الرفض الشعبي المؤقت للتطبيع لا يؤثر على تحولات الانفتاح على إسرائيل

الرفض الشعبي المؤقت للتطبيع لا يؤثر على تحولات الانفتاح على إسرائيل

لغضب الذي أثارته لقاءات للفنان محمد رمضان بإسرائيليين أعاد إلى الواجهة قضية التطبيع، وهل هي قرار سياسي أم يجب أن تكون مسنودة بعمق شعبي.. لكن الحادثة كشفت كذلك أن القضية لم تعد تغري الأجيال المصرية الجديدة التي تبدو أكثر براغماتية ومتحررة من تراكمات الماضي، خاصة بعد أن تم إخراج قضية التطبيع من التوظيف السياسي، وقد كانت ورقة الإخوان في مواجهة مختلف الحكومات.

القاهرة – كشفت ردود الأفعال على خلفية لقاء الفنان المصري محمد رمضان بعدد من الفنانين الإسرائيليين مؤخرا في دبي، أن رفض التطبيع ما زال حاضراً على المستوى الشعبي، في حين أن العلاقات السياسية الرسمية تسير في اتجاه مغاير، ما أضفى أبعادا وقتية على الصخب وعلى منتقدي رمضان على مواقع التواصل الاجتماعي.

ورغم تدخل نقابتي المهن التمثيلية والصحافيين بمصر على خط الأزمة وتمسكهما برفض التطبيع واتخاذ إجراءات عقابية ضد رمضان، لكن خطاب الممانعة ذاته لم يشهد تحولات منذ أن وقعت مصر على اتفاق السلام مع إسرائيل قبل 40 عاماً، في حين أن الأجيال الصاعدة تبدو غير مقتنعة كثيراً به.

ولم يقدم الخطاب المناهض للتطبيع سوى رفض رمزي لكل متعاون مع إسرائيل دون أن يقدم بديلاً، ويكاد يقتصر على كونه رد فعل مؤقت على حوادث من نوعية لقاء الفنان محمد رمضان بإسرائيليين، أو على شاكلة زيارة الحقوقي سعدالدين إبراهيم لإسرائيل مطلع عام 2018، أو حتى على مستوى زيارة السفير الإسرائيلي لمنزل الإعلامي توفيق عكاشة، والذي كلفه تجريده من عضوية البرلمان.

وحذر مستشار مركز الفكر والدراسات بالقاهرة، عبدالمنعم سعيد، من التمادي في الاعتقاد بصحة مقولة الصحافي الناصري الراحل محمد حسنين هيكل بأن للحكومات ضروراتها وللشعوب اختياراتها، بشأن التعاون مع إسرائيل، لأن ذلك يفتح أبواب الوقيعة بين المواطنين وحكوماتهم، ويضع الأخيرة في مأزق سياسي بالغ.

وذكر لـ”العرب”، أنه لا ضرورات تجبر الحكومة المصرية على التعامل مع إسرائيل بعد أن نجحت القاهرة في تحرير الأرض، بل هي مصالح مشتركة، وأن الانتقاد المصري الوحيد لإسرائيل حالياً يرتبط بالموقف من القضية الفلسطينية، والبحث عن تسوية سياسية مقبولة لها.

وأضاف أن الحديث عن غضب شعبي مصري ضد التطبيع ليس في محله، وكل رأي في هذا المضمار يعبر عن رأي قائله، فمواقف النقابات المهنية التي تحركت على وقع الأزمة الأخيرة تأتي دائما في إطار بحثها عن أدوار سياسية، واللعب على أوتار عواطف أعضائها لتأمين حضورها مستقبلا.

ويميل قطاع كبير من المراقبين إلى أن محمد رمضان يعبر عن قطاع من الشباب، أغلبهم لا يعلم شيئا عن قضية التطبيع، ويراهن على الجمهور الذي أوصله إلى أن يعتقد أنه “نمبر وان” في الفن المصري.

ويتواجد هذا الجمهور في أنحاء مختلفة من مصر، بل وفي منطقة سيناء التي كانت فضاء للحروب مع إسرائيل، وليس لديهم اعتراضات على وجود الإسرائيليين في المنتجعات السياحية في طابا وشرم الشيخ ودهب بجنوب سيناء، بينما ثمة سخط شعبي على أدوار حركة حماس الفلسطينية التي تعمل على تقويض الأمن في سيناء من خلال عشرات الأنفاق، حيث استغلتها في تهريب الأسلحة والإرهابيين إلى مصر.

ويبدو الرفض الشعبي بوضعه الحالي غير مؤثر على مستوى التحولات الإقليمية بشأن تطوير العلاقات مع إسرائيل، لكن استغلاله من قوى معادية، وفي القلب منها تنظيمات الإسلام السياسي وتوظيفه لتوجيه الطعنات للحكومة المصرية، حال أبدت تجاوبا مع التحولات الجارية، وهو ما يُعرضها إلى الحرج، لأنها ستكون في مواجهة غضب شعبي قابل للتمدد.

