على دول الشرق الأوسط أن تأخذ زمام المبادرة في بناء الأمن الإقليمي

على دول الشرق الأوسط أن تأخذ زمام المبادرة في بناء الأمن الإقليمي

كان الهجوم الإسرائيلي الأخير على منشأة تخصيب اليورانيوم الإيرانية في ناتانز، إلى جانب الضربات الأخيرة في سورية وفي عرض البحار، بمثابة تذكير حاسم بأن التوترات الإقليمية في الشرق الأوسط تظل متفاقمة بسبب الدور الإقليمي المتوسع لإيران، والنزاعات متعددة الأقطاب المستمرة في اليمن وسورية. وقد أدت المنافسة الشديدة بين دول المنطقة، والتي تفاقمت بسبب انعدام الثقة العميق وتحديات الحوكمة، إلى جانب عدم اليقين بشأن الدور المستقبلي للولايات المتحدة في المنطقة، إلى ترسيخ الأزمات وتفاقم عدم الاستقرار على حساب السكان المحليين. ومن دون استثمار أكبر في إدارة الصراع الإقليمي وخفض التصعيد، ستصبح دول الشرق الأوسط عرضة لمزيد من دورات الاحتجاج والاضطرابات. وإذا كان الماضي ليشكل استهلالاً، فإن مثل هذه الاضطرابات لن تتوقف عند حدود الشرق الأوسط وإنما ستمتد وتتوسع، ما يؤثر على الأمن في المناطق المجاورة وما وراءها، ويخلف تداعيات مثل وصول لاجئين جدد إلى أوروبا.
كانت معالجة هذه التحديات، إلى جانب الدور الإيراني في العديد من النزاعات في الشرق الأوسط، هي موضوع بحثنا الناجز للتو في “تشاتام هاوس”، والمعنوَن “خطوات لتمكين عملية الأمن الإقليمي”. وبالبناء على أكثر من 200 مقابلة سرية أجريت مع صناع سياسات ومحللين حاليين وسابقين في 15 دولة (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، فرنسا، ألمانيا، روسيا، الصين، إسرائيل، إيران، فلسطين، سورية، لبنان، العراق، اليمن، المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة)، اعتمدنا على البيانات الكمية والنوعية معاً لتصوُّر مجموعة من المسارات التي يمكن أن تبني أسسَ عملية تأمين الأمن الإقليمي من خلال خفض التصعيد وإدارة الصراع.
رأى الذين أجريت معهم المقابلات إلى حد كبير الحاجة إلى إطار أمني إقليمي شامل للشرق الأوسط بأكمله. وبسبب المستوى الهائل للتوترات الإقليمية الموضحة أعلاه، لم ير الأشخاص الذين تمت مقابلتهم أن عملية الأمن الإقليمي من أعلى إلى أسفل قابلة للتطبيق حاليًا. وبدلاً من ذلك، جادل المشاركون في الاستطلاع لصالح عملية تصاعدية يكون من شأنها، من خلال المناقشة وتخفيف التصعيد وحل النزاعات، بناء الثقة بالتدريج بين جميع الأطراف وتهيئة الظروف بمرور الوقت بحيث يمكن معالجة مسائل الأمن الإقليمي.
حدد 45 في المائة من الذين تمت مقابلتهم عودة إدارة بايدن إلى “خطة العمل الشاملة المشتركة” للعام 2015، أو الاتفاق النووي الإيراني، الذي انسحبت منه واشنطن في أيار (مايو) 2018، إلى جانب تراجع طهران عن الانتهاكات النووية التي بدأت في أيار (مايو) 2019، كخطوات أولى أساسية لتهدئة المنطقة. واعتبر المستجيبون أن عملية الامتثال المتبادل التي يتم التفاوض عليها حاليًا في فيينا ضرورية لتحقيق الاستقرار لـ”خطة العمل الشاملة المشتركة” الهشة، ووقف المزيد من التقدم في برنامج إيران النووي، وإعادة بناء الثقة المفقودة بين الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين بعد انسحاب واشنطن -وهي بالتالي شرط أساسي مسبق لاتفاقيات المتابعة المتعلقة ببرامج إيران النووية والصاروخية الباليستية وغيرها من القضايا الإقليمية الحاسمة.
في واقع الأمر، شدد الأشخاص الذين تمت مقابلتهم مرارًا وتكرارًا على أنه في حالة عدم معالجة القضايا الإقليمية من خلال اتفاقية متابعة، فإن “خطة العمل الشاملة المشتركة” ستظل معرضة للضغط والنشاط، كما كان حالها على مدى السنوات القليلة الماضية، من قبل كل إسرائيل ودول الخليج العربية بشكل مستقل. وترى العديد من الدول الإقليمية، محقة، أن تدخل إيران في اليمن والعراق وسورية ولبنان مزعزع بشدة للاستقرار. ويعتقد المشاركون أن “خطة العمل الشاملة المشتركة” لن تكون مستدامة على المدى الطويل إلا إذا أمكن إدارة النزاعات الإقليمية القائمة واحتواؤها بنجاح.
ومع ذلك، لمعالجة القضايا الإقليمية، لم ير المستجيبون صيغة “خطة العمل الشاملة المشتركة” كصيغة مثمرة لمعالجة دعم طهران لمجموعات الميليشيات والتعامل مع برنامجها الصاروخي. أولاً، كان الأشخاص الذين تمت مقابلتهم يشككون في أن إيران ستوافق على مناقشة هذه القضايا في ذلك المنتدى من الأساس. وعلاوة على ذلك، أشير مرارًا وتكرارًا إلى حقيقة أن طهران ليست مصدر زعزعة الاستقرار الوحيد في المنطقة. والواقع أن العديد من الدول الإقليمية الأخرى قد دعمت، وشاركت في أنشطة تخريبية؛ وبالتالي، ستكون هناك حاجة ماسة إلى إشراكها في مثل هذه المناقشات. ولا يمكن تأمين التنازلات الإيرانية بشأن دعم الميليشيات وتطوير الصواريخ وانتشارها إلا إذا كان ذلك مصحوباً بتنازلات من دول أخرى في المنطقة. وهكذا، تم الاستشهاد بمسارات حل النزاعات الموازية، حيث يتم فصل النزاعات ومعالجتها من خلال مفاوضات متعددة الأطراف، باعتبارها الآلية المفضلة لمعالجة هذه القضايا.
حدد الأشخاص الذين تمت مقابلتهم أربعة مسارات تتطلب اهتمامًا عاجلاً. ونُظِر إلى تزع تصعيد الحروب في اليمن وسورية على أنه الأكثر أهمية من بينها. ونظرًا لكون إيران أقل استثمارًا في اليمن وتعتبره أقل أهمية من الناحية الاستراتيجية من الساحات الأخرى -لا سيما لبنان وسورية والعراق- يُعد هذا الصراع هو الأكثر نضجًا للحل.
وفي حين نُظر إلى عملية للتسوية في سورية على أنها حاجة ملحة وعاجلة، نظَر 81 بالمائة من المستجيبين إلى المشكلة السورية على أنها صعبة جداً على الحل في الوقت الحالي. ومع ذلك، قد يؤدي وصول إدارة بايدن وانخراطها مع أطراف متعددة إلى جذب المزيد من الاهتمام والزخم إلى هذا المسار.
كما اعتبر 41 بالمائة من المستطلعة آراؤهم أن الانقسامات بين الدول العربية في مجلس التعاون الخليجي تمثل تحديًا أمنيًا كبيرًا أعاق قدرة الكتلة على التناغم في السياسة الإيرانية، وكشف عن صراعات بالوكالة موازية ومنافسة تدعمها دول مجلس التعاون الخليجي نفسها. وفي حين أنهت اتفاقية العلا الموقعة في كانون الثاني (يناير) 2021 رسميًا الخلاف الخليجي، سوف تكون مناقشات مجلس التعاون الخليجي للمتابعة مهمة للغاية.
أخيرًا، سيكون بناء مسار إسرائيلي-فلسطيني جديد أمرًا أساسيًا ومفتاحاً لاستقرار التوترات هناك، وفقًا للعديد من الأشخاص الذين تمت مقابلتهم. وقد اعتبر المشاركون في الاستطلاع أن اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين الموقعة في أيلول (سبتمبر) 2020 تشكل فرصة وتحولاً محتملاً في كيفية التعامل مع هذا الصراع.
بخلاف هذه المسارات، حدد الأشخاص الذين تمت مقابلتهم سلسلة من تدابير بناء الثقة كمبادرات رئيسية يمكن أن تساعد على استقرار المنطقة وبناء ثقة متزايدة. وقد وضعنا في تحليلنا نهجًا هرميًا في هذا السبيل، يبدأ بنقاش حول قضايا أكثر ليونة، مثل السياحة الدينية أو الدبلوماسية الصحية، ومع مرور الوقت، يسمح للأطراف بمعالجة قضايا أكثر تعقيدًا وخلافية، مثل الحد من التسلح. وقد رأى المشاركون في الاستطلاع أن بناء العلاقات التجارية الإقليمية، وتراجع التصعيد في اليمن، والاستثمار في سياسات تغير المناخ الإقليمية هي مبادرات مهمة ينبغي تعزيزها على المدى القصير.
في مناخ “كوفيد – 19” والتحديات الاقتصادية المحلية الملحة، ستكون هذه الخطوات طموحة بلا شك، إن لم يكن النظر فيها شاقاً من حيث المبدأ. ومع ذلك، رأى المستجيبون أن مجيء إدارة بايدن يوفر فرصة فريدة للتعاون متعدد الأطراف وإدارة الصراع. ورأى الذين تمت مقابلتهم بأغلبية ساحقة أن دور واشنطن ومشاركتها ضروريان لرعاية هذه العمليات والدفع بها قدُماً. كما تم الاستشهاد مراراً وتكراراً بالدعم من أوروبا والمملكة المتحدة وروسيا والصين -وكلها جهات لها مصالحها الخاصة في الشرق الأوسط- باعتبارها ضرورية أيضًا لإحراز تقدم في حل النزاعات متعددة الأقطاب في المنطقة. وفي الوقت نفسه، أصر المشاركون في الاستطلاع على أن الجهات الفاعلة الإقليمية نفسها بحاجة إلى تحمل المسؤولية عن صراعات جوارها وتصعيدها. ومن دون مثل هذا الالتزام، فإن الإجهاد الذي يضرب الشرق الأوسط، والذي أشار إليه الأشخاص الذين تمت مقابلتهم بشكل متكرر، لن يتراكم فحسب، بل سيترك دول المنطقة بلا خيار سوى الخوض في مشاكلها بمفردها.

الغد