أوليفيا لازارد باحثة زائرة في مركز كارنيغي-أوروبا. تُركّز أبحاثها على الجوانب السياسية الجغرافية للمناخ، والمرحلة الانتقالية التي أطلقها التغيّر المناخي، ومخاطر النزاعات، والأوضاع الهشة المرتبطة بتغيّر المناخ والتدهور البيئي. في رصيد لازارد ما يزيد عن اثنَي عشر عاماً من الخبرة في مجال صنع السلام على الأرض وعلى مستوى السياسات العامة. وهي متخصصة في الاقتصاد السياسي للنزاعات، وقد عملت لدى الكثير من المنظمات غير الحكومية ومع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول المانحة في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء وشمال أفريقيا وأجزاء من آسيا. وسعت في عملها الميداني إلى الإضاءة على كيفية تأثير العولمة والاقتصاد السياسي الدولي في أنماط العنف والهشاشة.
أجرت “ديوان” مقابلة معها في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر للحديث عن تأثير المسائل البيئية على الشرق الأوسط.
مايكل يونغ: تتجاهل الأنظمة وحتى المجتمعات في الشرق الأوسط التغيّر المناخي على نحوٍ واسع، مع أنه يؤثّر فيها من نواحٍ أساسية عدة. هلّا تستعرضين لنا بعض التبعات الرئيسة للتغيّر المناخي ولماذا يجب علينا توخّي الانتباه في المنطقة؟
أوليفيا لازارد: يتجاهل العالم بأسره موضوع التغير المناخي، لأننا لا نفهم أن نظم الحوكمة والأنظمة الاقتصادية تتسبب باستنزاف قدرة الطبيعة على العمل، وبالتالي على تأمين ما هو ضروري لبقائنا وبقاء الأنواع الأخرى. يصعب إدراك التحدّي الذي يلوح في الأفق، لأن المسألة لا تقتصر على الانتقال في مجال الطاقة وحسب، بل تتعلق أيضاً بإحداث تحوّل عميق على المستويَين السياسي والاقتصادي-الاجتماعي. ويقتضي ذلك الإخلال بالوضع القائم. لذا، من السهل أن نفهم لماذا لا يلقى الأمر ترحيب الأنظمة السلطوية التي قد تخسر قبضتها على السلطة، أو ترحيب المجتمعات الديمقراطية حيث يمكن أن يكون العمل المنسَّق أشدّ تعقيداً. وحتى فيما تقترب بعض المناطق في العالم، مثل أوروبا، من الانتقال المناخي، ما زلنا في المراحل الأولى من مسيرةٍ طويلة نحو التحولات العميقة التي سنحتاج إليها كي نعالج كما يجب العوامل المحرّكة للتغير المناخي، وعلى نطاق أوسع، التفكك الإيكولوجي الذي يهدد قدرة النوع البشري على البقاء في هذا الكوكب.
إذاً أوافقك الرأي بأن الأنظمة في الشرق الأوسط تتجاهل التغيّر المناخي، لأنها قلّما ترغب في الحديث عن أي تغيير جذري تحوّلي. ولكن هذا لا يعني أن المجتمعات تتجاهل التغير المناخي في حد ذاته، إذ يمكن القول إن الربيع العربي كان بمثابة مقبّلات متأثِّرة بالاضطرابات المناخية قلبت رأساً على عقب مفهوم العالم عن المنطقة، وسلّطت الضوء على الروابط القائمة بين الصدمات المجتمعية والبيئية. فقد كانت المجتمعات العربية سبّاقة في دق أجراس الإنذار بشأن مزيج من الوقائع والأحداث التي أدّت إلى حدوث اضطرابات ونزاعات سياسية اجتماعية مطوّلة، ومن ضمنها الجفاف، وشوائب الثقافة الأحادية، والمضاربات في مجال السلع الأساسية والتي أسفرت عن إخفاقات في الأسواق، وتفاقُم الحرمان الاجتماعي من دون أن تلوح في الأفق أي شبكة أمان. ففي العام 2011، شكّلت درجات الحرارة المرتفعة، وأنماط الطقس المتقلبة، وتراجع معدلات المتساقطات، والجفاف المطوَّل، والاعتماد المتزايد على المواد الكيميائية في زراعة المحاصيل، دوافع طويلة الأمد لهذه القضايا، بيد أن قلّة من المحللين تطرّقت إليها. خلاصة القول إن العوامل البيوفيزيائية التي تطبع التغير المناخي كانت آنذاك قائمة ولها تأثيرها.