سعدالدين إبراهيم: حالة الرفض الحالية لم تعد بنفس الشدة التي كانت عليها من قبل
سعدالدين إبراهيم: حالة الرفض الحالية لم تعد بنفس الشدة التي كانت عليها من قبل
وقال مدير مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، سعدالدين إبراهيم، لـ”العرب”، إن حالة الرفض الحالية لم تعد بنفس الشدة التي كانت عليها من قبل، حيث استخدمت فيها جماعة الإخوان النقابات المهنية التي هيمنت عليها طويلا، والآن هذه النقابات خرجت من عباءة التيار الإسلامي.

وأضاف أن الموقف بات وسيلة انتقامية من فنان، وقد تطغى الغيرة من نجاحه لدى البعض على الشعارات الوطنية في مثل هذه الوقائع، وكأن هناك “أشخاصا يجذفون بكل قوة للسير في عكس حركة التاريخ لتحقيق مصالحهم”.

وأوضح أن انزواء تنظيمات الإسلام السياسي ونجاح الحكومة في معاركها ضد الجماعات المتشددة أخرجا قضية التطبيع من الوعاء الديني، الذي كان سبباً في اشتعال الغضب على مستويات واسعة، وأرغم الحكومة على تجميد التعاون مع إسرائيل في مرات عديدة، وما يحدث حالياً سيأخذ في التراجع مع إعلاء مبادئ المصالح.

هناك اختلافات بين الحالة المصرية الراهنة وبين قيام بعض الدول العربية بالإعلان عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل، فهذه الدول لم تعش صراعاً وجوديا على الأرض معها أو لم تخض حروباً متتابعة وقتل فيها الآلاف من أبنائها، وليس لديها البعد النفسي ذاته الذي يمتلكه المصريون حيال نظرتهم لإسرائيل.

لعل ذلك ما يجعل العقل الجمعي في مصر ينظر إلى إسرائيل باعتبارها عدواً قائماً، وهي رؤية مرتبطة بالمكون الشعبي، ولا يعارضها المكون السياسي الرسمي، والذي يوظف أذرعه الإعلامية وقوته الناعمة لصالح التأكيد على هذا الأمر دون ردود فعل مباشرة تعادي إسرائيل، بما يعزز وجود رغبة دفينة في أن تظل العلاقة كما هي بما يدعم أسس المناورة الطاغية في بعض الملفات الشائكة.

وأكد أستاذ علم النفس السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة سعيد صادق، أن جزءا من العداء الشعبي لإسرائيل سببه الحكومة، فعندما تم توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، أرادت حماية الجاليات المصرية في الدول العربية، التي قاطعت القاهرة في حينه، من التعرض لمضايقات، وسمحت للنقابات المهنية التي يحتمي بمظلتها الملايين من المعلمين والمهندسين والأطباء برفض التطبيع خوفاً من مقاطعتهم أيضاً.

وأشار لـ”العرب”، إلى أن ما يسمى بالدولة العميقة وقفت أمام رغبة الرئيس الراحل أنور السادات في تمرير التطبيع بشكل سلس، وكانت هناك رؤية تتعامل مع الأمر على أنه اختراق للأمن القومي، حيث من السهل تجنيد فقراء ضد بلدهم، وبالتالي وضعت شروطاً صعبة لحركة السفر مع إسرائيل ما زالت مستمرة حتى الآن.

وتمنع البيروقراطية المصرية الانفتاح الثقافي والشعبي على إسرائيل، بعكس قطاع واسع من الأجيال الصاعدة في دول عربية تلقت تعليمها في دول أجنبية لا ترى غضاضة في مسألة التطبيع.

وقد يكون للأمر انعكاسات على التحولات الحالية في المنطقة، والتي تحاول مصر مجاراتها دون أن يكون هناك انفتاح كبير في القضايا الخلافية التي ظلت مهيمنة على السلوك الجمعي للمواطنين، وفي مقدمتها قضية التطبيع.

ويشير متابعون إلى ضرورة عدم السماح بأن تظل مسألة التطبيع قابعة في مربعها القديم بمصر، لأن ذلك يمنح دولة مثل تركيا قدرة على مغازلة المواطنين البسطاء بشعارات مثل “تحرير القدس”، و”معاداة إسرائيل”، ولا تتحرك الدولة المصرية في هذا الاتجاه، بالتالي تصبح الخسارة جسيمة وتهتز علاقة المصريين بحكومتهم.

ويضيف هؤلاء أن حالة الرفض الواسعة التي واجهها الفنان محمد رمضان لا تعني انشغالا شعبيا بالتطبيع في مصر، لأن اهتمامات المواطنين تتركز أساسا على مشكلات اجتماعية واقتصادية داخلية، ولديهم رغبة في البناء والانفتاح، ولم تعد الكثير من مظاهر التنديد بالتطبيع في نظر الشباب سوى طقوس تقليدية يمارسها الكبار.

العرب