اياد العناز
أعطت المواجهة الإسرائيلية الإيرانية ملامح جديدة لمستقبل الشرق الأوسط والوطن العربي وامتدت لأيام بلغت 12 يومًا برزت فيها الكثير من الحقائق والدلائل السياسية ومنحت آفاق جديدة لفهم ميداني واسلوب في التعامل مع أي متغيرات قادمة عبر عدة أدوات ومستلزمات تخص واقع الحال الذي يمر به الإقليم، من هنا كان على جميع المهتمين بالشأن السياسي والاقتصادي المتعلق بطبيعة العلاقات القائمة في منطقة مهمة تعنى بمصالح ومكاسب دول العالم وسعيهم للحفاظ على أهدافهم وتعاملاتهم التجارية واستمرارتدفق الطاقة العالمية من النفط والغاز وحماية الممرات والمضايق الدولية والإقليمية.
كانت القيادة الإيرانية تتطلع ووفق متطلباتها وأهدافها مشروعها الإقليمي إلى مفهوم سياسي اطلق عليه المرشد الأعلى علي خامنئي ( الشرق الاوسط الإسلامي) تكون هي ركيزته الأساسية عبر العديد من وكلائها وشركائها المتحالفين معها والداعمين لسياستها في التمدد والنفوذ والمرتبطين عقائديًا وفكريًا وتسليحيًا بالقيادات العليا لفيلق القدس والحرس الثوري الإيراني والسعي للهيمنة على المنطقة وتطبيق المنهج السياسي في تصدير الثورة الإسلامية التي نص عليها الدستور الإيراني في مادته الخامسة والذي أقرها في سنة 1979 بعد وصول الخميني إلى إيران قادمًا من منفاه الأوربي في العاصمة الفرنسية (باريس) وتسلمه لمقاليد الحكم بعد مغادرة شاه إيران في منتصف كانون الثاني 1979.
أرادت إيران من إطلاق هذا المشروع لتتمكن من قيادة الشرق الأوسط حسب رؤيتها وأفكارها وبما أعلنت عنه من أنه مشروع لمواجهة الهيمنة والتسلط الأمريكي ولكنها لم تتمكن من الإستمرار والتحكم في الأحداث السياسية التي عصفت بالمنطقة العربية وما آلت إليها من نتائج ومتغيرات سياسية أصابت المشروع السياسي الإقليمي الإيراني وضربت العديد من خواصره المهمة واسقطت نظامًا سياسياً كانت ترى فيه طهران الأداة الفاعلة في تنفيذ مبتغاها بشرق أوسط إسلامي بسقوط نظام بشار الأسد المربع الذهبي والساحة الرئيسية في الثوابت العقائدية للنظام الإيراني، ومن قبله كان ضعف ارادتها وغياب تأثيرها على ساحة وميدان مهم في الجنوب اللبناني بمقتل وغياب حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله وغالبية قياداته السياسية والأمنية والعسكرية، هذه الوقائع كان لها تأثيرها المباشر والفعلي في تدحرج الهدف السياسي الذي سعى إليه المرشد الأعلى علي خامنئي.
رأت القيادة الإيرانية في عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض واعلانه عن رؤيته في الأوضاع القائمة بمنطقة الشرق الأوسط وعمله باتجاه ابعادها عن أي تدخلات صراعات سياسية ونزاعات عسكرية فرصة ذهبية تستطيع من خلالها إعادة توازنها السياسي وتأثيرها الإقليمي، وافقت على المبادرة الأمريكية التي أطلقها الرئيس ترامب عبر مفاوضات غير مباشرة بين واشنطن وطهران برعاية عربية خليجية عبر الوسيط العربي العُماني لمناقشة مستقبل البرنامج النووي الإيراني وفق الشروط التي اقترحتها الإدارة الأميركية والتي تضمنت تفكيك أو تعطيل المنشآت النووية ووقف عمليات تخصيب اليورانيوم ومناقشة ملف الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة والمشروع السياسي في التمدد والنفوذ الإيراني بمنطقة الشرق الأوسط والوطن العربي.
حاولت إيران استثمار جولات التفاوض الخمسة التي عقدت في مسقط وروما لاطالة الوقت وإمكانية تعزيز مواقفها الدولية والإقليمية وعينها على العودة لمشروعها في شرق اوسطي إسلامي، لكنها لم تحظى بما كانت تسعى إليه لعدة اسباب منها عدم نجاحها في قيادة جولات الحوار مع واشنطن بشئ من الدبلوماسية والحوار السياسي والمرونة في التعامل بل عملت على استخدام سياسة إظهار القوة والتعنت والممانعة في مناقشة الملفات العديدة والتي ابتدأت بأهم ملف رئيسي يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، رغم أنها توقعت بل امتلكها حالة من الاطمئنان السياسي في العلاقة مع الإدارة الأميركية حتى فاجأتها الضربات الجوية والصاروخية الإسرائيلية فجر يوم الثالث عشر من حزيران 2025 والتي كانت بموافقة أمريكية أولية ثم مالبثت أن تكون مشاركة فعلية بعد عشرة أيام من المواجهة، عندما اقدمت القوة الجوية والصاروخية الأمريكية على ضرب المنشآت النووية في ( أصفهان ونطنز وفوردو) بعد عملية الرفض الذي اقدمت عليه إيران في الاستماع أو مناقشة الاملاءات الأمريكية حول النشاطات النووية وضرورة إيقاف العمل بتخصيب وزيادة نسب اليورانيوم وخزن الطرود المركزية الفاعلة.
ألحقت الضربات الإسرائيلية أضرارًا كبيرة بالبنية التحتية لمنظومة الدفاع الإيراني والقوة الصاروخية بتدمير العديد من منصات الإطلاق ومواقع الإنتاج الرئيسي للوقود الصلب والسائل ومخازن الصواريخ الاستراتيجية، ولكن بعض من المواد والمخزونات بقت على حالها لم تصاب بأي ضرر، وفقدت إيران السيطرة على مجالها الجوي ولم يتبق لها أي سلاح رادع تمثل في قوتها الصاروخية ، ورغم ذلك قامت إيران بتوجيه مئات من الصواريخ البالستية بعيدة المدى وبعدة مديات تسببت في أضرار جسيمة داخل العمق الإسرائيلي وإصابت أهداف عسكرية وأمنية واقتصادية، رغم قيام إسرائيل باعتراض غالبيتها ولكنها شكلت عاملًا مهمًا وتحديـًا في المواجهة.
ومع توقف القتال في الخامس والعشرين من حزيران 2025، إلا أن المرشد الأعلى لا يزال يطمح بتنفيذ رؤيته حول الشرق الأوسط عندما أشار بقوله إلى ( أن اللعبة لم تنته) وأصبحت جميع التوقعات في الميادين كافة مطلقة ومفتوحة والمسارات السياسية مستمرة في إمكانية إيجاد حلول لنزع فتيل المواجهات مرة أخرى والذهاب إلى مفاوضات بين واشنطن وطهران بوساطات عربية ودولية، وهو ما يمكن أن نراه في انعقاد الجولة السادسة في الأيام المقبلة، واعتماد مبدأ المسار السياسي هدف مرحلي في التفاوض الذي ترى فيه إيران أن العودة إليه يجب أن يكون بضمانات دولية بحماية نظامها السياسي وعدم الانسحاب الأمريكي من أي تفاهمات جانبية في اعتماد صيغة مقبولة لامتلاك إيران بعملية تخصيب اليورانيوم على أرضها لغايات سلمية ووفق ما تمليه القوانين والأنظمة الدولية، ومع أن الرئاسة الإيرانية قد أقرت عدم التعامل مع الوكاله الدولية للطاقة الذرية ومنع مفتشيها ورئيسها روفائيل غروسي من القدوم لإيران وزيارة المنشآت النورية إلا أن التصريح الذي أعلنه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بتاريخ الثالث من تموز 2025 بأن ( التعاون مع وكالة الطاقة الذرية سيتم عبر المجلس الأعلى للأمن القومي) وأن إيران لا زالت ملتزمة بمعاهدة منع الانتشار النووي واتفاقية الضمانات الخاصة بها، يشكل دلالة قطعية على تغيير في السلوك الإيراني بعد الرفض الدولي الذي جاءت به القرارات الإيرانية باعتبار عمل الوكالة الدولية ( عملًا تجسسيًا) لصالح جهات دولية ورفض استقبال العاملين فيها.
إيران لا زالت ترى أن أي مبادرة أو حوار سياسي قد يفضي إلى موقف أمريكي وتحرك إسرائيلي يؤدي إلى مواجهة عسكرية أخرى، وأنها في حالة من الانشداد وإمكانية حدوث أي طارئ يعرض أمنها للخطر رغم جميع الاتصالات المتبادلة مع عدد من الوسطاء في الدول الأوروبية والأقطار العربية.