يونغ: كيف كانت الانتفاضات العربية بمثابة “مقبّلات” متأثِّرة بالاضطرابات المناخية، على حدّ تعبيرك؟
لازارد: نادراً ما يُروى هذا الفصل من قصة عن الربيع العربي وتبعاته، لذلك سأتوقّف قليلاً عند هذه المسألة عبر الإشارة إلى تونس التي تتألف من مساحات شاسعة من الصحارى الإيكولوجية، أي ثقافات أحادية موجَّهة نحو التصدير ومنتشرة على امتداد النظر. وهذا يجعلها شديدة التأثّر بالصدمات المناخية والاقتصادية. قبل عامَين، تنقّلتُ في أرجاء البلاد ورأيتُ، بين الساحل السياحي حيث أوجه اللامساواة حادّة جداً وبين المناطق الاستخراجية في الجنوب، أن السياسات الزراعية والاقتصادية المطبَّقة منذ عقود حوّلت البلاد التي كانت خصبة في السابق إلى مساحة قاحلة من الصخور والغبار.
واليوم، بعد مرور عقدٍ على انطلاقة الربيع العربي، لا تزال البطالة تسجّل مستويات مرتفعة جداً في تونس، وعبثاً يبحث الشباب عن معنى أو فرص اقتصادية خارج الاقتصاد غير النظامي، ويعتمل الغضب والإحباط في المدن الواقعة في المناطق الداخلية، وتخضع حرية تنقّل الأشخاص من محافظة إلى أخرى لقيود شديدة. ترون وأنتم في سيدي بوزيد مثلاً، إسمنتاً مسبِّباً للكآبة داخل البلدة، أو صحراء قابِضة للنفس على مد النظر. لا حياة ولا أفق. يسيطر الجمود على الأراضي والاقتصاد، ويشعر الناس بأنهم عالقون. وقد فقدت الثقافات المحلية حيويتها، وتتسع الهوّة بين الأجيال بشكل مطّرد، فيما ترتفع معدّلات الإدمان على المخدرات، والعنف المنزلي، والتطرّف في هذه البيئة القاحلة والجرداء.
الأرض بمثابة لوحة رسمتها ريشة سياسات مروِّعة أعطت الأفضلية للممارسات الاستخراجية والافتراسية بدلاً من الحفاظ على النسيج الاجتماعي، والثقافة، والاقتصادات الحيوية. والمشكلة هي أن التغيّر المناخي يفاقم الأزمات التي تعانيها المنطقة أصلاً. ففي العام 2010، أقدم محمد بوعزيزي على إحراق نفسه في سيدي بوزيد مُطلقاً بذلك شرارة الربيع العربي. لكن قصته كانت تذكيراً إضافياً بمشاكل تتوغّل جذورها عميقاً، ومن ضمنها استغلال الموارد البيئية، وسوء استخدام الأمن الصلب على حساب الأمن الاجتماعي والبشري، وأوجه اللامساواة الاقتصادية المستمرة، وسوء الحوكمة، والعنف المتصاعد. غريبٌ فعلاً كم أن الأساليب الوطنية والدولية في التعاطي مع هذه المشاكل تتجاهل الجوانب البيئية التي تشكّل خلفيةً للعنف الاجتماعي والاقتصادي. هي لا تُركّز عليها بتاتاً.
أحاول هنا رسم صورة تعبّر عن مدى الترابط القائم بين البيئة والأمن البشري، والذي لطالما كان موجوداً لكننا بدأنا نتنبّه له على نحوٍ متزايد بسبب الاضطرابات المناخية. سوف تترتب عاقبتان اثنتان عن التغير المناخي، وهما تفاقم الأوضاع ونشوب الاضطرابات. ويدرك الشرق الأوسط ذلك جيداً. لقد انطبع تاريخ المساحات الطبيعية في المنطقة بالوفرة التي كانت مهداً للحضارة البشرية. ولكن سوء إدارة الموارد تسبّب باستنزاف قدرات الطبيعة وبدورات من العنف على مدى قرون من الزمن. واليوم، بلغت المنطقة مرحلة متقدّمة من التصحّر، في ظل تضاؤل الموارد المتوفرة للسكّان. ويقترن هذا التدهور البيئي مع قوّة متسارعة في الغلاف الجوّي، تتسبب بكوارث طبيعية مثل فيضانات، وموجات جفاف مدمِّرة وحرائق ناجمة عنها. وليس مفاجئاً أن يضمّ الشرق الأوسط من جديد جميع المكوّنات التي تطبع تاريخ زمننا الحديث.
