أطماع الغرب تتجدد في القوقاز مع كل صراع وروسيا بالمرصاد

أطماع الغرب تتجدد في القوقاز مع كل صراع وروسيا بالمرصاد

منذ اندلاع الأزمة حول قره باغ في نهاية ثمانينيات القرن الماضي قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي في ديسمبر (كانون الأول) 1991، والحديث لا يتوقف حول تجدد أطماع الغرب في القوقاز. وما إن دانت الأمور في روسيا الاتحادية في حقيقتها إلى الولايات المتحدة والدوائر الغربية، حتى اشتعلت الأطماع ثانية في هذه المنطقة، وراحت الأوساط الغربية تغذي التوجهات الانفصالية في الشيشان، وعدد من الجمهوريات ذات الحكم الذاتي المتاخمة لها.

ومع كل هذا وذاك تذكرت الأوساط السياسية المحلية والعالمية ما كتبه زبيغنيو بجيزينسكي، البولندي الأصل، مستشار الأمن القومي الأسبق للرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر حول “رقعة الشطرنج الكبرى”، بشأن إعلاء التفوق الأميركي وأهمية السيطرة الكبرى للولايات المتحدة في المنطقة الأورو آسيوية، وفي القلب منها القوقاز.

تأجيج الغرب نزاع قره باغ

ومن هنا دار الحديث ولا يزال يدور حول الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في إطار المنافسة الجيوسياسية، سعياً وراء فرض سيطرتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، بوصفها القوة الأكثر تأهيلاً لفرض تفوقها، ووضعها الاستثنائي في هذه المنطقة العامرة بالثروات النفطية التي تشتد حولها المنافسة الإقليمية والدولية.

لذا، لم يكن غريباً أن يبادر سيرغي ناريشكين، رئيس جهاز المخابرات الخارجية، فور اندلاع الجولة الأخيرة من النزاع الأذربيجاني الأرميني، بالتحذير من مغبة ما تفعله تركيا بحشدها فلول المنظمات الإرهابية، منها جبهة النصرة وغيرها من التنظيمات الجهادية إلى منطقة النزاع.

وحذر ناريشكين ومعه القيادات السياسية والعسكرية في روسيا من مغبة ظهور الإرهابيين على مقربة مباشرة من الحدود الروسية في جنوب القوقاز. وها هو يعود ليكشف ثانية عن تأجيج بعض الدول الغربية النزاع حول قره باغ، وتغذية الميول القومية لدى المتطرفين من الجانبين الأرميني والأذربيجاني، سعياً وراء إحباط الاتفاق حول وقف إطلاق النار الذي أعلنته روسيا، ووقفت وراء توقيعه بين الرئيسين الأذربيجاني إلهام علييف والأرميني نيكول باشينيان، تحت رعاية الرئيس فلاديمير بوتين.

ونقلت وكالة أنباء “تاس” البيان الذي أصدره رئيس جهاز المخابرات الخارجية الروسية حول محاولات تأجيج المشاعر القومية للجانبين، من خلال ما يروجونه حول اعتبار الاتفاق تأكيداً لهزيمة الأرمن، ومحاولات إشعال نيران الانتقام من جانبهم، وترويجاً للنصر الساحق الذي حققه الأذربيجانيون، وتحفيزهم على ضرورة مواصلة الحرب حتى تحقيق النصر النهائي، الذي سرقه الكرملين منهم، وكانوا على وشك السيطرة الكاملة على ستيباناكيرت (عاصمة قره باغ)، على حد ما جاء في البيان.

هل فقدت روسيا القوقاز؟

وحدد ناريشكين أسماء القوى التي قال إنها تقف وراء مثل هذه التوجهات، وهي الولايات المتحدة وحلفاؤها ممن يشعرون بكثير من الأسف والأسى إزاء وساطة موسكو في وقف إطلاق النار في قره باغ، التي وضعت حداً لنشاطهم الذي استمر سنوات طويلة في المنطقة من أجل إخراج روسيا من منطقة ما وراء القوقاز. وقال “إنه لا واشنطن ولا بلدان الاتحاد الأوروبي، تريد قبول التوازن القائم للقوى في هذه المنطقة، ومن ثم تواصل جهودها الرامية إلى بث الفرقة بين الشعبين الأذربيجاني والأرمييني”. وخلص ناريشكين إلى القول إن “الولايات المتحدة وأصدقاءها الغربيين وكعادتهم يحاولون تقرير مشكلاتهم الذاتية على حساب مصالح البسطاء من أبناء أرمينيا وأذربيجان”.

وكان سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية، قد انتقد البيان الصادر عن الخارجية الأميركية حول اجتماع وزيري الخارجية الأميركي مايك بومبيو والفرنسي جان إيف لو دريان، الذي قالا فيه إنه لا يزال هناك كثير يحتاج إلى الإيضاح حول دور موسكو، وتوضيح أبعاد الاتفاق حول وقف إطلاق النار، وكذلك أيضاً حول دور تركيا.

وقال لافروف، إن مثل هذا البيان يثير الدهشة، خصوصاً أن موسكو ومنذ البداية، حاولت العمل بالتعاون مع ممثلي الولايات المتحدة وفرنسا من الرؤساء المناوبين لمجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي حول قره باغ. وأضاف أن البيان إما أنه يعكس “الاطلاع غير الكافي” من جانب من وقف وراء إصداره، أو أن ذلك يعود إلى ما قد يعتبر “سوء فهم أو تفاهم”.

