النزعة القومية والشعبوية في العالم لن تتبدد برحيل ترامب

النزعة القومية والشعبوية في العالم لن تتبدد برحيل ترامب

لم يتردد دونالد ترامب في خطابه الوداعي في تسليط الضوء على الجوانب التي يفتخر بها خلال رئاسته، لكنه أصر على الاستمرار في نهجه حينما خاطب مؤيديه بالقول إن “الحركة التي بدأناها ما زالت في بدايتها”، مما دفع محللين إلى الدخول في وصلة من التكهنات حول طبيعة المسار، الذي سيتبناه بعد مغادرته البيت الأبيض، رغم تأكيد الكثير من الباحثين على أن ظاهرة “الترامبية” ستبقى سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها، لأنهم يرون أنه لا يوجد ما يوحي بأنها ستختفي.

واشنطن- تركت رئاسة دونالد ترامب بصمة لا تمحى على السياسة العالمية، فعلى مدى السنوات الأربع الماضية، قلّد القادة السياسيون في جميع أنحاء العالم خطاب هذا الرئيس “الظاهرة” وأسلوبه وسياساته الحكومية، بدءا من الدعوات إلى استعادة نوع من العظمة الوطنية “المفقودة” وانتقاد السياسيين التقليديين، وانتهاء إلى المواقف المتشددة بشأن قضايا القانون والنظام والتجارة والتوجهات القومية لمناهضة الهجرة.

واتبع البعض ذلك لأغراض انتخابية، حيث رأوا في استراتيجية ترامب السياسية وسيلة لكسب الأصوات، بينما دعم آخرون الرئيس الأميركي السابق من أجل الاستفادة من وجود علاقة وثيقة مع البيت الأبيض، وكان الكثير يجمعون بين التحركات التكتيكية والتقارب الأيديولوجي الحقيقي مع ترامب.

لكن، في الوقت الذي انتهى فيه عهد ترامب، يرى الباحثون، ومن بينهم المحلل الأول بالشؤون الأوروبية في مركز الدراسات الاستراتيجية والأمنية الأميركي (ستراتفور) أدريانو بوسوني، أن القومية والشعبوية ستظلان قوى مؤثرة في السياسة العالمية في المستقبل المنظور.

ويؤكد بوسني “أن التيّارات الاجتماعية والاقتصادية التي تغذي مثل هذه الأيديولوجيات ستتواصل، بما في ذلك عدم المساواة في الدخل، والخوف من تأثير العولمة على الوظائف، والهوية، والتغيرات الديموغرافية، والاستياء الشعبي من المؤسسات السياسية والاقتصادية التقليدية”.

ترسخت آثار خطاب ترامب في دعوات رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى “استعادة السيطرة” على المملكة المتحدة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، في حين توافق حزب العدالة والقانون الحاكم في بولندا مع آراء إدارة ترامب بشأن القضايا الاجتماعية والسيادة الوطنية والهجرة.

كما أن الخطاب العدواني لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهجماته على وسائل الإعلام كان مشابها لترامب، في حين كان موقف الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو المتشدد بشأن الجريمة قريبا جدا من موقف الرئيس الأميركي.

وفي غضون ذلك، أشادت أحزاب المعارضة اليمينية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك حزب رابطة الشمال اليميني المتطرف الإيطالي والتجمع الوطني الفرنسي، بترامب، ووعدت بتبني سياسات مماثلة إذا ما وصلت إلى السلطة.

واستفاد العديد من هؤلاء القادة من علاقاتهم الجيدة مع البيت الأبيض في عهد ترامب، فعلى سبيل المثال استغل جونسون تحالفه مع الرئيس الأميركي السابق لإرسال رسالة إلى الناخبين في المملكة المتحدة، مفادها أن الولايات المتحدة قد دعمت بريطانيا خلال مفاوضات التجارة الحرة المتوترة مع الاتحاد الأوروبي.

ورأت بولندا في الحفاظ على العلاقات الوثيقة مع ترامب وسيلة لتحقيق هدفها طويل الأمد، المتمثل في تأمين وجود أكبر للقوات الأميركية في البلاد. وكان اعتراف إدارة ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل وانسحابه من الاتفاق النووي الإيراني انتصارات سياسية مهمة لنتنياهو.

من جانبه، استخدم بولسونارو خطاب ترامب حول كوفيد – 19 لإثبات صحة دفعه لإعطاء الأولوية لإبقاء الاقتصاد مفتوحا مع التقليل من خطورة الوباء. وفي نفس الوقت، قدّم تقارب ترامب الشخصي مع القادة المثيرين للجدل مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لهؤلاء دعما سياسيا من البيت الأبيض لفترة من الوقت.

يرجح المحلل بوسوني أن تستمر تلك الحالة طيلة الأشهر المقبلة، ومن المحتمل أن يصبح القادة الشعبويون والقوميون أكثر براغماتية، وفي بعض الحالات، من المرجح أن نراهم يخففون من حدة العناصر الأكثر تطرفا في سياساتهم، لتجنب تأجيج التوترات مع إدارة جو بايدن الأميركية الجديدة.

وفي الواقع، بدأ هذا التحول بالفعل خلال الأسابيع الأخيرة من إدارة ترامب، فقد أجبر هجوم مؤيديه على مبنى الكونغرس (الكابيتول) في السادس من يناير الجاري، معظم المعجبين به في الخارج على النأي بأنفسهم عنه، لأسباب محلية تتعلق بترديد أصوات ناخبيهم، وكذلك حسابات السياسة الخارجية من خلال إبقاء الباب مواربا للتعاون مع إدارة الرئيس الجديد جو بايدن.

ومن المؤكد أن الأيديولوجيات القومية والشعبوية لم تولد مع ترامب ولن تنتهي بمغادرته البيت الأبيض، لكن هذا التغيير في السلوك من المرجح أن يكون تكتيكيا وجزئيا فقط.

وفي حين أن بايدن قد يكون من أشد المنتقدين للأنظمة الشعبوية والاستبدادية مقارنة بسلفه، فإن المصلحة ستظل تهيمن على علاقات إدارته الجديدة مع هذه الحكومات وليس الأيديولوجيا، إذ ستحتفظ واشنطن بعلاقاتها مع حلفائها الاستراتيجيين، بغض النظر عن أيديولوجية قادتهم.

وينطبق الشيء نفسه على الحكومات القومية والشعبوية التي تتعامل مع الولايات المتحدة، إذ ستستمر دول أوروبا الوسطى والشرقية، على سبيل المثال، في اعتبار البيت الأبيض الضامن النهائي ضد العدوان الروسي، مما يعني أنها ستسعى إلى التحالف مع واشنطن بغض النظر عن الرئيس.

وبينما سيستمر حلفاء الولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ يتطلعون إلى البيت الأبيض للحصول على تطمينات ضد صعود الصين وكذلك الاستفزازات الروسية في العديد من القضايا، سيظل التعاون مع الإدارة الأميركية الجديدة أحد أعمدة السياسة الخارجية لكل من إسرائيل والمملكة المتحدة.

من غير المرجح أن تعني نهاية ترامب في الولايات المتحدة نهاية الأيديولوجيات القومية/الشعبوية العالمية في نظر بوسوني، لسبب أساسي واحد يتمحور حول أن “جميع العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي دفعت شعبية هذه المعتقدات ستظل سائدة كما كانت دائما”.

في الواقع، ستؤدي الأزمة الاقتصادية العميقة التي أحدثتها جائحة كوفيد – 19 إلى تفاقم البطالة وعدم المساواة، وفي بعض الحالات، الغضب ضد المؤسسة السياسية والاقتصادية التي خلقت في البداية أرضا خصبة لنوع الخطاب والسياسة، التي دفعت ترامب والقادة القوميين إلى السلطة على مدى العقد الماضي.

ويعني هذا أن السرد الذي يزعم أن الحكومات لا تفعل ما يكفي لحماية الوظائف المحلية وأن تراجع العولمة والحروب التجارية هي أفضل طريقة للفوز بالسباق ضد الاقتصادات المنافسة والشركات متعددة الجنسيات، وفي حالة دول الاتحاد الأوروبي، المؤسسات فوق الوطنية، موجودة لتبقى وستستمر في تشكيل السياسة العالمية في المستقبل المنظور.

ويمكن قول الشيء نفسه عن الأيديولوجيا المناهضة للمؤسسة، التي تلقي باللوم على النخب الوطنية والدولية، بما في ذلك السياسيون والمنظمات الدولية ووسائل الإعلام الرئيسية للانحلال الوطني المزعوم، والخطاب الذي يربط الهجرة بركود الأجور والجريمة والإرهاب.

وكانت القوى الشعبوية والقومية مزعزعة للبلدان التي ظهرت فيها. في أوروبا الغربية، أدت إلى المزيد من الأنظمة السياسية المجزّأة عن طريق تحدي هيمنة الأحزاب التقليدية، مما أدى إلى خلق حكومات أكثر هشاشة وعملية صنع سياسات أطول وأكثر تعقيدا.

من المؤكد أن الأيديولوجيات القومية والشعبوية لم تولد مع ترامب ولن تنتهي بمغادرته البيت الأبيض، لكن هذا التغيير في السلوك من المرجح أن يكون تكتيكيا وجزئيا فقط

في غضون ذلك، شهدت أوروبا الشرقية صعود الحكومات التي أضعفت سيادة القانون، وأدت إلى تهميش الأقليات وزادت من الضغط على وسائل الإعلام المنتقدة. وفي الولايات المتحدة، عمّقت طبيعة ترامب الشعبوية الانقسامات الاجتماعية والسياسية بطرق قد يستغرق إصلاحها عقودا.

ويتوقع بوسوني أن يستمر خلال السنوات المقبلة هذا المناخ السياسي المتغير في إجبار قادة أحزاب الوسط السائدة في جميع أنحاء العالم على التحرك، إما إلى اليمين وإما إلى اليسار أكثر، لجذب الناخبين في جمهور ناخب متزايد الاستقطاب، مما يضاعف صعوبة تحقيق الإجماع السياسي والاجتماعي.

وعلى الرغم من اعتبارها “ترامبية”، لم تولد معظم السياسات المرتبطة بإدارة ترامب معه ولن تنتهي برئاسته، حيث يتواجد العديد من أقرانه الأيديولوجيين في السلطة، قبل فترة طويلة من انتخابه كرئيس للولايات المتحدة في 2016 ومن المرجح أن يصمدوا بعده عدة سنوات، ومن المؤكد أن الكثير سيتبعون خطاه في المستقبل.

العرب