حيثما يتراجع الأمن البشري بسبب الأنظمة الافتراسية والمستندة إلى الأمن الصلب، تكون الاقتصادات أكثر استخراجية للموارد الطبيعية. ولكن الطبيعة لم تعد قادرة على تحمّل عمليات الاستخراج هذه. فالموارد، مثل المياه أو خصوبة الأرض، لا تتضاءل فحسب، بل تزداد تقلّباً أيضاً. وقد بات الشرق الأوسط حافلاً الآن بالعوامل التي تنذر بحدوث كوارث مناخية، مثل الفيضانات الهائلة في شبه الجزيرة العربية، والحرائق في دول المشرق، والجفاف في كل مكان.
تكشف هذه الكوارث عن أمرٍ واحد بصورة أساسية، وهو أن أنظمة الحكم لم توفّر للناس شبكات أمان يمكنهم التعويل عليها، في ظل غياب الجهوزية والقدرة على الإغاثة. وهذا يعني، مجدداً، أن سكّان الشرق الأوسط يقفون وحيدين في معركة “الكرامة”، تلك الكلمة التي طبعت الربيع العربي، والتي قد تصبح شعاراً يُسمع صداه في إطار الاضطرابات التي ستشهدها المنطقة نتيجة الأزمات المناخية.
صحيحٌ أن بعض أنظمة الشرق الأوسط تتحدث عن التغير المناخي، وتحديداً الإمارات العربية المتحدة، ولكنها تفعل ذلك من دون اتّخاذ إجراءات تُذكر في هذا الصدد. تسعى تلك الأنظمة إلى إظهار أن القوة الاقتصادية والابتكار التكنولوجي يشكّلان وسيلةً لمواجهة الأزمة المناخية، لكنهما لن يجديا نفعاً. بل يجب إعادة النظر في آليات الحوكمة وفي الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية من منظور علاقتها مع الطبيعة. وعلينا أيضاً أن نكثّف بحثنا عن حلول مستندة إلى الطبيعة للتعامل مع الكارثة التي تتوالى فصولاً.
يونغ: ثمة من يقول بأن سبب اندلاع الانتفاضة السورية هو موجة الجفاف التي شهدتها البلاد بين العامَين 2007 و2010؟ هل هذا صحيح برأيك؟
لازارد: لا شك في أن الجفاف أدّى دوراً في الانتفاضة المتعددة الأبعاد في سورية. ولكن للجفاف قصته. فقد بدأ في العام 2007 وتواصل على مر السنين، وأصبحت أنماط المتساقطات أكثر تقلّباً. ويعود ذلك إلى سببَين اثنين: الاحترار العالمي الناجم عن تراكم فائض ثاني أكسيد الكربون في الجو، والتغييرات التي شهدتها المساحات الطبيعية على المستوى المحلي. فباستثناء الخط الساحلي، باتت الأراضي السورية، مع مرور الوقت، مجرّدةً من الغطاء النباتي الطبيعي المسؤول عن تخزين المياه في جوف الأرض وضخّها في الغلاف الجوي.
وإلى جانب القضاء على السلامة الإيكولوجية للأراضي (التي تنظّم المناخات المحلية)، تسببت عوامل أخرى بتقويض إضافي للإمكانات الزراعية في منطقة درعا ومناطق أخرى. لقد اعتمد نظام الأسد على محصولَين أساسيين في التصدير، هما القمح والقطن، ويحتاج كلاهما إلى كميات كبيرة من المياه. إذاً لم توفّر ظروف الغلاف الجوي هطول الأمطار، ناهيك عن وجود حوافز زراعية، مثل الدعم الحكومي، دفعت إلى استهلاك المياه الجوفية بطريقة غير مستدامة. كذلك، أدّى تحرير الاقتصاد إلى ارتفاع كبير في أسعار الديزل لم يستطع المزارعون تحمّله. وقد فشلت المحاصيل في نهاية المطاف، فانهار الاقتصاد الذي كان يكابد أصلاً، وبات الناس يعانون من جرّاء الانعدام الحاد للأمن الغذائي وتردّي الأوضاع الاقتصادية، وتُرِكوا في الأغلب لتدبّر شؤونهم بأنفسهم.
وقد أعقب ذلك نزوحٌ كثيف من المناطق الريفية إلى المدن، فضلاً عن حدوث طفرة في الاقتصاد غير النظامي الذي غالباً ما يترافق مع تعرُّض جميع أفراد الأسرة لسوء المعاملة ومخاطر شتى. إنها عملية شديدة العنف تؤدّي إلى قطع الأرزاق وتفلّت أمني خارج عن السيطرة. فقد تسبّب تدفّق الأشخاص إلى مدن معيّنة باستهلاك غير مستدام للمياه، ما أثار تشنجات بين المجتمعَين “القديم” و”الجديد”. وقد استُنزِفت الأراضي على نحوٍ يفوق طاقتها، فيما ركّزت الدولة فقط على احتواء الوضع المحتدم من خلال نشر القوى الأمنية. وبات السكّان عالقين بين شحّ الموارد من جهة والعنف من جهة أخرى. ولا عجب في أن المجتمعات المحلية انتفضت. أُكرِّر إذاً، هذه قصة يتخلّلها تفاقم الأوضاع ونشوب الاضطرابات.
كنتُ في سورية في العام 2009، وأتذكّر أن جميع الأشخاص الذين تحدثت معهم في مجتمعات محلية مختلفة قالوا إنهم يقبلون بالرئيس بشار الأسد باعتباره “شرّاً يعرفونه”. هم يعلمون أن التوازن القائم بين الدولة المركزية والعشائر والمجتمعات المحلية المختلفة هو توازنٌ هش، إنما يمكنهم الاعتماد عليه في ظل غياب بديلٍ أفضل. لكن هذا التوازن اختلّ عندما بدأ النزوح الكثيف والإفقار والعنف بالتفاقُم. وقد تصرّفت الدولة بطريقة أدّت إلى الانهيار النهائي الذي لا عودة عنه للعقود الاجتماعية المتعددة التي حكمت العلاقة بين الأسد ومختلف الفئات الشعبية.
عند النظر إلى المنطقة من منظور بيئي، تتراءى إليك حكاية شعوب وسياسات اقتصادية وهيكليات حوكمة. حين تسأل أي شخص متقدّم في السن في الشرق الأوسط، كيف كانت الأرض قبل 60 إلى 70 عاماً، سوف يُمضي ساعات في الحديث عن فواكه وخضار كان مذاقها ألذّ، وعن أشخاص كانوا أكثر مرونة وقدرة على الصمود، وعن مجتمعات محلية كانت أكثر تداخلاً وترابطاً. عموماً، تعكس حالة الأرض الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، أي تعبّر عن الصمود أو العوز. ومع ازدياد التحرر الاقتصادي خلال العقد الأخير، ولا سيما من خلال التعديلات البنيوية، ظهرت أوجه اللامساواة والتفكك الاجتماعي. تُعتبر هيكليات الحوكمة في الشرق الأوسط شديدة المركزية ومنظَّمة بصورة غير رسمية استناداً إلى انتماءات متمحورة حول الثقافة والهويّة. وقد أدّى الجمع بين هذين الجانبين إلى سياسات قائمة على مكاسب للمجموعات ومناورات ينتصر فيها فريقٌ معيّن على حساب الآخر. في الاقتصادات الحديثة، يعني ذلك أن الأراضي وغيرها من الموارد الطبيعية بمعظمها جزءٌ من نموذج اقتصادي عكسي من القاعدة إلى أعلى الهرم حيث تُفيد حفنة ضئيلة من الموارد على حساب الموارد العامة الاجتماعية والطبيعية.
التغيّر المناخي قوة مقوِّضة للنظُم السائدة، من شأنها الإخلال بالتوازنات القديمة من دون أن تتمكّن الدول السلطوية والبيروقراطيات غير الفعّالة من التعامل معها كما يجب. إذاً، التغيّر المناخي مرتبط بالسياسات العامة في المنطقة، وسوف يؤدي إلى تداعيات هائلة ومتسارعة في السنوات المقبلة.
يونغ: يؤدي المناخ الأكثر جفافاً إلى تبعات عدة من بينها تفاقم الشح في المياه. هل بإمكانكِ تخيّل السيناريوات المحتمل حدوثها إن لم تعالج الدول العربية مشكلة المياه؟ وما السبل الممكنة لحلّ هذه الأزمة؟
لازارد: بدايةً، لا بدّ من تصحيح تصوّر خاطئ. يتسبّب شح المياه بخلل مناخي يفاقم بدوره ندرة المياه. بعبارة أخرى، يُصبح المناخ أكثر جفافاً نتيجةً لسوء إدارة الأراضي والموارد المائية والبرية. وهذا ما يحدث على مستوى العالم أجمع، مقروناً بحرق الوقود الأحفوري، ما يؤدي إلى اضطرابات في النظام المناخي العالمي. وتُعدّ السياسات الزراعية والاستخراجية وتلك المعنية بالطاقة من العوامل الأساسية المسبّبة لشح المياه. إذًا، جلّ ما يفعله التغيّر المناخي هو مفاقمة مشكلة ندرة المياه القائمة أصلاً.
ننتقل الآن إلى السيناريوات. من الصعب جدّاً وضع تصوّرات محتملة لأن ذلك رهنٌ بعوامل عدة منها مستويات المياه ومصادرها وتدفقاتها، والبنى التحتية المائية، والعلاقات الاجتماعية-الاقتصادية التي تربطنا بالمياه. لكن يبدو واضحاً أن الأنشطة البشرية هي السبب وراء استنزاف الموارد المائية، ولم يحدث ذلك بين ليلة وضحاها. لذا، قد تظهر أوجه الخلل والتدهور الاجتماعي-السياسي الناجمة عن هذا الواقع على شكل تراكمات، إذ يتفاقم الوضع تدريجياً حتى يبلغ حالةً من الغليان والاضطرابات.
لنأخذ على سبيل المثال دولتين مختلفتين لفهم تأثير ندرة المياه على الاستقرار. يشهد الأردن راهناً أسوأ موجة جفاف منذ تسعة قرون. فقد أدت تدفقات اللاجئين المتتالية من فلسطين ثم العراق فسورية خلال العقود الأخيرة إلى تجمّعات سكانية متعدّدة ومفاجئة في مناطق مختلفة من البلاد. وفي السنوات الأخيرة، عانت محافظتا المفرق وإربد مستويات حادة من شح المياه في موسم الصيف، ما تسبّب بتوترات شديدة بين اللاجئين والمجتمعات المحلية المضيفة، وبزيادة نسبة الإجرام، وفاقم كراهية الأجانب، ما حدا بالدولة الأردنية إلى اتخاذ إجراءات أمنية مشددة. ونتيجةً لشح المياه، عمد الناس إلى حفر آبار خاصة على الأحواض المائية المحلية لحفظ المياه فيها، بيد أن خطوات كهذه تفاقم مشكلة الشح، ناهيك عن أنها قد تؤدي إلى تلوّث المياه.
على مستوى بنيوي أكثر، تشهد هاتان المحافظات والمناطق المحيطة بها أنشطة زراعية كثيفة تزيد استنزاف الأحواض المائية المتوفرة. فعمّان، حيث تخضع الحكومة إلى ضغط سياسي أكبر، تسعى إلى تطوير بنية تحتية أكثر فاعلية وتلجأ إلى محطات تحلية مياه البحر من أجل توفير كميات أكبر من المياه. لكن الوضع مختلف في سائر أنحاء البلاد، حيث تتفاقم ندرة المياه، وتؤدي إلى تأثيرات جانبية عدة. حتى الآن، لا تزال البلاد قادرة على احتواء هذه التداعيات، لكن إلى متى؟ وماذا سيحدث حين تصبح عاجزة عن ذلك؟ للحصول على جواب وافٍ، لا بدّ من دراسة الاستجابات السياسية والمرتكزات الإيكولوجية المترابطة التي تؤثّر على الموارد المائية الأردنية، لاستشراف أشكال العنف التي قد تحدث في المستقبل ومداها الجغرافي.
لا يستطيع التقدّم التكنولوجي أن يحقّق إنجازات هائلة على المستوى الإيكولوجي. طالما أن الأردن قادر على التعويض عن نقص المياه بما يضمن استدامته الاقتصادية، سينجح في الحفاظ على مستوى معيّن من الاستقرار، وقد تبقى النزاعات على المياه مقتصرة على توترات اجتماعية لا أكثر أو محصورة ضمن مناطق جغرافية محددة. لكن هذه الكلفة ستزداد على مرّ الزمن، ما سيزعزع الاستقرار الاقتصادي ويمسّ النسيج الاجتماعي. وإذا عمد الأردن إلى استخدام القوة والعنف ردّاً على هذه التطورات، بدلاً من إعادة النظر في النهج المتّبع للتعاطي مع اقتصاد البلاد ونسيجها الاجتماعي، فسيدفع ثمن ذلك باهظاً في العقد المقبل.
أما في العراق، فمعالم الصراع على المياه بدأت تظهر جلياً، ولا سيما على مستوى النظام الإيكولوجي في منطقة الأهوار الجنوبية. فالبنى التحتية الكهرمائية هناك تلقي بظلالها على الروافد الفرعية التي تغذّي هذا النظام الإيكولوجي، إذ تحدّ من تدفقات المياه، وتفاقم التلوث، وتزيد نسبة الملوحة، وتقوّض التنوع البيولوجي المحلي. ونتيجةً لهذا التدهور البيئي، ينزح سكان المنطقة باطّراد إلى المدن التي تعاني أيضاً أزمة مائية. أدى هذا الواقع إلى زيادة الطلب على المياه المستوردة، ما اضطر الأسر، حتى تلك الضعيفة اجتماعياً، إلى إنفاق مداخيلها على شراء المياه للتعويض عن النقص الحاصل. تنبئ كل هذه التراكمات التدريجية بحدوث اضطرابات اجتماعية، تترافق مع تنامي الشعور بالإحباط حيال الدولة المركزية التي تعجز عن توفير أبسط الخدمات لأبناء شعبها، وتسعى بشتى الوسائل إلى إضفاء الشرعية على نفسها.
يعتمد العراق على تركيا وإيران لتوفير المياه. وكلما ازداد عجز الحكومة العراقية عن تأمين الحاجات المحلية، تنامى احتمال تصاعد حدّة التوترات مع جيرانها. وإن لم يؤدِّ ذلك مع مرور الوقت إلى اندلاع حرب مفتوحة، وهذا مستبعد نظراً إلى ضعف القدرات الدفاعية العراقية، فسيقوّض فرص التعاون الرامي إلى وقف استنزاف الموارد المائية. وسيزعزع ذلك استقرار الدول كافة، ويجعلها أكثر تأثّراً بمخاطر التغيّر المناخي. علاوةً على ذلك، حين تقرّر كل دولة على حدة إعطاء الأولوية لحاجاتها المحلية بدلاً من التعاون مع بعضها البعض من أجل تحقيق السلامة الإيكولوجية والتجديد البيئي، فهي تسهم فعلياً في زعزعة استقرارها وفي التدهور البيئي. ببساطة، قد تصبح هذه المنطقة غير صالحة للعيش خلال العقود المقبلة.
أما الحلول، فهي للأسف قليلة، لذا سأكتفي برسم بعض الخطوط العريضة. أولاً، تحتاج الدول والمناطق إلى الابتعاد عن الأنشطة التي تستنزف أحواض المياه الجوفية، وهذه ليست مهمة سهلة لأنها تشمل قطاعات متعددة. في بادئ الأمر، لا بدّ من الاعتماد على الزراعة التجديدية، والأنظمة التي تتسم بكفاءة استخدام الطاقة، وتطوير بنى تحتية التي لا تشكّل تعدياً على الأنظمة البيئية. يُضاف إلى ذلك أن هذه العملية لا تتطلب تحولاً اقتصادياً على مستوى الدولة وحسب، بل أيضاً تغييراً في الهيكليات والأطر الاقتصادية على الصعيد العالمي. فعلى سبيل المثال، يجب ألا تدخل المنتجات الزراعية في لعبة المضاربات الدولية على الأسعار، وأن يصبّ الإنتاج بالدرجة الأولى في خدمة الاستهلاك المحلي ويعزّز القدرة على الصمود. ويتعيّن على الدول التشجيع على تنويع الإنتاج الزراعي، بما في ذلك العودة إلى زراعة البذور والأصناف التقليدية المحلية، بدلاً من اختيار محاصيل لا تتناسب ببساطة مع التركيبة الإيكولوجية للمناطق التي تعاني من التصحّر.
ثانياً، على دول الشرق الأوسط تبنّي ممارسات تجديدية في مجال تنسيق المساحات الطبيعية من شأنها أن تساعد على حفظ المزيد من مياه الأمطار في التربة. أما على الصعيد العالمي، فلا بد من تسخير الدورة الهيدرولوجية لاستعادة المناخات الصالحة للعيش، واتّخاذ تدابير استباقية للحد من أضرار الفيضانات. والمُلفت هنا أن هذا القطاع يتطلّب كفاءات جديدة، ويحتاج أيضاً إلى الكثير من الأيدي العاملة. باختصار، من الضروري إعادة تنسيق المساحات الطبيعية بطريقة تمكّنها من الاحتفاظ المياه، وتجعلها منتجة من جديد. ينطبق هذا الحديث على الشرق الأوسط بشكل خاص، لأن إعادة إحياء الأنظمة البيئية تنطوي أيضاً على إعادة إحياء الزراعات المحلية الملائمة للتربة. ولطالما اعتُبر الشرق الأوسط مهداً للحضارات بفضل الإمكانيات الزراعية الكبيرة التي تمتّع بها خلال فترة طويلة من تاريخه. لذا، ثمة أمل بأن يتعافى القطاع الزراعي في المستقبل.
يونغ: هل ستتمكّن حكومات المنطقة يوماً من وقف اعتمادها، تدريجياً، على السياسات الاستخراجية التي ألحقت الضرر ببيئتها؟ أم أنها لا تنوي ذلك؟
لازارد: أعتقد أنها لا تفكّر في هذا الاحتمال، لكن ذلك لا يقتصر على حكومات المنطقة وحسب. تُعتبر السياسات الاستخراجية إحدى خصائص الاقتصادات الموجهة نحو النمو والتي تتطلب طاقة، ولن تتوقف ما لم نغيّر استخدامات الصناعات الاستخراجية. فستبقى قيمة الشجرة أعلى بعد قطعها، وقيمة الموارد الجوفية أكبر بعد اكتشافها واستخدامها، بدلاً من تركها تحت الأرض. لقد ساهمت هذه الممارسات العدوانية لاستخراج الموارد في رسم معالم الشرق الأوسط كما نعرفه. وترافق ذلك مع عوامل أخرى مثل النمو الاقتصادي والسياسات الاقتصادية الافتراسية، وأوجه اللامساواة، والحرمان من الحقوق، والفساد والعنف والحرب، إضافةً إلى السلطوية.
للأسف، من المرجح أن نشهد تزاحماً جديداً على الموارد المرتبطة بالطاقة المتجدّدة. يشار إلى أن الشرق الأوسط لعب لفترة طويلة دوراً محورياً في المسار الاقتصادي العالمي الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه راهناً، لكنه لن يتمتّع بالأهمية نفسها في حلبة التنافس على الطاقة لأنه لا يملك الموارد الضرورية لذلك، مثل معادن التربة النادرة والمواد ذات الصلة. صحيحٌ أن الدول الشرق الأوسط وُهبت ضوء الشمس الطبيعي الذي قد يساعدها في عملية الانتقال المرتبطة بالطاقة، إلا أن المواد والتكنولوجيا المُستخدمة لتسخير هذه الطاقة المتجددة موجودة في الملعب الذي ستدور فيه المنافسة على الموارد، الأمر الذي سيؤدي إلى بروز عوامل جديدة مزعزعة للاستقرار في جميع أنحاء العالم. الجدير ذكره هنا هو أن هذه المواد والتكنولوجيا اللازمة غير موجودتين في الشرق الأوسط، ما يعني أن مركز الثقل في سياسات الطاقة سيتحول تدريجياً إلى مناطق أخرى. لا شكّ في أن هذا الانتقال سيكون مربكاً، لكنه قد يُشكّل في الوقت نفسه فرصة لتجربة نماذج اقتصادية مختلفة على أساس تجديد الأنظمة الإيكولوجية. في هذا السياق، أبدى الاتحاد الأوروبي استعداده للتعاون مع شركائه في الشرق الأوسط حول عمليات انتقالية المتنوعة. مع ذلك، يبقى من الضروري معرفة أشكال الحوكمة المطلوبة لإطلاق عمليات انتقالية مرنة من شأنها إعادة إحياء الاقتصادات المحلية والوطنية من الصفر.