أما عما قيل حول إن توقيع هذا الاتفاق يعني أن روسيا وكأنما “فقدت القوقاز”، قال لافروف، إن هناك من أمثال هذه الأقوال الكثير الذي يظهر في عدد من وسائط الإعلام الليبرالية ومواقع التواصل الاجتماعي، فيما وصف أصحابها بأنهم أقرب إلى “محللي الأرائك”.

تغذية الميول الانفصالية

ولعل كل ما يدور اليوم من صراع معلن وغير معلن، يعيد إلى الأذهان ما سبق ولفت انتباه القيادة السوفياتية إبان سنوات الحرب العالمية الثانية. وكان الزعيم السوفياتي الأسبق جوزف ستالين أدرك مبكراً مغبة التوجهات الهتلرية وأطماعها في منطقة القوقاز، وسارع باتخاذ قرارات تهجير كثيرين من أبناء القوميات، التي قيل إنها تتطلع إلى التعاون مع القوات النازية، سعياً إلى التخلص من الهيمنة السوفياتية، منها شعوب الشيشان والأنجوش وتتار شبه جزيرة القرم إلى سهول كازاخستان وغربي سيبيريا.
وعلى الرغم من رد الاعتبار لهذه الشعوب والسماح بعودتها مع مطلع سنوات البيريسترويكا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، فقد عادت الأوساط الغربية إلى سابق مخططاتها بشأن تأليب شعوب هذه المنطقة ضد روسيا وتغذية ميولها الانفصالية في الاستقلال، وهي الميول التي نجح بوتين في وضع حد لها مع مطلع القرن الحالي، مؤكداً السيطرة الكبرى لروسيا على كامل أراضيها.

وفي هذا الصدد تكشف الأحداث الجارية عن أهمية ما طرحه بجيزينسكي في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” المشار إليه عاليه، وهو الذي تضمن رؤية إستراتيجية جيوسياسية، سبق وتنبأ المؤلف في إطارها بمطامع الولايات المتحدة في منطقة القوقاز، إلى جانب ما حدده حول أهمية كل من أذربيجان وأوكرانيا في هذا الصدد.

وكان بجيزينسكي قد أشار في كتابه إلى أن أدولف هتلر توصل مع ستالين مطلع عام 1940، أي قبل انقلاب هتلر على الاتحاد السوفياتي وبدء غزوه لأراضيه في 22 يونيو (حزيران) 1941، حول استبعاد الولايات المتحدة من هذه المنطقة التي اعتبراها مركز العالم.

المصالح التركية

وقد أسهمت الأحداث اللاحقة، في مقدمتها انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، في وضع كثير مما طرحه بجيزينسكي في كتابه حيز التطبيق. وها هي منطقة ما وراء القوقاز تعود ثانية إلى صدارة اهتمام الولايات المتحدة وحلفائها بعد تجدد اشتعال الصراع الأذري الأرميني. لكن أبعاد هذا الاهتمام أو هذا الصراع لم تقتصر على ما ذكره بجيزينسكي، وتجاوزه إلى تفاصيل ما تشهده المنطقة من التنافس بين أقطابها الإقليمية، في مقدمتها روسيا وتركيا وإيران من خلال حلفائها وأذرعها هناك.

وكانت تركيا نجحت في التوصل إلى عدد من المشروعات التي أسهمت وتسهم في ربط مصالحها مع كل من أذربيجان وجورجيا من خلال خط السكة الحديدية الذي يربط بين البلدان الثلاثة، فضلاً عن خط أنابيب النفط، في توقيت مواكب لتقارب أكثر بين روسيا وأرمينيا التي وافقت على إقامة قاعدة عسكرية روسية في أراضيها، إلى جانب انضمامها إلى معاهدة الأمن الجماعي، التي تلعب فيها روسيا الدور المركزي مع بيلاروس وأرمينيا وبلدان آسيا الوسطى.

ولعل ذلك كله ما تضعه موسكو نصب أعينها ضمن محاولاتها للحيلولة دون انفجار الموقف، وعدم فتح جبهة جديدة في الصراع غير المعلن مع تركيا، خشية فتح الباب أمام تدخل قوى أخرى، تتحفز للتدخل في هذه المنطقة الإستراتيجية، بكل ما تمثله من أهمية لنقل النفط والغاز من منطقة بحر قزوين إلى الأسواق العالمية، فضلاً عن أهميتها بالنسبة إلى إيران وبلدان منطقة الشرق الأوسط.

وننقل عن موقع “سفوبودنايا بريسا” (الصحافة الحرة) ما قاله فلاديمير ليبيخين مدير معهد الاتحاد الاقتصادي الأوراسي حول تزايد النفوذ التركي في كل جمهوريات القوقاز ليس فقط انطلاقاً من وازع ذاتي يرتبط بمصالحها الاقتصادية، بل وبضوء أخضر من جانب لندن وبروكسل والديمقراطيين الأميركيين، فيما أعاد إلى الأذهان أوجه الشبه بين ما يفعله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وما فعله هتلر في عام 1936 في بداية عملياته العسكرية في أوروبا على حد قوله.

سامي عمارة

اندبندت عربي