في مارس/ آذار 2014 اعتبر بعض الروس أن سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية، والتدخل العسكري في شرق أوكرانيا، ليست سوى “أدوات يستخدمها في الصراع السياسي مع الغرب”، وفقاً للمحلل الروسي ألكسندر موروسوف في موقع “كولتا.رو” الإخباري. وذكر أن بوتين يعتبر ضمّ القرم تصحيحاً للتاريخ، وانتقاماً من الغرب لتقسيم يوغوسلافيا، وإضعاف روسيا بإحاطتها من دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي، وبأنها “عودة إلى سياسة القوة في ثلاثينيات القرن الماضي”. بوتين نفسه هاجم الغرب متهماً إياه بممارسة “النفاق بالتنديد باستفتاء القرم بينما يحاول الأطلسي تطويق روسيا”، في إشارة إلى تصاعد التيار الأوكراني المؤيد للتوجه نحو غرب أوروبا، قبل التدخل الروسي.
كلام بوتين عن “التطويق”، قبل 7 أعوام، كانت مؤشراته واضحة. فدول البلطيق (لاتفيا، إستونيا، ليتوانيا) وبولندا، كانت تندفع فعلياً لبناء حواجز صدّ عسكرية، مع توالي التحشيد العسكري للأطلسي نحو مناطق متاخمة فعلياً لروسيا. ردت موسكو باستغلال جيب كالينينغراد الروسي (بين بولندا ودول البلطيق) لتعزيز ترسانته الصاروخية، وإبحار غواصات “الشبح”، كما سماها السويديون، وطائرات مقاتلة جابت واستفزت أجواء غربية مختلفة.
عقيدة بوتين
في دول البلطيق ثمة أقلية ناطقة بالروسية، كتلك الموجودة في شرق أوكرانيا، ما أثار المخاوف من استغلال الكرملين لوضعها من أجل تبرير أي تدخل مقبل. وظلّ آلاف الجنود من حلف الأطلسي منتشرين، خصوصاً في ليتوانيا، لإيصال رسالة ردع مفادها أنه لن يسمح لبوتين بالتحرك فيها بحرية. وتجاوزت محاولات روسيا مواجهة التغلغل الغربي في الجوار لتصل إلى المنطقة القطبية الشمالية، بمناورات عسكرية وأخرى مضادة، في أقصى الشمال النرويجي، وتحذير فنلندا والسويد من التقارب مع الأطلسي، لكنه لم يفلح، مع تزايد مخاوف دول الشمال مما أطلق عليه “محاولة روسية لتغيير خطوط الجغرافيا العسكرية في البلطيق والقطب الشمالي”.
تقوم عقيدة بوتين على إلغاء نظام ما بعد نهاية الحرب الباردة
وسط كل ذلك، توقع منافس بوتين السابق ميخائيل خودوركوفسكي، في عام 2014، أن تنزلق روسيا “نحو العزلة والأزمات اقتصادية”، مع ملاحظته أن الأمر “يتعلق في نهاية المطاف ببقاء بوتين في الحكم من خلال إظهار نفسه منتصراً، وتعزيز مشاعر العداء للغرب”. وعلى الرغم من مرور سبع سنوات على الأزمة الأوكرانية، إلا أن أوروبا والغرب عموماً استيقظا على حقيقة “عقيدة بوتين الجديدة”، حسبما وصفته المحللة الروسية ليليا شيفتسوفا، بعد فوزه برئاسيات 2012، ثم ضمّ القرم. وتقوم عقيدة بوتين على “إلغاء النظام العالمي الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة (1947 ـ 1991)”.
وعملياً تستند إلى تدخل موسكو في كل بقعة جغرافية تضم ناطقين بالروسية، لتحقيق مصالح تخص البقاء السياسي لبوتين ونخبته الحاكمة، ولو أدى ذلك إلى خرق الاحترام الرسمي لموسكو إلى الحدود التي خلفها انهيار الاتحاد السوفييتي. وتتضح معالم تلك العقيدة التي يتبناها بوتين في تقرير استراتيجي لأكاديمية الدفاع في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن. وهو ما ساهم منذ عام 2014 في فهم السيناريوهات والخطوات التي ينتهجها الكرملين في الشمال الأوروبي والمنطقة القطبية، عدا عن سياساته في دول الجوار والمياه الدافئة. وتبنى فعلياً مجلس الدوما الروسي هذا المذهب عام 2014، مقراً السماح بضم الأراضي في البلدان المجاورة، إذا لم يكن لتلك الدولة “حكومة شرعية فعالة”. وهذا هو بالضبط ما رآه بوتين في الحكومة الأوكرانية خلال الأزمة السياسية في عامي 2013، و2014. ولم يوفر الكرملين في سبيل ذلك تشكيل ما عرف بحرب سيبرانية وبث أخبار مشوشة ومضللة في الغرب، إلى جانب تبني مرتزقة “فاغنر” بشكل غير رسمي في مناطق يراها مهمة لمصالحه.
وساهمت تلك السياسات في تقسيم وإثارة مشاعر الأوروبيين بعضهم ضد بعض. ونجحت الحلقة المقربة من الكرملين في اختراق جدران الاتحاد الأوروبي، ولعب لعبته المكشوفة في التحالف مع اليمين الأوروبي المتطرف، من السويد وألمانيا شمالاً حتى النمسا وفرنسا وإيطاليا، ونسج علاقات مع قادة في وسط أوروبا وشرقها لتقسيم مواقف التكتل الأوروبي وإضعافه سياسياً.
وأدى وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2016 دوراً كبيراً في تعزيز تكتيكات الكرملين تلك، فترامب نفسه فتح حرباً باردة مع الأوروبيين، واندفع مستشاره السابق ستيف بانون، لتعزيز دور الأحزاب القومية المتطرفة والحركة الشعبوية الأوروبية. غير أن كل شيء تغير في العام الحالي مع استشعار الأوروبيين بأن سياسة البيت الأبيض تحت حكم جو بايدن ليست كما كانت في عهد ترامب، بل ثمة تعبير بصوت مرتفع عن القلق من عقيدة بوتين. وهو ما أدى إلى تزايد اتهامات الكرملين لأوكرانيا بـ”الاستفزاز”، مع دفع كييف قواتها نحو حدودها الشرقية. وخلال الأسابيع الأخيرة كان القصف والقنص في شرق أوكرانيا سيد الموقف، مع تركيز الدعاية الروسية على مقتل طفل في الخامسة من عمره بقصف أوكراني، لشدّ العصب القومي. وترافق تبادل الاتهامات بين الروس والأوكرانيين مع تحركات غربية داعمة كييف. وهو أمر فعلته أوروبا سابقاً في عام 2014، وتراوح موقفها بين فرض عقوبات وبين دعوة ألمانيا لبوتين بـ”التعقل”، لأن المصالح متشابكة، ولا يبدو أن التهديد بوقف خط غاز “السيل الشمالي 2” يجدي نفعاً.
تقارير دولية
نذر حرب شرقي أوكرانيا: حسابات موسكو وكييف لزيادة التصعيد أو لجمه
وفي الأشهر الأخيرة من حكمها وجدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل نفسها تردّد العبارات ذاتها التي رددتها عام 2014، لبوتين عن ضرورة التعقل. ودعته يوم الخميس الماضي إلى سحب القوات الروسية المحتشدة في غرب البلاد على الحدود مع أوكرانيا، التي تحدثت عن “تهديد عسكري خطير لأمن الدولة الأوكرانية”. لكن الكرملين نفى، أمس الأحد، أن تكون ميركل طلبت ذلك من بوتين. وأضاف في بيان أن “لا أحد يريد اندلاع حرب مع أوكرانيا”، لكنه حذّر في المقابل من وقوع حرب أهلية فيها.
أجواء عسكرية مشتعلة
وعلى امتداد خط تماس عسكري ممتد لأكثر من 400 كيلومتر، يفصل بين القوات الانفصالية المدعومة من روسيا والجنود الأوكرانيين في شرق أوكرانيا، أطلق الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تصريحات تتهم الروس بقتل وإصابة جنود. وحذّر من أن القادة والجنود سيردون على ذلك. وهنا، تبدو الأجواء العسكرية، مع مقتل جنود أوكرانيين، مشابهة لتلك التي شهدتها الجبهة في اشتباكات 2014 و2015. ففي الأشهر الأخيرة قتل 27 جندياً أوكرانياً، 5 منهم في الأسبوع الأول من إبريل/ نيسان الحالي.
اتهامات كييف لموسكو بإشعال الجبهة، والتركيز على سكان دونباس (منطقة في شرق أوكرانيا)، باعتبارهم اليوم مواطنين روساً، دفعت بوتين، يوم الجمعة الماضية، إلى اتهام كييف بالقيام “بأعمال استفزازية خطيرة”. كذلك حذّر نائب رئيس الأركان الروسية، ديمتري كوساك، وفقاً لصحيفة “كوميرسانت” الروسية، من أن اندلاع أي صراع عسكري جديد سيعني “بداية نهاية لأوكرانيا”. وربط كوساك التدخل العسكري الروسي بالتهديد لمواطني روسيا في شرق أوكرانيا، مقارناً بين مذبحة سريبرنيتشا في البوسنة والهرسك (حصلت بين 11 يوليو/ تموز 1995 و22 منه، مع إعدام القوات الصربية 8372 مدنياً بوسنياً)، خلال الحرب الأهلية اليوغوسلافية (1991 ـ 2001، وأدى إلى تفككها إلى 7 دول) والتدخل. وشدّد على أنه “كما يقول رئيسنا (بوتين) إذا حدثت سريبرنيتشا فسنتدخل، وكل هذا مرتبط بحجم الحريق الذي يمكن أن يشتعل”.
يستشعر الأوروبيون هذه الأيام خطراً حقيقياً من التحركات الروسية، التي ترصدها الأقمار وطائرات التجسس وتنشرها وسائل الإعلام. وزير الخارجية الدنماركي، ييبا كوفود، ذهب مساء أول من أمس السبت إلى التشديد على ضرورة توحيد الأوروبيين موقفهم. وبالنسبة إلى عضو المجلس الدنماركي للسياسات الخارجية، باول ستي أندرسن، فإن مشاغل الأوروبيين تنصب حالياً على “مضي بوتين خلال السنوات السبع الماضية في القيام بتغيير ديمغرافي شرقي أوكرانيا، عبر منح جوازات سفر روسية للمقيمين هناك”. واعتبر أندرسن في حديثٍ لـ”العربي الجديد” أن هذا الأمر سيضع الأوروبيين أمام “أمر واقع شبيه بالذي جرى في استفتاء القرم، وسنسمع مزيداً من الكلام الروسي عن السكان يريدون الانضمام لروسيا”. واعتبر أندرسن أنه “يمكن أن تهدد العقيدة البوتينية (نسبة لبوتين) وحدة دول البلطيق واستقرارها، وشرقي بولندا والتمدد نحو مناطق الأقليات الروسية في كازاخستان وبيلاروسيا ومولدوفا، عدا التوسع نحو المنطقة القطبية الشمالية، التي باتت تستقبل طائرات عسكرية بعد بناء مدرج مطار طويل قبل عامين”.
خروج عن السيطرة؟
التصعيد الأخير في التصريحات الروسية ـ الأوكرانية، إلى جانب الأميركية، التي أعلنت عن إرسال سفينتين إلى البحر الأسود، وتوعد بايدن بسياسة أشد صرامة مع بوتين، بعد اتهامه بـ”القاتل”، ونيتّه فرض حزمة عقوبات شديدة، كلها مؤشرات على أن “اللعبة يمكن أن تفلت من التحكّم”، بحسب تصريحات لأحد أهم خبراء الشأن الروسي في ألمانيا، أندريه كورتونوف. ورأى كورتونوف أن “لعبة استخدام الأزمة الحالية لنيل مكاسب تفاوضية تعتبر مخاطرة غير محسوبة، خصوصاً مع تصريحات كبار مستشاري بوتين في الأيام الأخيرة”. ولا يستبعد أن يؤدي “استمرار المنهج نفسه أن نكون أمام اندلاع حرب حقيقية بين موسكو وكييف”. وأبدى كورتونوف خشيته من “مخاطر نشوء سيناريو القرم”، معتبراً في الوقت عينه أن “الوضع الروسي الآن يختلف عما كان حتى قبل سنتين، ويعيش واقعاً مأزوماً خلقته سياسات الكرملين. ويبدو أن تفجير أوضاع شرق أوكرانيا للضغط على الغرب، وخصوصاً من خلال الوجود الرسمي الروسي في دونباس، يُراد منه تحسين شروط التفاوض مع الغرب”.
لكن، يبدو أن المسؤولين الأوكرانيين، الذين يشعرون اليوم بدعم أكبر من الغرب، لم يترددوا في إرسال تعزيزات عسكرية وإظهار تحدٍ للكرملين، مع تشابك مصالح متعددة أوروبية – أميركية – تركية في المسألة الأوكرانية، وهو ما أكده الخبير في الشأن الروسي – الأوكراني في جامعة كييف، الألماني أندرياس أوملاند. وأكد أوملاند أن “الحلقة الضيقة المحيطة بفلاديمير بوتين وحدها تعرف ما إذا كانت التعزيزات العسكرية ستُفعّل أم أنها فقط حركات تفاوضية”. ولدى الرئيس الروسي مصلحة أخرى في تسريع تجنيس سكان شرقي أوكرانيا، على الأقل، بحسب أوملاند: “فهي عملية تأتي قبيل الانتخابات البرلمانية المقبلة (في سبتمبر/ أيلول المقبل)، لأن شعبيته في تراجع بعد 2014. وربما يعتقد أن التجنيس مع حرب صغيرة وسريعة الانتصار ستدفع برياح أشرعة شعبيته لتحلق أكثر”.
استشعر الأوروبيون تبدّلاً في الموقف الأميركي ضد روسيا
ويعاني بوتين من مشاكل داخلية مع المعارضة المتنامية، خصوصاً مع اعتقال المعارض ألكسي نافالني، وتوتر علاقته بدول أوروبية تطالبه بالكشف عن محاولة اغتيال الأخير بالتسميم، وهو أيضاً مطلب أميركي ضاغط على الكرملين. أما الجنرالات الأوكرانيون فلا ينظرون إلى التحركات الروسية على أنها لتحقيق هامش تفاوض أفضل. وبحسب الصحافة الأوروبية، ينظر هؤلاء إلى تحريك موسكو للدبابات والمدفعية طويلة المدى، ونشر عشرات آلاف الجنود على الحدود الشرقية وفي شبه جزيرة القرم، بأنها ليست للاستعراض، وهو ما أكده الرئيس الأوكراني، خلال زيارته الجبهة يوم الخميس الماضي.
وأظهر تقرير حديث لموقع “إنسايدر” (بنسخته الروسية) قيام السلطات الأميركية بتحليل مكثف ودقيق للتعزيزات العسكرية الروسية، التي يبدو أنها سبقت بأسابيع الاشتباكات الأخيرة في شرق أوكرانيا خلال مارس/ آذار الماضي وإبريل/ نيسان الحالي. وفي خلفية المشهد المتوتر، باتت كييف أكثر جرأة على مواجهة الكرملين، خصوصاً مع توالي التصريحات الأوروبية والأميركية الداعمة لها. وأخيراً، باتت شبه جزيرة القرم تعاني من نقص المياه بعد أن قطعتها أوكرانيا من البر الرئيس. ويعتقد بعض المراقبين أن روسيا يمكنها التحجج بذلك للقيام بعمل عسكري “وهو أحد السيناريوهات المحتملة، إذ يمكن لموسكو الادعاء بأنه نظراً للحاجات الإنسانية، ستقوم باجتياح مناطق تقع شمالي القرم داخل أوكرانيا”، من دون استبعاد قيامها باجتياح سريع لشرق أوكرانيا بحجة حماية “مواطني روسيا”.
ناصر السهلي
العربي الجديد