يونغ: ما هي، برأيكِ، أبرز ثلاث مشاكل بيئية ملحة يتعيّن على دول المنطقة أن تضعها في صُلب أولوياتها خلال العقد المقبل؟
لازارد: أعتقد أن ندرة المياه وتدهور التربة سيؤديان إلى فشل المحاصيل. وستتسبب الفياضانات بمزيد من الكوارث الإنسانية والاقتصادية، وستُلحق أضراراً بالبنى التحتية المتردية أساساً. ويُرجّح كذلك أن تتسارع وتيرة التوسّع الحضري، لتفاقم استنزاف المياه الجوفية. إضافةً إلى ذلك، ستُحدث التحولات العالمية في قطاع الطاقة تغييرات في هيكليات أسعار النفط، ما قد يؤدي فعلياً إلى ارتفاع المداخيل على المدى القصير، وربما إلى تكثيف الاستثمار في الأمن. لكن المشكلة البيئية الأكثر إلحاحاً هي أننا على مشارف حقبة جديدة من الحلقات المفرغة بدلاً من الصدمات المنعزلة، بيد أن هذا المآل ليس حتمياً وعلينا كسر هذه الحلقات.
ويتمثّل التحدّي الأكبر الذي يواجه الشرق الأوسط، كما سائر مناطق العالم، في إعادة إرساء السلامة البيئية، أي إعادة تشكيل مساحات طبيعية يمكن أن تحوي الكربون والماء، لتحقيق استدامة النشاط الإنساني من جديد. باختصار، يجب استرجاع التوازنات التي تسهم في رسم مسار اجتماعي-اقتصادي مختلف، والتكيّف مع التغيُّر المناخي وعكس مفاعيله مع مرور الوقت.
ويتطلّب ذلك نمطين من التغيير: التكيّف والتحوّل. من ناحية التكيّف، باتت الكوارث المرتبطة بالمناخ جزءاً من نظام الأرض بسبب الانبعاثات السابقة والتدهور البيئي. أما القضية الأكثر إلحاحاً فتتمثّل في تنبّؤ مكان وكيفية وقوع الكارثة والاستعداد لها. ويتطلّب ذلك ضمان القدرة على احتواء الصدمات بصورة مستمرة في المستقبل، وبالتالي تكاتف الجهود والموارد على الصعيديْن الدولي والإقليمي، إضافةً إلى إعادة تصميم المساحات الطبيعية لتخفيف حدة الكوارث وتخزين أكبر كميات ممكنة من مياه الفيضانات. قد تبدو هذه الإجراءات مبهمة للغاية إن لم يكن المرء ملمّاً بالتخطيط الإيكولوجي، لكن يكفي إلقاء نظرة على مشروع “تخضير الصحراء في الأردن” مثلاً أو مشاريع تجديدية في السعودية، لمعرفة كيف يمكن تنسيق المساحات الطبيعية لتتكيّف مع التحديات الجديدة.
أما مرحلة التحوّل، فهي صعبة ومحفوفة بالتحديات. فالتغيّر المناخي يستدعي إعادة نظر جذرية للأنظمة السياسية والاجتماعية-الاقتصادية، ما يعني تغيير آليات عمل قطاعات الزراعة والطاقة والبنى التحتية وسائر الأنظمة الاقتصادية وعلاقاتها بالبيئة. ويشمل ذلك أيضاً التفكير في أنظمة حكم قادرة على توفير مساحة آمنة للسكان وبيئة صالحة للعيش.
مايكل يونغ