تخلّى بشار الأسد عن مسؤوليته كحاكم شرعي لسوريا، وخذل شعبه بطرق أكثر شمولية شملت انتهاكاته لحقوق الإنسان. ويوفر إهمال النظام وجرائمه في سوريا سبباً كافياً لتغيير نهج واشنطن حتى لو لم تكن الرهانات الإقليمية والجيوسياسية المتزايدة كافية بحد ذاتها.
بينما يمعن الرئيس بايدن النظر في أفضل مقاربة لواشنطن للتعامل مع المشاكل السورية التي أربكت الإدارتين الأمريكيتين السابقتين، بإمكانه التوصل بثقة إلى استنتاج واحد على الأقل، وهو أن نظام بشار الأسد تخلى عن مسؤوليته كحاكم شرعي على كافة المستويات. وينبع جزء من هذا الاستنتاج من الملف الهائل لانتهاكات النظام السوري لحقوق الإنسان. وكما أكد ستيفن راب، السفير الأمريكي المتجول السابق لقضايا جرائم الحرب في عهد إدارة أوباما، مؤخراً في برنامج “60 دقيقة”، “لدينا دليل أفضل ضد الأسد وزمرته مما كان لدينا ضد ميلوسيفيتش في يوغوسلافيا … حتى أفضل مما كان لدينا ضد النازيين في نورنبرغ”. ومع ذلك، فقد خذل النظام سوريا وشعبها بطرق أكثر شمولية أيضاً، مما يضمن أن زعزعة الاستقرار، والتداعيات الإقليمية، والاستغلال من قبل خصوم الولايات المتحدة لن تنمو إلا إذا التزمت إدارة بايدن بسياسات الوضع الراهن.
فشل نظام الرعاية الصحية
أدت الخطوات العسكرية والدبلوماسية غير الإنسانية التي اتخذها الأسد وحلفاؤه الأجانب على مر السنين إلى تفاقم أزمة الرعاية الصحية في سوريا. أولاً، أدى القصف السوري والروسي المتعمد للمستشفيات والمرافق الطبية الأخرى إلى تدمير البنية التحتية اللازمة لتأمين خدمات الصحة العامة لشرائح كبيرة من السكان. ووفقاً لتقرير صادر عن “أطباء من أجل حقوق الإنسان” في عام 2020، قتلت قواتهما أيضاً ما يقرب من 1000 من العاملين في مجال الرعاية الصحية منذ بدء الحرب.
ونتيجة لذلك، أصبح ملايين السوريين اليوم يعتمدون على المساعدات الإنسانية الخارجية لتلبية احتياجاتهم الصحية. وهنا أيضاً، خذل النظام شعبه، لأن أي نقص في المساعدات يسبب الآن تحدياً صحياً كبيراً. وفي إحاطة من قبل الأمم المتحدة في كانون الثاني/يناير 2021، أشار المسؤولون إلى أنه من بين 13 مليون سوري الذين هم بحاجة إلى مثل هذه المساعدات، وصلت الجهود الإنسانية التي تنسقها الأمم المتحدة إلى 7.6 مليون شخص فقط. ويقع معظم اللوم في هذا النقص على عاتق الأسد وموسكو، اللتين منعتا وصول الأمم المتحدة بشكل أكبر عبر المعابر الحدودية التي لا تقع حتى تحت سيطرة النظام.
كما أدى سوء تعامل الأسد مع جائحة كورونا (“كوفيد-19”) إلى تفاقم الأزمة الصحية عموماً. فحتى 2 آذار/مارس، ادّعى النظام أن عدد الإصابات في سوريا اقتصر على 15696 حالة بينما بلغ عدد الوفيات 1039 حالة. ومع ذلك، فإن هذه التقديرات هي أقل من الواقع – فوفقاً لتقرير صادر من قبل “سوريا على طول” في 14 كانون الثاني/يناير، تضْمن حملة قمع المعلومات وتحديات الاختبار الإبلاغ عن 1.5 بالمائة فقط من الوفيات. وليس لدى الحكومة خطط لتطعيم أكثر من 20 في المائة من سكان البلاد هذا العام، وليس هناك شك بأن هذه الإمدادات المحدودة ستقتصر على الدائرة المقربة من الأسد والقاعدة الأساسية للعلويين.
اقتصاد متعثّر
ألقى بعض المراقبين باللوم على العقوبات الأجنبية في المشاكل الاقتصادية لسوريا، وتشكل هذه الرواية جزءاً أساسياً من حملة الدعاية التي يمارسها النظام. لكن الأسد نفسه اعترف في 4 تشرين الثاني/نوفمبر أنه “عندما أُغلقت المصارف في لبنان، دفعنا الثمن. هذا هو جوهر المشكلة”. وتسلط مثل هذه التصريحات الضوء على الدرجة الخطرة التي يتداخل فيها الاقتصاد السوري مع الاقتصاد والنظام المصرفي في لبنان، مما يضمن فعلياً أن أي عدم استقرار مالي عبر الحدود سيؤثر على الوضع في سوريا.
علاوة على ذلك، ونتيجة للوباء، وجد تقرير للأمم المتحدة أن 45 في المائة من العائلات السورية فقدت مصدر دخل واحد على الأقل اعتباراً من كانون الأول/ديسمبر 2020، مما زاد الوضع سوءاً. ولا يزال الفقر والبطالة مرتفعين للغاية، حيث أفاد “الصليب الأحمر” أن 80 في المائة من السكان يعيشون تحت خط الفقر الدولي البالغ 1.90 دولاراً في اليوم اعتباراً من حزيران/يونيو 2020.
ويشكل التضخم مشكلة كبيرة أيضاً. فمع ارتفاع سعر الصرف من 47 ليرة سورية للدولار الأمريكي قبل الحرب إلى 3590 ليرة في الشهر الماضي، بلغ معدل التضخم حوالي 200 في المائة خلال العام الماضي، مما يجعل السلع الأساسية باهظة الثمن بالنسبة للمواطن العادي.
تدهور بيئي
إن أوجه القصور التي يعاني منها النظام من حيث السيطرة المركزية وقدرات الدولة جعلت من الصعب مواجهة التحديات البيئية المحلية. وقد بدأ بعض تلك الإخفاقات خلال حكم حافظ الأسد، والد بشار، مثل العرض السيئ التخطيط للاكتفاء الذاتي الغذائي الذي بدأ في الثمانينيات لكن انتهى به الأمر إلى اندلاع أزمة في قطاع القمح، وتسبب في تدهور بيئي كبير، وساهم في الاضطرابات التي تطورت إلى انتفاضة 2011. ومع ذلك، تقع التحديات الأكثر حداثة بالكامل على عاتق نظام بشار، الذي أثبت أنه غير قادر على مواجهتها أو غير راغب في ذلك – وفي بعض الحالات تسبب عمداً في تفاقمها.
إن القائمة طويلة ومتنامية. ففي العام الماضي، ألقى تقرير صادر عن “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية” باللوم على تغير المناخ في اشتداد حرائق الغابات في سوريا، التي أدت إلى إدخال ثمانين شخصاً إلى المستشفيات ونزوح الآلاف في شهر تشرين الأول/أكتوبر وحده. وفي تركيا، أصابت موجات الجفاف المتكررة والشديدة القطاع الزراعي وزادت من مخاطر مشاريع بناء السدود الجديدة فيها – خاصةً منذ أن تجاوزت خزانات المياه الجوفية السورية أعماقها القصوى ووصلت إلى نقطة الانهيار حتى قبل عقد من الزمن، وفقاً لتقرير ما قبل الحرب من قبل “مركز ويلسون”. كما فقدت البلاد أيضاً ما يقرب من 20 في المائة من الغطاء الحرجي المستنفد بالفعل منذ عام 2000. ووفقاً لموقع “سوريا على طول”، يعود ذلك جزئياً إلى زيادة قَطْع الأشجار غير القانوني في إدلب واللاذقية وحلب، وهو اتجاه ظهر بعد أن قطع النظام الكهرباء كعقاب جماعي على المناطق التي انتفضت على حكمه. وفي سهوب البادية الوسطى / المنطقة الصحراوية، أدّى الرعي الجائر والجفاف إلى تدمير النباتات الصغيرة التي تمنع التآكل وتغذي الماشية.
تهجير اللاجئين إلى أجل غير مسمى
لا يزال الأسد هو العائق الرئيسي أمام عودة ملايين اللاجئين السوريين إلى ديارهم من تركيا ولبنان والأردن ودول أخرى. ويخشى العديد منهم من التعرض للاعتقال أو القتل انتقاماً لعلاقتهم المزعومة بالانتفاضة، أو حتى لمجرد فرارهم من أراضي النظام في المقام الأول. علاوة على ذلك، أدّى الدمار الواسع النطاق للبنية التحتية الذي أحدثته قوات النظام والقوات الروسية، إلى جانب الاستيلاء على الممتلكات على نطاق واسع من قبل العناصر الموالية والإيرانية / بالوكالة، إلى ترك العديد من السوريين بلا منازل يعودون إليها.
تصحيح الأخطاء الأمريكية السابقة
قبل أشهر من تعيين أنتوني بلينكن وزيراً للخارجية في إدارة الرئيس بايدن، قال في البرنامج التلفزيوني “فيس ذي نيشن” (Face the Nation) خلال أيار/مايو 2020 بأنه من الضروري أن يعترف هو وأعضاء آخرين في إدارة أوباما السابقة بـ “أننا فشلنا” فيما يتعلق بالسياسة الأمريكية بشأن سوريا. وختم قائلاً “إنه شعور سأحمله بقية عمري. إنه شعور يراودني بقوة”. وإذا كانت الإدارة الأمريكية الجديدة جدية بشأن التعويض عن هذه الأخطاء واستعادة المكانة العالمية للولايات المتحدة، فعليها أن تتجنب الافتراضات الاستراتيجية الخاطئة التي أوصلت إلى تلك الأخطاء.
ويشمل ذلك الفكرة القائلة أن السياسة الأمريكية المتعلقة بسوريا يمكن أن تندرج بأمان في إطار المفاوضات النووية مع إيران – وأن يتم التضحية بتلك السياسة بشكل أساسي لصالح المفاوضات. عوضاً عن ذلك، يجب على واشنطن أن تعمل وفقاً للافتراض المعاكس، وهو أن سوريا هي نقطة الارتكاز في سياسة إيران في المنطقة، وبذلك فإن اتِّباع سياسة أمريكية أكثر فاعلية وحذقاً في البلاد قد يوفر نفوذاً إضافياً ضد طهران. فبدون نظام الأسد، ستضعف السياسة الخارجية لإيران برمتها في المنطقة، لأن سوريا هي امتداد مركزي في الجسر البري بين إيران والعراق ولبنان والذي يربط بين ما يسمى بـ “محور المقاومة”.
ويقيناً، أن ما ارتكبه نظام الأسد من إهمال وسوء إدارة داخل البلاد، ناهيك عن إجرامه وافتقاره إلى الشرعية، توفر جميعها أسباباً كافية ووافية بحد ذاتها لزعزعة نهج واشنطن. ومع ذلك، تشكل إعادة إحياء سياسة أمريكية جادة تجاه سوريا أمراً جوهرياً حتى من منظور السياسة الواقعية البحتة، والمنافسة بين القوى، ولو كان ذلك فقط لوقف تقدم خصوم أمريكا في طهران وموسكو.
هارون زيلين
معهد واشنطن