معمر فيصل خولي
في السنوات الثلاث الأخيرة، أبدت السياسة الخارجية التركية واقعية في إعادة ترتيب علاقاتاتها في بيئتها الإقليمية، لتصل تلك الترتيبات إلى سوريا. ولكون العلاقات الدولية لا تسير على خط مستقيم، ولأن صنع وتنفيذ السياسة الخارجية ترتكز في المقام الأول على الوقائع السياسة المستجدة.
حسم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان موقف تركيا برغبتها في تطبيع علاقاتها مع سوريا، حين أكد أنه “يتوجب علينا الإقدام على خطوات متقدمة مع سوريا لإفساد المخططات في المنطقة”، في تصريح يؤشر بشكل واضح وجود قرار تركي بالتواصل على المستوى السياسي مع النظام السوري، حاسماً الجدل الذي أثير طوال الأسابيع الماضية حول مدى استعداد أنقرة لتطبيع العلاقات مع نظام الأسد عقب 11 عاماً من القطيعة.وقال اردوغان في تصريحات للصحافيين على متن الطائرة التي عاد فيها من زيارته إلى أوكرانيا: “يتوجب علينا الإقدام على خطوات متقدمة مع سوريا يمكننا من خلالها إفساد العديد من المخططات في هذه المنطقة من العالم الإسلامي”، مشدداً على أنه “ليس لدينا أطماع في أراضي سوريا، والشعب السوري هم أشقاؤنا ونولي أهمية لوحدة أراضيهم، ويتعين على النظام إدراك ذلك”. وأضاف: “كنا دائما جزءا من الحل، وأخذنا على عاتقنا تحمل المسؤولية حيال سوريا وهدفنا الحفاظ على السلام الإقليمي وحماية بلادنا من التهديدات الخطيرة الناجمة عن الأزمة”، متهماً الولايات المتحدة وقوات التحالف بأنهم “هم المغذّون للإرهاب في سوريا في المقام الأول… لقد قاموا بذلك دون هوادة ويواصلون ذلك”.
وقال اردوغان: “يجب أن نعلم ذلك ونقبله، لا يجب قطع الحوار السياسي والدبلوماسية بين الدول، في كل زمان وفي أي لحظة تحصل حوارات من هذا القبيل، بل يجب أن يحصل ذلك”، مستدلاً بمثل يقول إنه يجب إبقاء ولو خيط في العلاقات لأنه يأتي يوم ويكون لازماً.
تذكّر تصريحات الرئيس اردوغان بسياسة “تصفير المشاكل” القديمة، التي كان داود أوغلو نفسه أحد مهندسيها، فأنقرة قامت بالتطبيع مع الإمارات والسعودية، وأعادت العلاقات الكاملة مع إسرائيل، وهي تنفذ سياسة توازن دقيقة، بين روسيا وأوكرانيا، أفضل أمثلتها زيارة اردوغان لمدينة لفيف الأوكرانية مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، وإشراف أنقرة على عودة تجارة الحبوب بين كييف والعالم، وكذلك الحفاظ على العلاقات مع الحلف الأطلسي بالموافقة على دخول السويد والنرويج، وتزويد كييف بمسيّرات بيرقدار إلخ. إضافة إلى عامل الضغط الروسي، تمثّل تصريحات اردوغان من جهة أخرى، هبوطا اضطراريا عن السقف العالي الذي لم تستطع أنقرة اجتيازه، على مرّ السنوات، وهو الحصول على موافقة أمريكية وغربية لدخول عسكري يؤمن “منطقة آمنة” على حدودها، لأن ذلك يصطدم بالسياسة الثابتة الأمريكية بتعهيد مجمل تلك المنطقة إلى حزب العمال الكردستاني، الذي خلق ما يشبه دولة خاصة به تسيطر على أهم الموارد السورية، من نفط وقمح وقطن، وكذلك المواقف الروسية والإيرانية الرافضة لتوسع أنقرة.
هناك عدة عوامل دفعت أنقرة في إعادة ترتيب علاقاتها مع سوريا، تنبع بصورة أساسية من اعتبارات انتخابية فالرئيس رجب طيب أردوغان، ومعه حزب العدالة والتنمية، يواجه في حزيران/يونيو العام القادم، أكبر تحدّ انتخابي منذ وصوله إلى الحكم في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2002م، واقتصادية داخلية، علمًا أن هناك اعتبارات إقليمية ودولية أيضًا، منها:
أولًا: الوجود الكردي على حدودها، أي مناطق الحكم الذاتي الكردية المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني في تركيا، أنقرة التي كانت تهيئ نفسها لشن عملية عسكرية كبيرة لتحرير مدينتي منبج وتل رفعت من قوات سوريا الديمقراطية “قسد” الذراع المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وجدت أنها غير قادرة على ذلك لرفض روسيا وإيران وأمريكا ودول أوروبية لأي عملية عسكرية من شأنها تأجيج الصراع، وتوسيع دائرة المواجهات، وتثير المعارضة التركية لاستغلالها أبشع استغلال ضد الرئيس رجب طيب أردوغان، وخاصة في حال فشلها أو تعثرها. فحزب العمال الكردستاني شكّل قضية انتخابية مهمة في تركيا منذ بدأ العمل المسلح عام 1984.
ثانيًا: قضية اللجوء السوري الذي تستثمر فيه المعارضة، محمّلة حكومة اردوغان مسؤولية وجود نحو 3,7 ملايين لاجئ سوري، يجري تصويرهم على أنهم سبب الصعوبات الاقتصادية والمعيشية التي يواجهها الأتراك. ففي ظل اقتراب الانتخابات العامة، يعاد نكئ جرح العنصرية البغيضة التي تروّجها المعارضة ضد اللاجئين السوريين، ولا شك أنها ضاقت ذرعا بأعباء اللجوء السوري الذي بات رقما حسّاسا في المعادلة الداخلية، ومن حقها البحث عن حلول تخفّف من الآثار السلبية، وتلبي مصالحها الخاصة وتطلعاتها الإقليمية والدولية، ولكن قدرها الجغرافي والتاريخي يرتّب عليها مراعاة الجانب الإنساني.
ثالثًا: تواجه تركيا تحدّيات اقتصادية هي الأصعب منذ أزمة 1998، بعد أن فقدت الليرة التركية نحو 90% من قيمتها خلال العامين الماضيين، وبلغت نسبة التضخم 80%، وهي غير مسبوقة في عهد حكم حزب العدالة والتنمية.
رابعًا: توتر علاقات تركيا بالولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، لأسباب عدّة، ليس أقلها دعم هؤلاء الانفصاليين الأكراد في شمالي سورية، بما يشكّل تهديداً لأمن تركيا القومي ووحدتها الجغرافية.
خامسًا: لا تستطيع تركيا أن تتجاهل تبلور تحالفات إقليمية – دولية تجد نفسها خارجها، إن لم تكن أحد أهدافها، في الوقت الذي لم تنجح فيه في كسب الطرفين، الروسي والإيراني، خصوصاً لناحية هواجسها من الملف الكردي في شمال سورية. ينسحب الأمر ذاته على حساباتها المعقدة في شرق البحر الأبيض المتوسط والتوتر مع اليونان، والتي تجد دعماً من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وإسرائيل.
وبناء على هذه الدوافع، تركيا وجدت الحل عند فلاديمير بوتين في زيارة اردوغان الأخيرة له، فبعد أن فشل في إقناع شركائه في مسار أستانة خلال قمة طهران الثلاثية (مع الرئيسين الإيراني رئيسي والروسي بوتين) بالعملية العسكرية التي كان يعتزم إطلاقها في شمال سورية، قرّر أن يأخذ بطرح الرئيس بوتين الذي اجتمع به في سوتشي بعد أسبوعين من قمّة طهران. حيث بدا واضحًا أن بوتين يريد مساعدة أردوغان انتخابيًّا، إذ يتوجس من احتمال تغيير المعارضة التركية، الأقرب إلى واشنطن، سياسة تركيا تجاه روسيا فيما لو فازت في الانتخابات، علمًا أن بوتين سبق وأن ساعد أردوغان في إحباط المحاولة الانقلابية في تموز عام 2016م. وعليه، استغلّ بوتين ضائقة أردوغان الداخلية، ليطرح عليه فكرة التفاهم مع دمشق لحل موضوع اللاجئين وقوات سورية الديمقراطية (قسد) التي يديرها حزب العمال الكردستاني، وبذلك يضرب عصفورين بحجر واحد: الأول مساعدة أردوغان في الانتخابات، والثاني حسم الصراع في سورية نهائيًّا لصالح النظام عبر تحييد الطرف الرئيس الأخير الذي يهدّد وجوده.
ولكن هذا لا يعني أن طريق تطبيع أنقرة علاقاتها مع دمشق ميسرة ، قد تكون عكس ذلك تمامًا، فقد يعترضه الكثير من العقبات التي تحول دون المضي فيه، فالنيات والرغبات في تطبيع العلاقات بين الدول ليست كافية، لاسيما إذا كانت تلك العلاقات – ولا تزال لغاية الآن- أشبه بجبل الجليد العائم الذي يخفي أكثر مما يظهر.
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية