شهدت شوارع مدن تونس احتجاجات تزامنت مع الذكرى العاشرة لفرار الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وسقوط نظامه، وقد قوبلت هذه الاحتجاجات بتشكيك جزء لا يستهان به من النخب السياسية والإعلامية في تونس، فتكرر التأكيد من قبل مسؤولين وحزبيين على أن ما يحصل هي أعمال شغب يقوم بها مراهقون وتعاملت قوات الأمن بقوة مع المحتجين مما أدى لاعتقال أكثر من ألف شخص.
حذّر وزير الدفاع التونسي، إبراهيم البرتاجي، خلال جلسة برلمانية مخصصة لمناقشة الاحتجاجات، من «تحرك عناصر إرهابية لاستغلال الليلية» وعن «ضبط بعض العناصر التكفيرية» وبهذه الواقعة يمكن أن تظهر السلطات التونسية المنتخبة ديمقراطيا، بقصد أو من غيره، قد تلبّست صوت بعض الدكتاتوريات العربية، بالحديث عن «أعمال شغب» و«إرهاب» وأساءت بذلك للجماهير التي انتخبتها، وكذلك لذكرى الثورة التي أوصلتها إلى سدة الحكم.
تعتبر «أعمال الشغب» في كل النظم السياسية، تعبيرا عن إحباطات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وفي حين تقابل في النظم الديمقراطية، بداية، بأشكال من الاحتواء الأمني لوقف الاعتداء على الأملاك العامة والخاصة، كما يُحال المعتدون إلى الأجهزة القضائية المختصة، غير أن تلك الاحتجاجات تجد تعبيرات مؤيدة لها ضمن النخب السياسية، وتؤدي غالبا إلى مساءلات ومراجعات، وقد تفضي في بعض الأحيان إلى تغييرات سياسية وقانونية محلّية وعالمية، كما هو الحال في حركة «حياة السود مهمة» أو تواجه بارتدادات سياسية محافظة توجه غضبها نحو أقليات لحرف اتجاه الحراك، كما هو حال الحكومة الفرنسية مع حركة «القمصان الصفر» الفرنسية، أو تقابل بالرصاص، كما رأينا في سوريا ومصر، وحتى في تونس نفسها خلال الثورة عام 2011.
لا يمكن لأي كان نكران الإنجاز العظيم الذي شكلته الثورة التونسية، فبعد إسقاط نظام بن علي الدكتاتوري سنت البلاد دستورا جديدا وبدأت مسارا ديمقراطيا، وتمتع مواطنوها، على عكس أغلب سكان البلدان العربية، بالحرية التي أعطتهم إحساسا ثمينا بالكرامة لا يتمتع به، للأسف، أغلب نظرائهم، من المحيط إلى الخليج، كما بدأت الدولة عملية إعادة إعمار فازدهرت السياحة، وبدأت دول العالم الغنية بالمساعدة، في الوقت الذي بقي أغلب سكان البلدان العربية يعيشون في ظل أنظمة تضيّق عليهم الحياة، وتراقب أنفاسهم، وتحتكر موارد البلاد وتتعاطى مع الاقتصاد كمزارع خاصة للبطانة الحاكمة.
لم تستطع الحالة الديمقراطية التونسية، رغم ذلك، أن تعزل نفسها عن المحيط الإقليمي الضاغط، سواء من ليبيا التي تعاني من حرب أهلية، وتدخلات عسكرية لدعم عودة نظام دكتاتوري، أو من دول الجوار المتأهبة لمنع انتشار هذه الظاهرة، وساهم ذلك في تأجيج تداعيات الماضي وخلطه بخيبات الحاضر، فاستجمعت فلول النظام التونسي القديم قواها وصار لها تمثيل سياسي وازن، كما قام تيار السلفيّة الجهادية المسلّح بعمليات إرهابية خطيرة لتأزيم وضع البلاد، وحسب وزير التجارة الأسبق فإن الحصيلة الاقتصادية لعشر سنوات من الثورة كانت «مخيبة لآمال التونسيين رغم النجاح الذي تحقق في المسار السياسي» فإجمالي الناتج المحلي هو بمستواه الذي كان عليه قبل 10 أعوام، فيما ارتفع معدل البطالة واتسعت دائرة الفقر، وتقول استطلاعات أن واحدا من كل ثلاثة شبان في تونس يرغب في الهجرة.
تمثّل الاحتجاجات الحالية مناسبة للنخب السياسية المؤيدة للثورة لفتح باب التساؤلات الجذرية حول البرامج الاقتصادية والاجتماعية القابلة لخلق تنمية حقيقية، فالديمقراطية، في مبناها الأعمق، هي أداة ارتقاء اقتصادي واجتماعي أكثر منها حصد أصوات وملء صناديق انتخابية ووصول ممثلين للشعب إلى البرلمان.
القدس العربي