تختلف القراءات بعد عام على اغتيال قائد “فيلق القدس” الإيراني قاسم سليماني، حول تأثير غيابه على الصراع في سورية، بعدما عمل طيلة سنوات على تنفيذ استراتيجية بعيدة المدى، وضعها الحرس الثوري لترسيخ النفوذ الإيراني في سورية، وخلق وقائع على الأرض يصعب تجاوزها في أي حلول مستقبلية للقضية السورية، وتبقي طهران لاعباً رئيسياً في مسرح الصراع الإقليمي والدولي.
منذ أواخر العام 2011 بات حضور سليماني في المشهد السوري واضحاً، وتجلى خصوصاً في إنشاء مليشيات تعمل تحت رعاية الإيرانيين وتوجيهاتهم. وكان سليماني يتحرك في عموم الجغرافيا السورية، زائراً لعشرات المليشيات التي زرعها في البلاد لترسيخ النفوذ الإيراني، القائم على دعم استمرار رئيس النظام بشار الأسد في السلطة بالسبل كافة. واختار سليماني مفاصل مهمة في الجغرافيا السورية لمد الأذرع العسكرية التابعة له، فسوّر العاصمة دمشق بالمليشيات، وخصوصاً من الجهة الجنوبية، لتصبح مدينة السيدة زينب جنوب دمشق معقلاً كبيراً لهذه المليشيات.
اختار سليماني مفاصل مهمة في الجغرافيا السورية لمد الأذرع العسكرية التابعة له
وغير بعيد عن “السيدة زينب”، أنشأ سليماني داخل مطار دمشق الدولي، الواقع في الجنوب الشرقي من العاصمة، مقراً يتألف من عدة طبقات يُدعى “البيت الزجاجي”، أدار من خلاله الحرب في سورية إلى جانب النظام. واختار سليماني إقامة هذا المقر، الذي تعرض لقصف جوي إسرائيلي أكثر من مرة، في موقع قريب من مهبط الطائرات، وذلك لتسهيل حصول القادة العسكريين الإيرانيين على الدعم البشري والمالي، إضافة إلى الوصول للمعدات العسكرية. وداخل دمشق أيضاً، عمل سليماني على تحويل مقام يُعتقد أنه يخص “رقية ابنة الحسين” إلى معسكر لمليشيات إيرانية تسيطر بشكل فعلي على أحياء دمشق القديمة.
وفي الشمال السوري، وضع سليماني استراتيجية تقوم على تطويق مدينة حلب، مع نشر مليشيات مرتبطة بالحرس الثوري في ريف حلب الجنوبي، وفي “معامل الدفاع” بالقرب من بلدة السفيرة في خاصرة حلب الجنوبية الشرقية. بينما تنتشر في أحياء حلب الشرقية، التي كانت تحت سيطرة فصائل المعارضة السورية، مليشيات محلية تتلقى الدعم والتمويل من طهران، أبرزها “الباقر”، في حين تتمركز أخرى ذات طابع طائفي في بلدتي نبّل والزهراء في ريف حلب الشمالي. وكانت صورة سليماني، وهو يتجول في مدينة حلب برفقة ضابط من قوات النظام السوري أواخر عام 2016 مع بدء خروج فصائل المعارضة من هذه المدينة، الدليل الكبير على الدور الذي كان يلعبه سليماني في مجريات الصراع الدائر في سورية منذ عام 2011. كما تكرر ظهور سليماني في ريف حلب الجنوبي في مقرات المليشيات الإيرانية، في رسالة واضحة على الأهمية التي يوليها للمدينة وريفها، والتي بدأت تتجلى من خلال محاولات حثيثة من قبل الإيرانيين للعبث بهوية وتاريخ هذه المدينة العريق.عبث إيراني شرقي سورية: تغيير ممنهج لهوية ريف دير الزور
وفي أواخر عام 2017، وصل سليماني إلى ما كان يخطط له الإيرانيون منذ بدء الصراع على سورية، وهو السيطرة المطلقة على جانب من شرقي سورية، التي تعد محطة رئيسية في طريق بري تعمل طهران على فرضه، يبدأ من الأراضي الإيرانية وينتهي على سواحل البحر المتوسط مروراً بالعراق وسورية. وانتزعت مليشيات إيرانية، بدعم جوي روسي، ريف دير الشرقي جنوب نهر الفرات من تنظيم “داعش”، وجانباً كبيراً من البادية، وهو ما مكّنها من ربط العراق بسورية جغرافياً، إذ تتحرك مليشيات إيرانية وفصائل “الحشد الشعبي” العراقي بين البلدين، عبر معابر أنشأتها لهذه الغاية. ومن أبرز المليشيات التي نشرها سليماني في أقصى الشرق السوري: “لواء فاطميون” الذي يضم مرتزقة من أفغانستان، و”لواء زينبيون” الذي يضم مرتزقة من باكستان، بالإضافة إلى “لواء الإمام علي”، و”حركة النجباء” وقوات من الحرس الثوري الإيراني، ومليشيات أخرى من “الحشد الشعبي”.
إيران لم تتنازل ولم يتأثر مشروعها الإقليمي بمقتل سليماني
وبعد عام على اغتيال سليماني، تتباين آراء المراقبين والمحللين حول تأثير غيابه على مشهد الصراع المحتدم في وعلى سورية. ورأى الباحث السياسي السوري عرابي عبد الحي عرابي، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن الجانب الإيراني “عمد على الفور إلى إعادة تموضع للمليشيات التابعة له في سورية، وتعيين إسماعيل قاآني مكان سليماني”. وأضاف “بعد مقتل سليماني ازداد عدد المليشيات الإيرانية في سورية في مواقع جديدة، مع دخول عناصر جديدة إلى هذه المواقع في ريف دير الزور الشرقي عبر معبر البوكمال بين سورية والعراق كرد على عملية الاغتيال”. وتابع “إيران لم تتنازل، ولم يتأثر مشروعها الإقليمي بمقتل سليماني، واستمرت في سياسة الصبر الاستراتيجي إلى الحد الأقصى خلال مرحلة الرئيس الأميركي دونالد ترامب”. وعن قدرة خليفة سليماني على سد الفراغ الذي تركه في سورية، رأى عرابي أن النشاط الذي يبديه قاآني في سورية “يدل على أنه لا يقل خبرة عن سلفه”، مضيفاً “كان لسليماني حضور طاغٍ، ولكن يبدو أن لقاآني خططاً، وربما يستطيع إلى حد بعيد أن يتعامل مع الخلل الذي تسبب به مقتل سليماني”.
في المقابل، رأى الكاتب والباحث السياسي رضوان زيادة، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن غياب سليماني “شكّل تحطم القيادة التاريخية للحرس الثوري الإيراني التي تؤمن بانتشار الثورة والأيديولوجية الشيعية خارج إيران”. وتوقع زيادة أن يكون قاآني قادراً على سد الفراغ الذي تركه سليماني في سورية “لكن ربما يحتاج بعض الوقت”، مضيفاً: “هذا الأمر يعتمد أيضاً على عوامل خارجية، وتحديداً من قبل واشنطن وتل أبيب، وهل ستسمحان للإيرانيين بالتمدد أكثر وبناء قواعد مليشياوية عسكرية في مناطق مختلفة من سورية؟”.
أمين العاصي
العربي الجديد