الاستراتيجية الإيرانية الإقليمية بعد هروب الأسد

الاستراتيجية الإيرانية الإقليمية بعد هروب الأسد

اياد العناز

كان للتغيير السياسي السوري وقعه المؤثر على السياسات الدولية والإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وإصاب استراتيجية التحالف الإيراني السوري في العمق وأدى إلى أحداث تصدع في الهيكلية السياسية والأمنية للمؤسسة العسكرية الإيرانية وتحديدًا فيلق القدس والحرس الثوري اللذين كانا على تماس كبير ومؤثر في طبيعة المشهد العام السوري، بسبب مرتكزات العقيدة الإيرانية التي كانت تعتبر دمشق حلقة اتصال مركزية جوهرية مهمة في تنفيذ المشروع السياسي الإيراني في عدد من عواصم الأقطار العربية والاطلالة الواسعة على سواحل البحر الأبيض المتوسط.
أن أبعاد هروب بشار الأسد وتركه للبلاد أحدث فجوة كبيرة ومساحة واسعة لغياب التأثير الإيراني على الساحة السياسية السورية، وهو بدأت تدركه وتعلمه جيدًا جميع مؤسسات النظام الإيراني وبتشكيلاتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية، فحجم الاستثمارات التي كانت معتمدة في الميدان السوري تبلغ مايقارب (35) مليار دولار عبر شركات ومواقع اقتصادية واستثمارات للطاقة والمعادن وهيمنة أمنية وسياسية على مجمل القرار الحكومي السوري فيما يتعلق بالاقتصاد المحلي والعلاقات السياسية مع دول الجوار، إضافة إلى حجم الدعم الائتماني والعسكري للنظام طيلة سنوات الأزمة السياسية السورية والتي تقدر ب (100) مليار دولار،
وهذا ما حاول المرشد الأعلى علي خامنئي الابتعاد عنه عند الحديث الذي خص به بعض من أركان المؤسسة السياسية والعسكرية الإيرانية في الحادي عشر من كانون الأول 2024 وعدم توسعه في موضوع تغيير الاستراتيجية الإقليمية للنظام بل عمد إلى تكثيف حالة الاندفاع الذاتي وتعزيز الروح المعنوية للقيادات والقواعد الرسمية والشعبية وإعطاء صورة لما حصل في سوريا على انه مؤامرة دولية إقليمية وتعاون مع دولة مجاورة ( يقصد تركيا) دون أن يشير إليها صراحة.
إتسم الحديث بنوع من العمومية والابتعاد عن اسباب الخلل الذي أصاب هيكلية النظام السوري ومؤسساته العسكرية والأمنية، بعد أن شعر المرشد علي خامنئي بوجود حالة من الخيبة والخذلان في فقد حليف استراتيجي مهم لهم في المنطقة والذي له انعكاسات ميدانية حقيقة على سياسة التمدد والنفوذ للنظام الإيراني.
و لإيجاد حجج سياسية وتخفيف لوطأة ما حدث، أشار خامنئي إلى أن الجهات الاستخبارية لإيران قد أعلمت النظام السوري بوجود تحركات وتوجهات لمقاتلي المعارضة السورية تجاه المدن الرئيسية، رغم معرفته بالقدرة والإمكانية التي كانت تتمتع بها المليشيات المسلحة التابعة للحرس الثوري وعلى اختلاف مسمياتها عبر سيطرتها التامة في الميدان السوري، وهذا ماكان يفترض أن تلاحظه أدوات وشركاء إيران قبل غيرها.
الأبعاد الاستراتيجية الميدانية التي عبرت عنها أحداث اليوم الثامن من كانون الأول 2024 بسقوط النظام السوري، كانت معبرة عن تغيير كامل في المشهد السياسي لبلد مهم في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي، وعكس حقيقة الهزيمة السياسية التي مني بها المشروع الإيراني وخسارته للعمق الاستراتيجي الذي كان يمثله الطريق البري والجسر الجوي الذي يربط الأراضي الإيرانية بالعمق السوري عبر المساحة المكانية للعراق وصولًا لسواحل البحر الأبيض المتوسط وما يعنيه من فقدان لمؤثرات ومنافع ومكاسب اقتصادية إيرانية كانت تستخدم الموانئ والممرات البحرية لخدمة مصالحها وأهدافها في المنطقة وطبيعة دعمها لحزب الله اللبناني.
نرى أن هذا العام يمثل سنة (الانكسار الإيراني) بعد أن فقد الحجج والمبررات التي كان يدعيها في موقفه من القضية الفلسطينية وتحرير الأراضي المقدسة، بتحيد وضرب المرتكزات والقيادات السياسية والعسكرية لحزب الله اللبناني والذي أحدث فراغًا واسعًا، بعد سنوات عديدة من استثمار إيران لهذه الركيزة الأساسية واعتبارها الهدف الرئيسي في العقيدة الامنية الإيرانية والتي ثبت انها جزء مهم لخدمة مشروعها السياسي.
حاولت إيران وعبر عقود من الزمن امتدت منذ وقوف النظام السوري معها في حربها مع العراق في ثمانينات القرن الماضي وتقديم التسهيلات لها في الوصول إلى سواحل البحر الأبيض التي تمثل الممر اللوجستي لخطوط الإمدادات الإيرانية لحزب الله في لبنان، وقدمت الكثير من أجل الحفاظ على هذه المكتسبات الميدانية بتدعيم علاقتها مع النظام السوري والوقوف لجانبه مع اشتداد المواجهة واندلاع شرارة الثورة السورية في 15 آذار 2011، والتي شكلت انعطافة مهمة في تحديد الخيار والهدف الاستراتيجي الذي اعتمدته في علاقتها الوثيقة مع دمشق،
ورغم جميع هذه الاعتبارات والمواقف الميدانية إلا أن المرشد الأعلى علي خامنئي حاول تخفيف الآثار التي أصابت المشروع الإيراني عندما أشار إلى ( أن خسارة إيران الأكبر كانت في حزب الله وليس سوريا)، وهو مُحق في رأيه لأن القاعدة القتالية والركيزة الأساسية التي تحمي حالة التمدد والنفوذ الإيراني في الوطن العربي كانت طلائع ومقاتلي حزب الله الذي تم اعداده بشكل دقيق وبتدريبات واسعة وبأموال باهظة ارهقت الميزانية العامة لإيران وهي تعيش أزمة اقتصادية حادة بعد العقوبات الأميركية وانسحاب واشنطن من مباحثات البرنامج النووي الإيراني، وأدت الضربات الإسرائيلية والفعاليات العسكرية في الجنوب اللبناني إلى تدمير الشبكات الأمنية والعسكرية التي كان يشرف عليها الحرس الثوري الإيراني وبالتعاون مع قيادات الكادر الأمني والعسكري في هيئة الأركان وقوة الرضوان التابعة لحزب الله اللبناني.
وكانت المراهنة على بقاء نظام بشار الأسد هو الميدان الذي من الممكن أن يعوض لإيران خسارتها في الجنوب اللبناني واستحكام سيطرتها ونفوذها وتأثيرها على الساحة السورية، رغم معرفتها بطبيعة الأوضاع الداخلية التي يعيشها المجتمع السوري والأساليب التي تتبعها الأجهزة الأمنية والعسكرية في علاقتها مع أبناء الشعب، إلا أنه استمر في الدعم والمساندة والدفاع عن بقاء النظام في دمشق، ولكن هذا الموقف الإيراني الذي استند إلى المكاسب والمصالح الذاتية لم يسعفه بقاء النظام بل كان سقوطه سريعًا، وهو ما أشار إليه خامنئي بقوله ( الجيش السوري أظهر عدم إرادة بالتصدي وبسبب غياب الحوار مع الشعب وتقاعس الجيش، سقط الأسد).
تبقى مؤثرات السياسية الإيرانية قائمة وثوابتها متحركة حسب طبيعة وأهداف النظام في رؤيته للأحداث وسعيه البقاء نفسه ضمن دائرة الاهتمام والتأثير الدولي والإقليمي، وهذا ما تسعى اليه الدوائر السياسية والعسكرية الإيرانية في محاولتها لفتح قنوات للاتصال مع قيادة العمليات العسكرية التي تمثلها المعارضة السورية، للحفاظ على مكاسبها وأدوات استثماراتها في سوريا، وهي تعلم أنها أصبحت بعيدة عن أي تأثير داخلي في المشهد السوري ولا تتمتع بأي مقبولة من أبناء الشعب وكانت عملية اقتحام مقر السفارة الإيرانية في دمشق رسالة واضحة للرفض الشعبي نتيجة للمعاملة السئية والوسائل والأدوات التي كانت تتبعها المليشيات الإيرانية في داخل المجتمع السوري،
سيكون هناك نوع من التهدئة الإيرانية والابتعاد عن سياسية التعنت وإظهار القوة وانتظار القادم من الايام والتعامل بحذر مع الواقع والمتغير السوري، واعتماد مبدأ الدفاع المتقدم باستخدام أدواتها ووكلائها في القيام بعمليات تعرضية مناورات عسكرية تحقق أهدافها ولكنها بعيدة عن حدودها، والتزامها بموقف سياسي محايد من القضية السورية بأن مستقبل الشعب السوري يعود لأهله وحدهم دون أي تدخلات وشروط دولية إقليمية.

وحدة الدراسات الإيرانية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة