على الرغم من أن الرئيس الجديد للولايات المتحدة جو بايدن تعهد بالعمل على توحيد الأمة الأميركية خلال خطاب تنصيبه، إلا أن الأوامر التنفيذية التي وقع عليها في يومه الأول أثارت غضب الجمهوريين وأنصار دونالد ترمب، بخاصة ما يتعلق بملفات وقضايا الهجرة. وهو ما يهدد بزيادة عوامل الانقسام في المجتمع الأميركي، فما العناصر التي يمكن أن يعتمدها بايدن لتحقيق ذلك وكيف يمكن له المواءمة بين يسار متشدد في حزبه ويمين ترمبي في الحزب الجمهوري؟
مفهوم الوحدة
عندما يسعى بايدن إلى تحقيق الوحدة التي تعهد بها، فإنه سيواجه تنافراً بين مفهوم كل من الحزبين الديمقراطي والجمهوري لهذه الكلمة. كما أنه قد يضطر إلى الاختيار بين طريقين يسلكهما في الأيام والأشهر الأولى من رئاسته، إما تنفيذ أجندة واضحة وجريئة تتماشى تماماً مع أجندة الديمقراطيين، وإما صياغة سياسات يتوافق عليها الحزبان.
بالنسبة إلى قادة الجمهوريين، فإن رؤيتهم للوحدة تتمثل في أن يمتنع بايدن عن الأعمال التي تثير استعداء قاعدة ناخبيهم من اليمينيين والجمهوريين، الذين تقول استطلاعات الرأي إن كثيراً منهم يشككون في شرعية انتخابه، ويؤيدون ترمب ويريدون من قادتهم مقاومة أجندة بايدن.
مقاومة وعقبات
وفي ظل أغلبية قليلة جداً للديمقراطيين في مجلسي النواب والشيوخ، كشف بايدن في الساعات والأيام الأولى من حكمه عن أجندة تلبي مطالب التيار التقدمي في حزبه وتتضمن ضخ نحو تريليوني دولار في استثمارات جديدة وإصلاحاً شاملاً لأنظمة الرعاية الصحية والهجرة. وطرح هذه الأفكار أدى إلى بروز مقاومة كبيرة بين الجمهوريين لمعظم برنامجه، ولاحت في الأفق عقبات تتطلب منه التغلب عليها لاحقاً، مثل سلطة المماطلة والتعطيل التي يمكن أن يلجأ إليها ميتش ماكونيل زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ.
ومن المرجح أن يظهر التزام بايدن بتحقيق الوحدة في التواصل مع القيادات الجمهورية، لكن من دون أن يكون ذلك على حساب إحراز تقدم في تنفيذ برامجه الانتخابية، وقد يساعده ميل غالبية الصحف ووسائل الإعلام الرئيسة إلى رؤيته على ذلك.
حكمة الاعتدال
وبينما يتولى بايدن منصبه متفائلاً بنسب التأييد المرتفعة لسلوكه بعد الانتخابات والتي بلغت 68 في المئة، فضلاً عن اكتسابه رأس مال سياسي كبير يقود به الحزب الديمقراطي، إلا أن الاتجاه الذي يختاره سيحمل مخاطر كبيرة على حياة الملايين من الأميركيين وعلى آفاق الحفاظ على مكاسب الديمقراطيين في أول انتخابات نصفية بعد عامين من الآن، والتي يتعرض فيها الحزب الحاكم تاريخياً لانتقادات واسعة، ولهذا السبب يعتقد بعض الديمقراطيين أن الطريق الأكثر حكمة هو الاعتدال.
ويعتبر عدد من أصحاب التيار الوسطي في الحزب الديمقراطي أن السبيل نحو تحقيق الوحدة هو التأكد من أن إدارة الحكم تتم بشكل منطقي وأكثر اعتدالاً وأن يظهر الديمقراطيون أنه يمكنهم العمل مع الجمهوريين لإنجاز الأمور، ولكن إذا اختلف الحزبان وتمكن أقصى اليسار في الديمقراطي من إملاء شروطه وتوجهاته على جدول الأعمال، فإن العامين المقبلين سيكونان أكثر صعوبة.
ويتوافق ذلك مع خطاب تنصيب بايدن، الذي أكد فيه أنه من دون الوحدة لا يوجد سلام ولا تقدم ولن تكون هناك أمة، إنما مرارة وغضب وحالة من الفوضى.
لا مؤشرات إيجابية
وليس من الواضح حتى الآن أن مناشدات بايدن من أجل الوحدة ستخفف من مقاومة ومعارضة الحزب الجمهوري الذي يجلس أعضاؤه في مقاعد المعارضة الآن، ويجدون أنفسهم في موضع المساءلة من قاعدة ناخبيهم.
وأظهر استطلاع للرأي أجراه مركز “بيو” للأبحاث هذا الشهر أن نسبة التأييد بين الديمقراطيين الذين يعتقدون أن على بايدن العمل مع الجمهوريين تزيد عن نسبة الجمهوريين بـ25 في المئة.
وعلى العكس، يميل الجمهوريون إلى مطالبة قادتهم بالوقوف في وجه بايدن في القضايا المهمة، حتى لو أدى ذلك إلى تعطيل حل بعض المشكلات الحرجة.
تحذير من الانقسام
وخلال اليومين الماضيين، وتحت شعار وحدة الأمة الأميركية، دعا بعض الجمهوريين بايدن والديمقراطيين في مجلس الشيوخ إلى رفض فقرة المساءلة التي وافق عليها مجلس النواب وتتهم ترمب بالتحريض على العصيان.
وحذر السناتور الجمهوري ليندسي غراهام، الذي كان مقرباً من ترمب خلال سنوات حكمه الأربع، في رسالة وجهها إلى زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الجديد تشاك شومر، من أن إجراء محاكمة لإدانة الرئيس السابق سيكون عملاً سياسياً انتقامياً، ومن شأنه أن يثير مزيداً من الانقسام فحسب.
لكن شومر أوضح أن المحاكمة ستتم لتجاوز هذا الفصل الفظيع في تاريخ الأمة الأميركية، وأن الشفاء والوحدة لن يتحققا إلا إذا كانت هناك حقيقة ومساءلة.
شكوك حول المستقبل
ومع ذلك يظل من غير الواضح ما إذا كان بايدن سيتمكن من إحداث التوافق المطلوب بشأن القضايا التي تتصدر جدول أعماله، وعلى رأسها حزمة مساعدات اقتصادية بقيمة 1.9 تريليون دولار لمواجهة فيروس كورونا وتشريعات إعادة بناء البنية التحتية في الولايات المتحدة.
وقد تكون خطة الهجرة الشاملة للرئيس بايدن التي واجهت مقاومة سريعة من الجمهوريين في مجلس الشيوخ، بما في ذلك بعض الذين دافعوا عن جهود مماثلة قبل ثماني سنوات، مؤشراً إلى أن وقت تحقيق الوحدة لم يحن بعد، إذ اعتبر السيناتور الجمهوري مارك روبيو أن هذا المشروع التشريعي لا يشكل بداية جيدة لبايدن، لأنه يمنح جميع المهاجرين غير الشرعيين عفواً شاملاً، معرباً في الوقت ذاته عن استعداده للتعاون معه.
اقرأ المزيد
بايدن يطلق مبادرات لمكافحة كورونا في أول يوم في البيت الأبيض
5 تحديات اقتصادية تواجه بايدن أبرزها الحرب التجارية مع الصين
وشكك غراهام في إمكانية تمرير خطة بايدن في مجلس الشيوخ التي تحتاج إلى موافقة 60 عضواً، أي أنها تطلب تأييد 10 أعضاء جمهوريين على الأقل.
وتعد مقاومة روبيو وغراهام، العضوين المتبقيين في الحزب الجمهوري من المجموعة التي صاغت مشروع قانون الهجرة عام 2013، بمثابة تحذير كبير لبايدن الذي ستمنح خطته مساراً مدته ثماني سنوات للحصول على الجنسية لنحو 11 مليون شخص من المهاجرين غير الشرعيين بعد اجتيازهم عدداً من المتطلبات.
ضعف قبضة ترمب
وإذا كان ترمب قد غذى بشكل كبير التيار المعارض للهجرة خلال سنوات حكمه وبخاصة غير الشرعية، إلا أن هناك أسباباً للاعتقاد بأن قبضته على الحزب الجمهوري أصبحت أضعف بكثير الآن بسبب حرمانه من سلطة البيت الأبيض وتصريحاته وبياناته الرسمية، ومنعه من التغريد على “تويتر” أو عبر وسائل التواصل الأخرى والتي كانت أساس صعوده. ولم يعد يتمتع بالقدر نفسه من القوة لمكافأة النواب الجمهوريين أو معاقبتهم.
وكشف استطلاع أجراه مركز “بيو” أن نسبة تأييد ترمب انخفضت إلى 29 في المئة، وهو ما يمثل أدنى مستوى لها في فترة ولايته، وأن 60 في المئة من الجمهوريين يوافقون على طريقة تعامله مع وظيفته، وهو ما يشكل تراجعاً عن 77 في المئة كان قد سجلها قبل خمسة أشهر.
عوامل أخرى
وعلاوة على التحديات التي ستواجه بايدن من الجمهوريين في الكونغرس، اصطدمت رسالته عن توحيد أميركا بالواقع الصعب في أمة هاجمتها جائحة قاتلة ومزقتها عوامل عديدة من تمرد عنيف في مبنى الكابيتول، وانعدام ثقة في نتائج الانتخابات إلى انقسام عميق حول العدالة العرقية.
في تلك البيئة المشحونة، تدور أسئلة كثيرة عما يمكن أن يفعله بايدن لجعل بلاده متحدة، ولهذا نصحه مفكرون بالبحث عن سبل الوصول إلى هذا الهدف عبر “صفقة جديدة” تشمل استثماراً ضخماً في الإسكان وخطة تمويل لبناء مصانع جديدة في المناطق التي تجاهلتها واشنطن واستئصال التطرف العنصري من الجيش والشرطة وعلى مستوى القواعد الشعبية، ومواجهة اتهامات اليسار. لكن أولوية الرئيس الجديد تظل في مواجهة الوباء الذي يقتل آلاف الأميركيين يومياً.
مواجهة العنصرية
وبالإضافة إلى التحدي الذي يمثله وباء كورونا، تأتي مقاومة العنصرية على رأس أولويات بايدن، بخاصة بعد هجوم المتطرفين من العنصريين البيض وحركة “كيو آنون” والميليشيات الأخرى من أنصار ترمب على مبنى الكابيتول قبل أسبوعين من تنصيبه.
وكشفت التحقيقات أن عدداً من المهاجمين مازالوا في الخدمة العسكرية أو من قدامى المحاربين الذين استخدموا تكتيكات عسكرية لتنظيم الهجوم، وهو ما يعتبره البعض أمراً شائناً يعود إلى فشل البنتاغون المستمر في استئصال التطرف في صفوفه نظراً إلى ما كشفت عنه جلسات استماع في الكونغرس العام الماضي عن وجود عشرات من المتعصبين للعرق الأبيض، وأن عدداً من الأعمال الإرهابية ارتكبها عسكريون في الخدمة أو سابقون.
ولهذا ينصح خبراء بضرورة تغيير أساليب الجيش لاجتثاث المتطرفين، وأن على بايدن الذي يملك صلاحيات واسعة كقائد أعلى للقوات المسلحة الأميركية إصدار أمر بإجراء مراجعة مستقلة لإجراءات البنتاغون الحالية في هذا الشأن، فضلاً عن اتخاذ إجراءات أخرى على المدى البعيد مثل تحسين فرص التنوع العرقي في القيادة العسكرية وتشديد عمليات فحص المجندين وتعزيز اللوائح التنظيمية القائمة ضد التطرف وحظر مشاركة القوات في الميليشيات الخاصة وتشجيع الإبلاغ عن جرائم الكراهية ومشاركة المعلومات حول المتطرفين مع الوكالات الفيدرالية الأخرى، وحرمان العسكريين السابقين المدانين بالتحريض والعنف المتطرف من المزايا الحكومية.
طارق الشامي
اندبندت عربي