أن الولايات المتحدة الأمريكية تعلم جيدًا أن إيران ورغم الضربات الموجهة التي تلقتها وإصابت جميع المرافق الحيوية فيها وجعلتها أكثر ضعفًا، إلا أن نظامها السياسي باقي ولكنه لا يشكل تأثيرًا فاعلًا كما كان قبل الضربات الإسرائيلية الأمريكية، وهذا ما يعني لحلفائه في موسكو وبكين شيئًا إيجابياً رغم ان البلدين لم يكن لديهما أي استعداد لتقديم معونة عسكرية لإيران أو محاولة في إيقاف القتال مع إسرائيل، ولكن إيران ترى أن من مصلحتها أبقاء العلاقة والتعاون الثنائي قائمة مع روسيا والصين، مع وجود محاولة روسية للتوسط في إنهاء موجبات النزاع القائم والتأكيد على سلمية البرنامج النووي الإيراني واستعدادها للمشاركة في أي مفاوضات وحوارات للتعامل مع مخزون اليورانيوم المخصب في إيران وإمكانية تحويله إليها كما حدث في اتفاقية العمل الشاملة المشتركة تموز 2015،والصين ترى مكاسبها الاقتصادية ببقاء إيران واستمرار توريد النفط لها واستمرار حركة التجارة عبر مضيق هرمز دون أي مشاكل وعوائق تفرضها حالات النزاع العسكري، وكان الرئيس الأمريكي ترامب قد أخبر رؤساء وحكومات الدول التي حضرت اجتماعات قمة الحلف الأطلسي في 25 حزيران 2025 ( أنه لن يمنع الصين من شراء النفط الإيراني) وهي إشارة أمريكية لتخفيف العقوبات وعدم تشديدها على إيران وإلغاء سلسلة من القوانين النافذة المتعلقة العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد دفعت بصغوط اقتصادية على البنوك والمصارف المالية في عدة دول لتقييد وصول إيران جزئيًا أو كليًا إلى أصول تقدر بنحو 100 مليار دولار معظمها تعود لعمليات تصدير النفط الإيراني.
القيادة الإيرانية عليها أن تتعامل بدقة في علاقتها الدولية والإقليمية وتعالج حالة العزلة السياسية التي تعانيها للوصول إلى اتفاق دائم يتعلق ببرنامجها النووي وبملفها الخاص بالصواريخ البالستية بعيدة المدى، وعدم الركون إلى قرار وقف إطلاق النار دون اتخاذ قرارات حاسمة يراها المجتمع الدولي خطوات كفيلة بالحد من النشاطات النووية والقدرات الصاروخية الإيرانية، وأن تتخلى طهران عن خيار تطوير السلاح النووي بشكل دائم والحد من عدد وأنواع الصواريخ الباليستية التي يمكن لإيران تطويرها.
أن الولايات المتحدة الأمريكية جادة في عملية تقويض البرنامج النووي الإيراني والتلويح بإمكانية إعادة فرض العقوبات من قبل الأمم المتحدة بالتعاون مع حلفائها وشركائها الأوربيين في حال امتناع إيران عن الاستجابة لأي مبادرات أمريكية أو حوارات سياسية، وهذا ما سيساعد دول ( فرنسا وبريطانيا وألمانيا) للتفاوض مع إيران على اتفاق يشمل قيام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتفتيش والتحقق لتحديد مكان القدرات النووية الإيرانية وإيقافها.
أن إيران عليها ان تدرك وبعد العديد من الانكسارات السياسية والعسكرية التي واجهتها في لبنان وسوريا وانكفاء وكلائها وشركائها من المليشيات والفصائل المسلحة وعدم مساندتها في مواجهتها مع إسرائيل، أن مشروعها الشرق الأوسط الإسلامي قد أصابه الخلل وأن ميزان القوى في الشرق الأوسط يشهد تحولاً واضحًا بعد أن تم استهداف أدوات وشبكات الوكلاء الإيرانيين في سوريا ولبنان وتقيد حركتها في العراق وإضعاف دورها في اليمن، وهو ما شكل ضعفًا سياسيًا ميدانيًا للمشروع الإيراني الإقليمي وأصبحت طهران في موقف تسعى فيه لهدنة سياسية وتخفيف للعقوبات عنها، مع تزايد ملحوظ في النشاط الإستخباري الأمريكي الإسرائيلي لمتابعة حركة ونشاط وتواجد أذرع إيران وتوابعها في المنطقة، خاصة بعد الاختراق العميق للمنظومة النووية الإيرانية والأجهزة والمؤسسات الأمنية الإيرانية وحرمة واماكن تواجد قياداتها.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية