لا يمكن لأي متابع للمشهد السياسي السوري إلا أن يلاحظ طبيعة التدخلات والمصالح الإقليمية والدولية التي كانت تحيط بالميدان السوري وكمية القوى والتيارات السياسية التي تمتلك حرية الحركة والعمل في الدفع باتجاه تحقيق عملية التوازن الاستراتيجي لكافة الدول والمجاميع المسلحة في الأرض السورية.
احاطت بالعاصمة (دمشق) العديد من المشاريع السياسية والتي انبثقت وتمددت بسبب عدم قدرة النظام السابق على الإحاطة بها بل أنه كان المساهم الفعلي في تحقيق أهدافها وغاياتها على حساب حياة ومستقبل ابناء الشعب السوري، وكان رأس رمح هذه المشاريع، هو المشروع السياسي الإيراني الذي اتخذ من العراق ساحة للانطلاق نحو عواصم الأقطار العربية وكانت دمشق في مقدمة أهدافه حتى انها اعتبرت جزءًا مهمًا وغاية رئيسية من أهداف الأمن القومي الإيراني،واتسعت دائرة النفوذ الأمني الإستخباري في إقامة معسكرات التدريب التي احتضنت المليشيات الأفغانية والباكستانية وبكوادر وقيادات تابعة للحرس الثوري الإيراني، بل إن الفصائل والمليشيات العراقية من مقاتلي حركة النجباء والحمزة سيد الشهداء وحزب الله العراقي كانت في مقدمة القوى المساندة والمشاركة في تنفيذ اهداف المشروع الإيراني الذي يحظى بمتابعة دقيقة من قبل المرشد الأعلى علي خامنئي، واستخدمت الأراضي السورية في توسيع امتداد جذورها وتكريس جهودها والدفاع عن بقاء نظام بشار الأسد بإعتباره الركيزة الأساسية في استمرار الدعم العسكري والأمني لحزب الله اللبناني.
أدى سقوط نظام الأسد إلى ضياع وفقدان أهم بقعة مكانية ومنطقة استراتيجية كان تتمتع بها إيران واجهزتها الاستخبارية والعسكرية ومهما بحثت واستبدلتها بأرض ودولة أخرى فإنها لا يمكن لها التعويض عن سوريا، فهي محور المشروع الإيراني والحلقة المركزية التي ترتبط مسارات أهداف فيلق القدس والحرس الثوري من الأراضي العراقية باتجاه المدن السورية وصولًا إلى سواحل البحر الأبيض واحتضانها لحزب الله اللبناني.
أولى الملامح الرئيسية التي أصابت الأهداف الإيرانية انها أنهت جزءًا رئيسيًا من التواجد الميداني للفصائل والمليشيات المسلحة المرتبطة بها وابتعدت عن أماكن ومواقع حزب الله في الجنوب اللبناني الذي ضعفت قدرته وإمكانية مقاتليه عن تنفيذ مبادئ وغايات المشروع الإيراني.
بدأت إيران تتداعى أمام نظام سياسي جديد تعيشه تدريجيًا منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي ، وأصبحت خطوط التماس عبر الحدود العراقية السورية في منطقة البوكمال ديرالزور والتي كانت تعتبر الشريان الاستراتيجي لإيران تحت سيطرة القوات الامريكية، وابتعد التأثير الميداني الإيراني بفعل التطورات السياسية الاخيرة في المشهد العام السوري.
ومهما حاولت إيران العودة مرة ثانية لاستعادة مكانتها وتأثيرها في العمق السوري فإنها سوف لا تحقق شيئًا بسبب الرفض الشعبي لها وللأساليب القمعية والاعتداءات الوحشية التي اعتمدتها مليشياتها في تعاملها مع ابناء الشعب السوري وفي كافة مدنه وقصباته التي شهدت تواجدًا أمنيًا وعسكريا لها أثقل كاهل المجتمع السوري.
ولا يمكن والتعويل على أي موقف تحاول إيران إعلانه من سعيها لاحترام وحدة الأراضي السورية وسلامتها، لأن الجميع لازال يذكر ما كانت تؤمن به العقيدة الإيرانية السياسية والعسكرية في رؤيتها للدولة السورية وتعتبرها
المحافظة الإيرانية الـ35 وجسرها نحو البحر الأبيض المتوسط وطريقها الذي يوصلها إلى هيئة الأركان التابعة لمقاتلي حزب الله اللبناني الذي كانت ترى فيه الجدار الكبير والمتماسك الذي سيحفظ لها أهدافها في مشروعها بالتمدد والنفوذ على حساب تاريخ وحياة ابناء الأقطار العربية في سوريا ولبنان واليمن وتحقيق أحلامها في السيطرة على عواصم الأقطار العربية في غرب أسيا.
أن العقيدة السياسية الإيرانية قائمة على ثوابت رئيسية تتعلق ببقاء النظام وهيمنته وسيطرته في العاصمة طهران والحفاظ على برنامجه من الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة والتمسك بغايته الكبرى في اعتماد إيران والاعتراف بها دولة إقليمية مؤثرة عبر توسيع مدارات برنامجها النووي واعتمادها دولة نووية في النادي العالمي، ولا يهمها مدى التضحيات التي تقدمها لأنها سوف لا تخسر فيها حالة مادية ولا تقدم خلالها تضحيات بشرية، لوجود أذرعها ووكلائها الذين تستخدمهم في أي ميدان لها فيه تأثير وتواجد، ولا توجد لديها أي موانع في التخلي عنهم وتركتهم مقابل التمسك بعقيدة قبضة النظام والبقاء في الحكم والحفاظ على مشروعها السياسي.
ان المتغير السياسي العربي السوري أصاب المشروع الإيراني في نحره وحدد مستقبله في منطقة الشرق الأوسط، وإيران تدرك هذه الحقيقة وتعلم مدى الخسائر التي قدمتها في الجنوب اللبناني والميدان السوري، وهي في انتظار ما ستؤول إليه الأحداث بعد تسلم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وبدأت أولى ملامح ضعف الموقف الإيراني من الاجتماع الأخير في العاصمة القطرية ( الدوحة) وقبل ساعات من اعلان سقوط نظام بشار الأسد، الذي تميز بالتردد والعجز عن أي محاولة وتأثير بالدفاع عن حليفهم الاستراتيجي في سوريا، وسبق ذلك الموقف الرسمي الإيراني من الموافقة على الهدنة الإسرائيلية مع حزب الله اللبناني رغم الخسائر والصدمات التي تعرضت لها قياداته وكوادره السياسية والعسكرية، والتي حاولت فيها إيران العودة لسياسة التهدئة وضبط النفس .
وحدة الدراسات الإقليمية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية