار تشرنوبيل أماط اللثام عن غياب الكفاءة السوفياتية كما فعلت حادثة إسقاط الطائرة الأوكرانية. وكانوا تسمّروا هذا الصيف على الشاشات لمتابعة نسخ مقرصنة عن سلسلة تشرنوبيل. وعزت فيروز فرزاني في موقع إيران واير في يوليو (تموز) الماضي، إقبالهم هذا إلى حبكة الدراما المتقنة من جهة، وإلى اعتبارهم أنها تدق ناقوس مخاطر مفاعلهم النووي الروسي التصميم، من جهة أخرى. فهذا المفاعل يحميه سياسيون فاسدون، ويقع في منطقة زلازل، من جهة أخرى. وسلطت سلسلة تشرنوبيل الضوء على فساد البيروقراطية السوفياتية وتسترها على الانفجار طوال أسابيع، على الرغم من تغطية الغيوم المشعة سماء أوروبا. وقبل أعوام وفي زيارة إلى بيروت، روى طيار روسي مدني سابق عمل سنوات في إيران في مفاعل بوشهر، أن عامة الإيرانيين كانوا يرشقون حافلة فريق عمل روسي في المفاعل بالحجارة كلما صادفوها غضباً. وموقفهم على قوله لم يكن سياسياً بل هو ناجم عن خشيتهم مخاطر المفاعل النووي. ويرى آراش عزيزي في موقع إيران واير أن الحرس الثوري أظهر كفاءة كبيرة في تفادي سقوط أميركيين في قصف القواعد الأميركية في العراق، إلا أنه لم يظهر مثل هذا الحرص على حيوات عامة الإيرانيين والزوار الأجانب حين استهدف الطائرة الأوكرانية.
واليوم، أزمة كورونا كذلك تكشف نقص الكفاءة وتقديم مصالح ضيقة (تنظيم الانتخابات) على صحة الإيرانيين. فيوم الانتخابات، أعلن مسؤولون في وزارة الصحة الإيرانية وفاة أربعة أشخاص جراء فيروس الكورونا، على الرغم من أن سلطات البلاد نفت قبل ثلاثة أيام تسجيل حالات كورونا في إيران. والوفاة هذه تشير إلى أن الوباء كان يسري في البلاد ولكن السلطات تسترت على الأمر أو على أقل تقدير لم تتخذ إجراءات تحمي المواطنين مثل الحجر والتوعية وإرجاء الانتخابات لتفادي انتشار الفيروس.
مرحلة انتقالية
خلاصة القول إن النظام العالمي، والشرق الأوسط على وجه الخصوص، في مرحلة انتقالية لم ترتسم معالمها بعد، ولم تستتب بَعد كفة إيران فيه. وفي وقت يلتزم الغرب، وعلى سدته، أميركا سياسات قصيرة الأمد لا تحتسب اعتبارات جغرافية سياسية طويل الأمد، وينشغل بالانسحاب من المنطقة، لم تبلغ الفوضى مبلغاً يحمل قوى إقليمية مثل الهند والصين على التدخل. فالسعي إلى ملء الفراغ الأميركي لن يقتصر على موسكو على ما كتب كيسنجر، فعموم الفوضى في الشرق الأوسط قد يحمل بكين ونيودلهي على التدخل وليس موسكو فحسب. وفي الأثناء، تسعى موسكو وأنقرة إلى بسط نفوذهما في المنطقة، وتحديداً في سوريا وليبيا. واليوم ترجح كفة روسيا في فصول السباق على النفوذ في سوريا وليبيا.
ومنذ بدء تدخل موسكو العسكري في سوريا في سبتمبر (أيلول) 2015، عوّلت على قوات شركة عسكرية خاصة، هي “فاغنر”. وسيطرت روسيا على صناعة الفوسفات السورية، وكرس عقد صادق عليه مجلس الشعب السوري في 2018 هذه السيطرة طوال 50 عاماً. وفي أكتوبر 2019، ساعدت “فاغنر” قوات الجنرال حفتر في ليبيا على السيطرة على مرافئ المنطقة الغنية بالنفط. وصارت موسكو في الأشهر الاخيرة قوة محورية في ليبيا. فحين إمساكها بمقاليد النفط في ليبيا، تعاظم نفوذ روسيا على إمدادات النفط إلى أوروبا. وحذر مؤخراً الجنرال الأميركي ستيفن تاونسند، قائد القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا، من التدخل الروسي في المنطقة وهيمنة روسيا في أفريقيا كمصدر للموارد الطبيعية. وأعلن أن “الشركات الروسية العسكرية الخاصة تزعزع استقرار أفريقيا. فغالباً ما تُوظّف هذه الشركات لتحمي الاستثمارات الروسية على حساب الأفارقة، وتدعم أنظمة فاسدة وتعزّز نفوذ روسيا العسكري في العالم”. ولكن وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في جولته الأفريقية الأسبوع الماضي، أعلن تمسك إدارة ترمب بتقليص القوات الأفريقية في أفريقيا. وهذا التباين في تصريحات المسؤولين الأميركيين هو وجه من وجوه نازع واشنطن إلى النأي عن العالم.
منال نحاس
اندبندت عربي