ارتفع الذهب خلال أغسطس (آب) 2020 ليسجّل أعلى سعر تاريخي عند مستوى 2,067.00 دولار للأونصة، ثم بدأ يتراجع بعد شهر عندما عاود الدولار الأميركي الارتفاع، ثم بدأت حال الخوف من المجهول المرتبطة بانتشار الجائحة تتبدد شيئاً فشيئاً في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، عندما أطلقت شركة “فايزر -بيونتيك” لقاح كورونا.
وزادت ثقة الأسواق في يناير (كانون الثاني) 2021، عندما سيطر الديمقراطيون على الكونغرس الأميركي، وبدأت الأسواق تتوقع خطة تحفيز اقتصادي كبيرة، وهذا التحول تسبب في زيادة شهية المستثمرين لأخذ مزيد من المخاطر وشراء أدوات مالية عالية الأخطار، مما دفع بالسيولة إلى التخارج من الذهب الذي تراجعت أسعاره.
عوائد السندات والمعدن الأصفر
عوامل عدة تؤثر في حركة المعدن الأصفر بالأسواق، لكن يظل تأثير عوائد السندات السيادية الأميركية الأهم، فخلال العقدين الماضيين توجد علاقة قوية بين حركة الذهب والسندات، ومنذ الأزمة المالية العالمية في 2008 زاد الارتباط، إذ إن انخفاض العائد على سندات الخزانة الأميركية بمئة نقطة أساس يتزامن مع ارتفاع سعر الذهب بـ 30 في المئة.
ومن المعلوم أن أسعار السندات تعاكس اتجاه العوائد عليها، حيث الذهب يرتبط بعلاقة طردية مع أسعار السندات وبعلاقة عكسية مع عوائدها، وتفسير هذا الارتباط هو أن المعدن الأصفر يشابه السندات في دورها الحافظ للقيمة بوصفه ملاذاً آمناً، لكنها تتفوق على الذهب في أنها تحمل عائداً، بينما المعدن الأصفر يخزّن القيمة من دون عائد.
العائد على سندات الـ 10 أعوام ارتفع في مارس (آذار) 2021 إلى 1.62 في المئة، وهو المستوى الأعلى خلال هذا العام، وحدث هذا الارتفاع بعد إعلان بيان الوظائف الشهري الذي يصدر عن وزارة العمل الأميركية، وفيه أعلنت إضافة 379,000 وظيفة جديدة خلال فبراير (شباط) 2021.
العائد على سندات السنوات العشر أنهى العام 2020 عند واحد في المئة، وارتفع بأكثر من 50 نقطة أساس خلال أول شهرين من هذا العام.
وفي مقابل هذه الارتفاعات تراجع سعر الذهب إلى ما دون مستوى 1700 دولار للأونصة، وتفسير هذا أن المستثمرين تخلوا عن التحوط، وبدأت عملية تسعير معدلات نمو مرتفعة بعد توقعات تعافي الاقتصاد من تأثير الجائحة في 2020.
هذه التوقعات مقترنة بالتوسع في عمليات التلقيح ضد كورونا في جميع أنحاء العالم، وتراجعت المخاوف من عودة عمليات الإغلاق الواسعة التي أضرت بالاقتصاد العام السابق.
وفي العام الماضي ارتفع العائد على سندات العشرة أعوام من 0.6 في المئة إلى 1.00 في المئة، وحدث هذا الارتفاع خلال خمسة أشهر مع بداية هذا العام من 1.00 في المئة إلى 1.6 في المئة، أي في خلال شهرين فقط، وهو ما يدلل على أن وتيرة ارتفاع عوائد السندات تحدث بسرعة، مما يفسر لنا تسارع وتيرة هبوط سعر الذهب من 1,940.00 دولار للأونصة إلى 1,678.00 دولار خلال الفترة نفسها.
توقعات التضخم والمعدن الأصفر
في الوقت ذاته، أعلنت وزارة العمل الأميركية بيان التضخم خلال فبراير (شباط) 2021 بـ (+0.4)، وهي أكبر زيادة شهرية خلال ستة أشهر، وذلك لزيادة الطلب على الطاقة وارتفاع أسعارها أخيراً، وفي المقابل فمؤشر التضخم الذي يفضله الفيدرالي الأميركي (من دون حساب التغير في أسعار الغذاء والطاقة) كان الارتفاع به طفيفاً ووصل (+0.1) في المئة.
ومن الشائع أن الذهب يستخدم للتحوط مقابل ارتفاع معدلات التضخم على المدى الطويل، وأيضاً يتأثر الطلب عليه سلباً على المدى القصير بسبب توقعات ارتفاع التضخم، لأن توقعات حركة المعدن الأصفر على المدى القصير ترتبط بعوائد السندات أكثر من ارتباطها بتوقعات ارتفاع التضخم.
ويرتفع الطلب على السندات تزامناً مع توقعات السوق بارتفاع التضخم الذي بدوره سيدفع البنك المركزي إلى التخلي عن سياسة سعر الفائدة المنخفضة مستقبلاً، وأن زيادتها ستكون مبكرة.
وتأتي توقعات الأسواق بارتفاع معدلات التضخم هذه المرة مرتبطة بعاملين، فالأول عمليات التحفيز الضخمة للاقتصاد، وتتضمّن إعانات نقدية مباشرة، فهذه المبالغ النقدية مع ارتفاع معدل ادخار الأميركيين، ويتوقع أن يجري إنفاقها استهلاكياً مما يرفع من معدلات التضخم، وهذا القفز في الإنفاق الاستهلاكي أيضاً سيتسبب في علو نمو الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، الذي يسهم فيه بثلاثة دولارات من كل أربعة دولارات نمو تأتي من إنفاق المستهلكين.
العام الماضي للمعدن الأصفر كان ذهبياً
وكان 2020 عاماً مثالياً للمعدن الأصفر، إذ توافرت أسباب عدة جعلته ضمن الأصول ذات الأداء الجيد، مثل أخطار تأثير انتشار كورونا، وما ترتب عليها من عمليات إغلاق واسعة تسببت في البحث عن ملاذ آمن في الأسواق المالية، وكان الذهب أحد الرابحين. وأيضاً نجد أن انخفاض أسعار الفائدة داعم لشراء المستثمرين الذهب، نسبة إلى هبوط عوائد السندات المتأثرة سلباً بانخفاض الفائدة.
هذه الأسباب دفعت الذهب للقفز إلى مستوى 2,067.15 دولار للأوقية في أغسطس 2020، وأنهى العام عند مستوى 1,887.59 دولار للأونصة، وبلغت مكاسب المعدن الأصفر نحو 24.6 في المئة خلال العام الماضي، بينما كانت مكاسبه 18 في المئة خلال 2019.
الذهب يفقد بريقه وقلق المستثمرين يزداد
يبدأ الذهب هذا العام متراجعاً، ويخسر نحو 9.4 في المئة حتى الآن، فسجّل أدنى مستوى سعري عند 1,678.00 دولار للأونصة، وأعلى مستوى 1,954.40 دولار للأونصة، ويتداول الآن عند 1,720.40 دولار للأوقية. ومنذ منتصف العام الماضي تراجعت مشتريات البنوك المركزية الشهرية من الذهب، وتأرجحت بين الشراء وبين خفض حيازتها من احتياطي المعدن الأصفر.
ويتوقع هذا العام أن يستمر التذبذب في مشتريات البنوك المركزية على صعيد الطلب الاستثماري، وتراجعت حيازة الذهب من الصناديق الاستثمارية المتداولة في البورصات في فبراير (شباط) 2021 بـ 84.7 طن، وهذه تعادل اثنين في المئة من إجمالي الموجودات في هذه الصناديق، بتراجع شهري يعد الثالث في آخر أربعة أشهر.
هذه الأسباب تضاف إلى مخاوف المستثمرين في المعادن الثمينة من تغيير الفيدرالي الأميركي سياسة الفائدة المنخفضة، ومثل هذه الإشارات يبعث بها سوق السندات واستمرار ارتفاع العائد على سندات السنوات العشر بوتيرة سريعة، وتسجيل مؤشرات الأسهم الأميركية مستويات مرتفعة، مثلاً أسهم قطاع التكنولوجيا التي ترتبط طردياً مع شهية المستثمرين لأخذ الأخطار في الأسواق المالية.
سيناريوهات اتجاه حركة الذهب المستقبلية
السيناريو الأول: استمرار الضغوط على سعر المعدن الأصفر، وتحقق هذا الأمر مرتبط بدرجة كبيرة باستمرار ارتفاع عائد سندات العشر سنوات الأميركية إلى مستوى قريب من الـ 2.00 في المئة، إضافة إلى نمو اقتصادي قوي للاقتصاد الأميركي هذا العام، مع قوة الدولار الأميركي، وهذه العوامل الثلاثة ستؤثر في الذهب سلباً ويستمر تراجع سعره.
السيناريو الثاني استعادة الذهب زخم الصعود، وهذا يحتاج إلى توقف ارتفاع عوائد السندات وبداية تراجعها ونمو للاقتصاد الأميركي أقل من التوقعات، ثم تأكيدات قوية من الفيدرالي بأنه لن يغير سياسته النقدية، وأنه غير متخوف من ارتفاع معدلات التضخم التي تصاحب نمو الاقتصاد هذا العام، وهذه العوامل الثلاثة ستعيد زخم الصعود مجدداً للمعدن الأصفر، وربما تعيده قرباً من مستوى الـ 2.000.00 دولار للأونصة مجدداً.
عبدالعظيم الأموي
اندبندت عربي