يتولى الرئيس جوزيف بايدن دفة القيادة في الولايات المتحدة، في لحظة لا يخفى على أحدٍ مدى دقتها وخطورتها، سواء على الصعيد الداخلي الأميركي أو على مستوى العالم الذي يواجه تحدياً مشتركاً غير مسبوق، من حيث ضراوته واتساع أبعاده وتداعياته، ممثلاً في جائحة «كورونا». إننا أمام لحظة مُفعمة بمخاطر شتى ومفتوحة على احتمالات متباينة، وهي لحظة تقتضي قيادة من نسيج خاص. وظني أن الرئيس بايدن، بخلفيته التي نعرفها وخبرته المشهود لها، مؤهل للقيام بدور تاريخي، سواء في الداخل الأميركي أو على صعيد تأثير بلاده في العالم.
لقد حمل الخطاب الذي ألقاه الرئيس بايدن يوم 20 يناير (كانون الثاني) بشائر واضحة تُشير إلى طريق المستقبل، إذ عكس نزوعاً صادقاً للملمة الشمل وصناعة الإجماع وصياغة التوافق وتجاوز الاستقطاب، وهي قيم ومبادئ تحتاجها أميركا اليوم، بقدر ما يحتاجها العالم الذي يقترب من وضع خطير من التنافس بين القوى الكبرى، والصعود اليميني الشعبوي، ونمو الحركات العنصرية، والتراجع الاقتصادي على وقع الجائحة، فضلاً عن تحديات التغير المناخي والتدهور البيئي وغيرها. وكلها تحديات ضاغطة تحتاج – ولا شك – لقيادة أميركية مشتبكة ومبادِرة، وليست منسحبة أو متراجعة.
إن الولايات المتحدة تقوم بدور مؤثر وحاسم في الاستقرار العالمي. وأود أن أكتب هنا تحديداً حول جانب رئيسي من هذا الدور الأميركي في العالم؛ ذلك المتعلق بالسياسة الأميركية حيال المنطقة العربية.
ربما كانت القضية الفلسطينية من أكثر الموضوعات التي ستتطلب من الإدارة الجديدة نهجاً مختلفاً. وليس بخافٍ على أي متابعٍ منصف ما يشعر به الفلسطينيون من مرارة حقيقية حيال ما تعرضوا له من غبن وتهميش ومحاولات لفرض تصور أحادي للحل النهائي، لا يستند إلى أي من المرجعيات المعروفة؛ بل يتماهى كُلياً مع الرؤية الإسرائيلية. إن ثمة حاجة ماسة لاستعادة ثقة الفلسطينيين بالمسار السياسي السلمي، باعتباره الطريق الوحيد لتحقيق آمالهم القومية في دولة مستقلة على حدود 67. ثمة حاجة ماسة كذلك لاستعادة الثقة بمنهج حل الدولتين باعتباره أساس التسوية، وهو أمر تعرض للاهتزاز والتشكيك خلال الفترة الماضية. والمأمول أن تقوم الإدارة الأميركية الجديدة باستعادة الثقة بدورها كوسيط مُحايد في عملية سلمية تُشارك فيها أطراف دولية وعربية، سواء في إطار الرباعية الدولية (بعد توسيعها بتضمين أصوات عربية)، أو في أي إطار دولي يضمن حشد جهود كافة الأفراد المعنية بصنع السلام في الشرق الأوسط. ولا شك أن اتفاقات السلام التي وُقعت مؤخراً بين عدد من الدول العربية وإسرائيل قد تُسهم في خلق مناخ إيجابي من الثقة، بما يُساعد على معالجة القضية الأساسية التي تمثل جوهر النزاع. والأهم هو ألا يتصور الطرف الإسرائيلي أن هذه الاتفاقات بديل عن التسوية وحل الدولتين بأي حال.
إن المنطقة العربية، على ما فيها من مشكلات، ليست أرضاً تُنبت اليأس والألم وحدهما. هناك خطوات إيجابية مهمة تجري، يتعين البناء عليها في المرحلة القادمة. ولا شك أن المصالحة التي حضرت تدشينها في مدينة العُلا السعودية يوم 5 يناير (كانون الثاني) الماضي، تُمثل خطوة رئيسية في الاتجاه الصحيح. لم يكن من الصعب على كل من حضر هذه القمة الخليجية، ودقق فيما صدر عنها، أن يلمس عزم الأطراف اتخاذ خطوات جادة لتجاوز هذه المرحلة الصعبة في العلاقات العربية – العربية، وربما التأسيس لمرحلة جديدة يستعيد فيها العمل العربي المشترك زخماً ونشاطاً ضروريين، وأن يواجه النظام العربي التحديات صفاً واحداً، وهو ما يفتح أفقاً واعداً أمام التعاون مع الإدارة الأميركية، على أرضية من التفاهم والثقة بين كافة الأطراف.
لقد عانت منطقتنا، ولا تزال، من عَقد من عدم الاستقرار والاضطراب كان شديد الوطأة على أمن دولها وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. ما برحت الجراح مفتوحة، والتكلفة الإنسانية للصراعات في سوريا واليمن وليبيا، تفوق التصور. وفي بلاد عربية أخرى، مثل العراق ولبنان والسودان، تناضل الشعوب والحكومات بصعوبة من أجل الوصول إلى معادلة استقرار سياسي واجتماعي، وسط ضغوط تضاعفت بسبب الجائحة وآثارها. إن تراجع النشاط التجاري والاقتصادي، والانخفاض في أسعار النفط وعوائد صناعة السياحة والسفر، لن يؤثر على الدول المصدرة للنفط وحدها، وإنما ستكون له تبعاته السلبية الواضحة على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية لسنوات.
ويظل أخطرَ ما يواجه المنطقة هو استمرار الصراعات الداخلية في عددٍ من الدول، وتفاقم التكلفة الإنسانية لهذه النزاعات. ففي اليمن، يبذل المبعوث الأممي غريفيث جهداً مشهوداً، من أجل جمع كلمة الأطراف المتحاربة على «إعلان مشترك» يتضمن وقفاً لإطلاق النار، وإجراءات أخرى على الصعيد الإنساني والاقتصادي لبناء الثقة والتمهيد لاتفاق سياسي شامل. ولا شك في أن ثقل الولايات المتحدة الدبلوماسي مطلوب للدفع قُدماً بهذه المبادرات وتحويلها إلى واقع جديد يمنح للملايين الأمل والوعد بإنهاء هذا الصراع الذي تتفاقم تكلفته الإنسانية كل يوم، بينما يبدو الطرف المُتسبب فيه – جماعة الحوثي – غير عابئ بهذه التكلفة؛ بل ومتخلياً عن قراره السياسي المستقل لصالح أطراف إقليمية معروفة تمارس التعطيل والمماطلة من أجل إطالة أمد الصراع.
وفي سوريا، ما زال التنافس الدولي والإقليمي جارياً على أرض هذا البلد المنكوب بالصراع، والممزق على وقع أجندات أجنبية متنافسة، بعد أن صار نحو نصف سكانه من اللاجئين والنازحين. إنه وضع غير قابل للاستمرار، ويضرب الاستقرار الإقليمي في الصميم. علينا أن نتحرك سريعاً من أجل إنقاذ ما تبقى من هذا البلد، والخطوة الأولى هي بناء التوافق اللازم بين القوى المؤثرة والضالعة في هذا النزاع على أجندة للحل السلمي والاستقرار، انطلاقاً من القرار الأممي 2254.
وفي ليبيا، نلمس رغبة أكثر وضوحاً في التوافق بين الأطراف الليبية، وثمة محادثات واتفاقات يجري العمل عليها توطئة لعقد انتخابات في نهاية هذا العام. ولا شك أن الدور الأميركي يظل مطلوباً على الصعيد الدبلوماسي من أجل اغتنام نافذة الفرصة المتاحة حالياً.
كما أن هذا الدور مطلوب في لبنان الذي يعاني شللاً سياسياً وتراجعاً اقتصادياً مخيفاً، على خلفية حالة من صراعات المصالح والاستقطاب السياسي الداخلي الحاد تذكيها تأثيرات خارجية غير حميدة. ومن المهم أن تقوم الولايات المتحدة بدور إيجابي من أجل مساعدة الأطراف الساعية لإخراج هذا البلد العربي العريق للوصول إلى بر الأمان السياسي والاقتصادي.
إن ثمة عاملاً حاضراً في كافة هذه النزاعات والمشكلات، يتمثل في التدخلات الإقليمية غير الحميدة.
لقد أضعفت النزاعات بنية النظام الإقليمي العربي، وجعلته عُرضة لتدخلات خطيرة وغير مسبوقة في مداها وحِدتها من أطراف إقليمية طامحة وطامعة في ممارسة قدر أكبر من النفوذ في منطقتنا. أتحدث هنا، بصراحة ووضوح، عن إيران وتركيا اللتين مارستا خلال السنوات المنصرمة نوعاً من «التنمر الإقليمي» في مواجهة الدول العربية؛ بل وانتهى الأمر إلى فرض الوجود العسكري المباشر على التراب الوطني لعدد من الدول العربية. هذا الوضع يحتاج إلى معالجة شاملة وحازمة؛ لأنه يزيد من مخاطر الصراعات في إقليمنا، ويجعل النزاعات القائمة أكثر استعصاء على الحل؛ بل وعُرضة للتفاقم والتوسع.
إن ما تمثله إيران وملفها النووي من تحدٍّ كبير للسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط بوجهٍ عام هو أمر واضح. ويهمني في هذا المقام التأكيد على أن أي معالجة دولية «للمسألة الإيرانية» لا بد من أن تأخذ بعين الاعتبار الشواغل العربية. إن ما يشغل العرب، في المقام الأول، هو السلوك الإيراني الذي لا يتسم فقط بالتهور والعدائية السافرة حيال بعض دولنا؛ بل بالأنانية المفرطة كذلك. أما ما يهم العرب فهو علاقة جيرة طبيعية – على أساس من الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية – مع إيران التي نشترك معها في تاريخ طويل، ووشائج ثقافية وحضارية ودينية. وقد يكون مناسباً التذكير في هذا المقام بأن المعالجة التي دفعت بها إدارة أوباما، في صورة الاتفاق النووي، لم تتمتع بعنصر الاستدامة؛ لأنها لم تعالج شواغل؛ بل ومخاوف، كثير من الأطراف. وأتصور أن أمام الإدارة الجديدة فرصة سانحة لشق سبيل مختلف لمعالجة هذا المسألة البالغة التأثير على الأمن الإقليمي، بالتشاور والتوافق مع كافة الأطراف المعنية.
وإذا انتقلنا من التفاعلات والمشكلات الإقليمية إلى الأوضاع الداخلية للدول العربية، نرصد على الفور أن ثمة نضالاً تباشره قيادات عربية واعدة ومخلصة من أجل تغيير المجتمعات، ومنح الشباب الذي يُشكل الأغلبية الساحقة من السكان، مستقبلاً أفضل. إن كثيراً من القادة العرب يخوضون كفاحاً ضارياً من أجل خلق بيئة مناسبة للتحديث، في مواجهة تيارات وجماعات تهدد النسيج الاجتماعي. لقد تحدث الرئيس بايدن، في كلمته المهمة في يوم التنصيب، عن وحدة النسيج الاجتماعي، باعتبارها الهدف الأهم لأي مجتمع في مواجهة التحديات. والحقيقة أن مجتمعاتنا العربية تجابه بدورها تهديداً خطيراً لتماسكها على يد قوى تتبنى خطاباً دينياً متطرفاً، ولا تتورع عن ممارسة العنف الأقصى في مواجهة السكان المدنيين.
إن الصراع الحقيقي على مستقبل منطقتنا ليس بين أديان أو طوائف، وإنما أراه بين أنصار الحداثة والعقلانية وقيم المواطنة والدولة الوطنية من جهة، وبين فكر ومنهج جماعات العنف وأنصار الحكم الديني من جهة أخرى. وأثق أن الإدارة الجديدة، بما يتوفر للقائمين على الشؤون الخارجية والأمن القومي فيها من خبرات طويلة مع الشرق الأوسط، تدرك جيداً أي جانب يتعين أن تنحاز إليه الولايات المتحدة في هذا الصراع المفصلي الحاسم. إن الانحياز في هذه المعركة إلى جانب أنصار التحديث، لا يعني تطابقاً كاملاً في الرؤية معهم. فالمأمول هو أن ننجح في العمل معاً عبر حصر الخلافات في نطاق محدد، وبما لا يؤثر في قدرتنا على التعاون والتحرك المشترك من أجل كسب هذه المعركة الرئيسية على مستقبل المنطقة.
إن تجربة السنوات العشر الماضية، على صعوبتها وقسوتها، تمنحنا من العبر والدروس ما ينبغي أن نضعه نصب أعيننا؛ لنعرف أين الخطأ وأين الصواب. لقد أدت ضغوط غربية شديدة من أجل تسريع إيقاع التغيير إلى انفجار عدد من الدول العربية سياسياً واجتماعياً، بكل ما رتبه ذلك من تبعات أمنية وإنسانية لم تعد خافية على أحد. لقد صار واضحاً أن نهج الضغوط، السياسية والإعلامية، لا يقود إلى الهدف المعلن من دفع التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بلدان المنطقة. ويقيني أن إدارة الرئيس بايدن لديها من الخبرات والتجارب وعمق الرؤية ما يمكنها من إجراء هذه المراجعة الضرورية، من أجل المستقبل.
أحمد أبو الغيط
الشرق الأوسط