استقبل اللبنانيون سنتهم الجديدة بالمراوحة ذاتها التي تغلب على جهود تأليف الحكومة برئاسة زعيم تيار “المستقبل” سعد الحريري، بعد 5 أشهر و21 يوماً على الفراغ الحكومي منذ استقالة الرئيس حسان دياب في 10 أغسطس (آب) الماضي، الذي تتولّى حكومته تصريف الأعمال منذ حينها، في وقت تحتاج البلاد إلى تدابير طارئة وقرارات سريعة ملحّة تضعه على طريق طويل للخروج من الأزمة المالية الاقتصادية غير المسبوقة التي تعصف به.
فمعظم التوقعات لدى أقطاب السياسة اللبنانية لا تفترض تسهيلاً لقيام الحكومة الجديدة قريباً إلا إذا حصل تطور مفاجئ من الخارج يقضي بالإفراج عنها، كما يقول أحد رؤساء الحكومات السابقين. فالبلد “مخطوف من جانب حزب الله ومرهون لحسابات خارجية ورئيس الجمهورية ميشال عون منشرح لأنه يتصرف على أنه حاكم البلد الأوحد في ظل حكومة مستقيلة، خلافاً للدستور الذي ينيط صلاحيات السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء. فعون يعطي التعليمات ويتدخل في كل شاردة وواردة، من دون أي تردد، مستغلاً عدم استعداد رئيس حكومة تصريف الأعمال لممارسة صلاحيات لا تعود إلى الحكومة التي ينص الدستور على أن تصرّف الأعمال على نطاق ضيق”.
استعادة صلاحيات الرئاسة خلافاً للطائف
وفضلاً عن أن دياب رفض اقتراحات من أجل عقد اجتماع للحكومة بطلب من فريق الرئاسة، باسم الضرورة، لأنه يعتبر ذلك مخالفاً للدستور، فإن الرئيس عون يعقد اجتماعات مع الوزراء والإدارات لاتخاذ قرارات صغيرة كانت أو كبيرة، وأحياناً يترأس اجتماع المجلس الأعلى للدفاع (المنوط به بحث القضايا الأمنية والعسكرية) لتغطية تدابير لا علاقة لها بالشؤون الأمنية والعسكرية، منفّذاً بذلك طموحه وجنوح بعض فريقه الذي يصدر له الفتاوى القانونية، نحو استعادة صلاحيات الرئاسة المطلقة كما كانت قبل اتفاق الطائف الذي أعاد توزيع الصلاحيات الدستورية، وبات دستور البلاد منذ عام 1990.
فبعض الفريق الرئاسي يعمل على استعادة هذه الصلاحيات بالممارسة، لاعتباره أن هذا ما يريده الجمهور المسيحي، وأن إثبات عون أن الكلمة الأولى والأخيرة له في السلطة السياسية يكرّس زعامته المسيحية وأرجحيته بين سائر القادة المسيحيين في شكل يمكّنه من تعويض ما خسره من جمهور بعد انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ضد تدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية في البلد. ويقضي طموح هذا الفريق الذي يدور في فلك رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، بأن يكرّس عون تفوقه بحكم الأمر الواقع، إلى أن يحين إجراء تعديل دستوري يعزز تلك الصلاحيات. وفي اعتقاد الفريق الرئاسي الساعي إلى كل ذلك، أن “إنجازاً” كهذا يسمح بتعويم باسيل مجدداً كمرشح للرئاسة اللبنانية عند انتهاء ولاية عون في أكتوبر 2022.
لذلك، يصرّ رئيس الجمهورية على حصوله على الثلث المعطل في الحكومة الجديدة، وعلى تسمية الوزراء المسيحيين، مستخدماً حجة عدم جواز تسمية معظمهم من الحريري لتعارض ذلك مع مبدأ الشراكة في السلطة، الأمر الذي لم يقتنع به البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي حين طرح عليه عون وباسيل هذه الحجة، لا سيما أنه اعتبر أسماء الوزراء المسيحيين الذين أبلغه بهم الحريري على أنه اختارهم من غير الحزبيين، مقبولين طالما أن المطلوب حكومة اختصاصيين مستقلين ولا ينتمون إلى فريق رئيس الحكومة.
إصرار عون على الثلث المعطل
لم يتخلَّ عون عن هذا الهدف، على الرغم من ضغوط البطريرك الراعي عليه كي يسهّل إنجاز الحكومة، التي بات تأخيرها مساهماً في التدهور الكارثي للوضع الاقتصادي، لأن التعويل عليها كي تنفذ شروط المجتمع الدولي الإصلاحية، كمقدمة ضرورية من أجل مساعدة لبنان مالياً. وهو عاد إلى طرح مطلب الثلث المعطل بعدما أبلغ الراعي بأنه لا يصرّ على ذلك عن طريق تجديد المطالبة برفع عدد وزراء الحكومة من 18 الذي كان سلّم به قبل 3 أسابيع، إلى 20 وزيراً، بهدف زيادة أولئك الذين يودّ تسميتهم إلى 7، في وقت لم يقبل الحريري سوى بحقّ عون بتسمية 5 وزراء زائداً واحداً بحيث لا تحصل الرئاسة على أكثر من 6 وزراء، للحؤول دون تسلّحها بالثلث المعطل (7 وزراء). فرئيس الحكومة أبلغ جميع من التقوه أنه من سابع المستحيلات أن يسلّم لعون بالثلث المعطل. لكن عودة فريق رئيس الجمهورية إلى اقتراح رفع حجم الحكومة إلى 20 وزيراً يعني وفق التركيبة الطائفية، زيادة وزير درزي يسمّيه حليفه النائب طلال أرسلان الذي هو عضو في “تكتل لبنان القوي” النيابي الذي يرأسه باسيل، ووزير كاثوليكي يأمل في أن يفرض عون اختياره من باب مطالبته بحقه في تسمية المسيحيين. وهذا يسهّل حصول رئيس الجمهورية على أكثر من الثلث المعطل. وتردد أن مستشار القصر الرئاسي الوزير السابق سليم جريصاتي نقل المطلب إلى البطريرك الراعي، وأشارت ردود الفعل على التسريبات في هذا الشأن إلى أن الرئيس المكلف بقي على رفضه. وأكد أكثر من نائب وقيادي في تيار “المستقبل” استحالة قبول الحريري بالفكرة.
العرقلة الداخلية ذريعة والسبب خارجي
لم يعُد الوسط السياسي يأخذ بهذه التسريبات والمطالب بالحصص على أنها سبب العرقلة لولادة الحكومة، نظراً إلى توالد الشروط والمطالب بعد التوصل إلى اتفاق عليها بين عون والحريري. وبات معظم السياسيين يعتبرونها الذريعة ويردّون السبب في تصريحات علنية منذ أسابيع، إلى ممانعة “حزب الله” والسياسة الإيرانية، قيام حكومة. وما بات من باب التكهنات عن أن الحزب يقف وراء الشروط التعطيلية للحكومة عن طريق تشجيعه عون وباسيل بطريقة أو بأخرى عليها، لأنه يرهن الإفراج عن الحكومة بمفاوضات طهران مع فريق الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن وإلى حين استلام الأخير مهماته في 20 يناير (كانون الثاني)، أصبح قناعة معلنة عند كثير من الفرقاء.
وصارت المواقف التي تنسب التعطيل إلى العامل الإيراني والحزب شبه يومية، فيما أخذ البطريرك الراعي يكرر في عظاته في القداديس الدينية، لا سيما في عيد الميلاد، تلميحات معروفة المقصد، بانتقاده لرهن الحكومة بمصالح خارجية. وآخر كلامه في هذا الصدد كان في 31 ديسمبر (كانون الأول) 2020 حين قال “معيب على المعطّلين التعاطي بالشأن اللبناني كأنه من أحجار شطرنج الشرق الأوسط أو الدول الكبرى”. وقبل ذلك سأل “أي ضمير يسمح بربط لبنان بصراعات لا علاقة لنا بها؟”.
وعلى الرغم من أن الرئيس الحريري يتجنب اتهام الحزب بالوقوف وراء تشدد عون، ودأب بعض محيطه على نسبِ عرقلة الحكومة إلى باسيل، فإن بعض نواب “المستقبل” وقادته يجاهرون بوقوف طهران وراء الفراغ الحكومي، وأبرزهم نائب رئيس التيار الدكتور مصطفى علوش الذي يرى أن لبنان جزء صغير من ملكيات إيران لن تتخلى عنه. حتى إنه يشكك في إمكان فك أسر البلد حتى لو تشكلت حكومة جديدة.
ماذا تستفيد طهران؟
يتساءل بعض المراقبين ماذا تستفيد طهران ومعها الحزب من تأخير الحكومة إلى ما بعد دخول بايدن إلى البيت الأبيض؟ وإذا كانا يعتبران تسهيل قيام الحكومة ورقة مقايضة مع واشنطن على أمر آخر في أجندة التفاوض الأميركي الإيراني، فهل أن لبنان على جدول أولويات الرئيس الأميركي الجديد؟
يقول رئيس لجنة الشؤون الخارجية النيابية ياسين جابر، وهو عضو في “كتلة التنمية والتحرير” برئاسة رئيس البرلمان نبيه بري، إن المسار الانتقالي للسلطة في واشنطن لا يبدو سلساً، إذ إن الكونغرس سيجتمع في 6 يناير من أجل تثبيت نتائج انتخاب المجمع الانتخابي (المندوبون الذين فازوا في الانتخابات الرئاسية) لبايدن، وسط تقارير صحافية عن أن النواب الجمهوريين سيعترضون على نتائج الانتخابات. ويسأل هل سيكون مجدياً الانتظار حتى 20 يناير؟
إيران فوجئت بإيلاء بايدن أولوية لليمن؟
في المقابل، تقول رواية إحدى الشخصيات اللبنانية على صلة مع مقربين من الإدارة الجديدة، إن طهران حاولت جس نبض فريق بايدن حول ما سبق أن أعلنه كمرشح للرئاسة عن نيته العودة إلى التزام الاتفاق على النووي معها، الذي انسحب منه دونالد ترمب. وتشير الرواية إلى أن الجانب الإيراني استخدم قناة خلفية في عملية جس النبض هذه، أي من طريق فريق ثالث ليست له صفة إيرانية رسمية، وكذلك من الجهة الأميركية، لأن القانون يمنع على معاوني بايدن إجراء اتصال رسمي مع أي جهة خارجية قبل تسلّمه مهماته رسمياً. وكان الهدف تلمّس توجهات الرئيس الجديد في شأن رفع العقوبات التي فرضها ترمب على إيران. إلا أن الجواب الذي نقلته القناة الخلفية إلى طهران لم تكن تنتظره، على الرغم من أن بايدن بدا إيجابياً حيال عودة إدارته إلى التزام الاتفاق على النووي. وتفيد الشخصية السياسية نفسها بأن الجانب الأميركي أكد أن هناك أموراً يجب التفاوض عليها في المنطقة، أولها انكفاء إيران عن اليمن من أجل إنهاء حال اللااستقرار في منطقة الخليج. فإيران بنت حساباتها حول توجهات بايدن على الفرضية القائلة إن العلاقة بين إدارته وبين السعودية لن تكون وثيقة مثلما هي بين الرياض وترمب. إلا أن الإدارة الجديدة تنظر إلى العلاقة انطلاقاً من دورها المحوري على الصعيد الاقتصادي، خصوصاً من زاوية ضمان استقرار أسعار النفط وتدفقه إلى سوق الولايات المتحدة، في ظل توجّه أميركي للاستغناء عن استخراج النفط الحجري، بعدما باتت كلفته عالية قياساً إلى انخفاض أسعار النفط العالمية. وهذا الاهتمام يمسّ سلامة الممرات البحرية في باب المندب التي يهددها الحوثيون من وقت إلى آخر، وفي مضيق هرمز الذي تتنطّح طهران إلى الشراكة في ضمان أمنه.
التهديد بصواريخ لبنان وغزة
أصحاب هذه القراءة لأسباب ربط طهران والحزب بين تشكيل الحكومة اللبنانية وتسلّم بايدن مهماته، يستدلّون على صحة تقديرهم من التطورات التي حصلت في 2 يناير، حين أعلن قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الإيراني أمير علي حاجي زاده أن “لا فرق لدينا في أي حرب محتملة بين القواعد الأميركية والدول المحتضنة لها”. وأضاف “كل الصواريخ الموجودة في غزة ولبنان تمت بدعم إيراني”. وأكد أنها “الخط الأمامي لمواجهة إسرائيل… والمفاوضات حول قدراتنا الصاروخية خط أحمر ولم يجبرنا أحد على تحديد مدى 2000 كيلومتر لصواريخنا”.
ففي رأي أصحاب هذه القراءة أن “الحرس الثوري” الذي يأتمر “حزب الله” بتعليمات قيادته، يعتبر لبنان ورقة في يده، على الرغم من أن هذا الموقف الإيراني وغيره يأتي في الأجواء الإعلامية المحمومة لاحتمالات توتر عسكري بين الولايات المتحدة وإيران، لا سيما مع الذكرى الأولى لاغتيال قائد قوة القدس قاسم سليماني في 3 يناير السنة الماضية، فإنه يؤشر إلى درجة تمسّك طهران بورقة لبنان في مواجهة احتمال التفاوض أو احتمال المواجهة.
ردود فعل على التهديد الإيراني
ومع استبعاد أن تصل الحملات المتبادلة إلى مستوى المواجهة، فإن اعتقاد الذين يتهمون طهران بالإمساك بورقة الحكومة اللبنانية من أجل التفاوض هو أن العقل الفارسي يفكر في مقايضة ورقة “رخيصة” كهذه بدلاً من أوراق أخرى أعلى ثمناً كالصواريخ واليمن والعراق وسوريا، على الرغم من أن الحكومة باتت ورقة ذهبية بالنسبة إلى اللبنانيين.
لذلك، كرّت سبحة ردود الفعل اللبنانية على تصريحات زاده بسرعة وحدّة من قوى سياسية عدة وجاء أبرزها من فريق الحريري وتيار “المستقبل”، إذ قال مستشار رئيس الحكومة المكلّف حسين الوجه “يصرّ بعض المسؤولين في طهران على التعامل مع لبنان كمقاطعة إيرانية ويحاولون زجّ الشعب في حروب النظام المفتوحة مع المجتمع الدولي”. وأضاف “لبنان لم ولن يكون الخط الأمامي في المواجهة عن إيران، واللبنانيون لن يدفعوا أثماناً عن النظام الإيراني”. وأردف “لبنان بلد عربي ملتزم بمواثيق جامعة الدول العربية وهو سيّد وحرّ ومستقل”.
وعلّق الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري، قائلاً “إصرار القيادة الإيرانية على زج لبنان في حروبها وصراعاتها يشكّل ذروة الاعتداء على سيادة بلادنا. وطننا ليس منصة لرهانات طهران وسياساتها العبثية مهما حشدت من صواريخ”.
أما رئيس حزب الكتائب سامي الجميل، فصرّح، “برسم من لا يزال يتوهّم أن بلدنا سيّد ومستقل. لبنان واللبنانيون رهينة بيد إيران عبر حزب الله ويستعملاننا دروعاً بشرية في معركتهم التي لا علاقة لها بلبنان. الرئاسة والحكومة والمجلس النيابي شهود زور ويغطّون وضع اليد على لبنان”.
وليد شقير
اندبندت العربي