جاء التسريب الصوتي لحديث وزير الخارجية الإيراني (محمد جواد ظريف) ليشكل مشهدا سياسيا واضحا لعمق الخلافات الواسعة بين أقطاب النظام الإيراني، ويعطي صورة ميدانية للصراع السياسي القائم بين أجنحة النظام الحاكم وأروقة الحكم السائد في طهران، ويلقي الضوء على طبيعة السياسة القائمة على توجه أدوات الحكم بما يتلائم والنظرة التوسعية التي جاءت بها أدبيات النظام في التمدد والنفوذ خارج الأراضي الإيرانية وتوسيع إطار الانتشار العقائدي والفكري لتوجهات قيادات النظام، ومحاولة دفع أدواتها واستخدام وسائلها الخارجية في نشر المفاهيم السياسية التي تتبناها وفقا للرؤية الاستراتيجية المتبعة في إدارة المنظومة الحاكمة، وتحقيق الأهداف والأحلام في السيطرة والنفوذ داخل الوطن العربي ومنطقة الشرق الأوسط، وتؤكد حقيقة الدور الكبير والأساس الذي تقوم به قيادات الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس في تنفيذ الإرادة السياسية المدعومة من قبل المرشد الأعلى، وفق تصورات وأهداف هذه القيادات، وبما يخدم المشروع السياسي الإيراني بعيدا عن استخدام الأسلوب المهني والدبلوماسي في دعم وجود النظام وعلاقته مع المحيط الدولي والإقليمي .
أفصح الحديث المسجل عن وجود صراع ميداني سياسي في مفهوم إدارة الدولة وتعدد أوجه القيادة والتوجيه في إدامة أواصر العلاقة مع جميع الجهات الحاكمة، ويمكن أن نحدد هذه المسارات في رؤية دقيقة لوجود مفهوم (الدولة العميقة) التي يقودها ويتحكم في رسم معالمها قيادات الحرس الثوري وبتأثيراتها على القرار السياسي في إيران، وضرورة التزام جميع الأطراف بها، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية ظريف واعتبرته هذه القيادات الأمنية والعسكرية أنه تعرض مرفوض لطبيعة عملها وأسلوب محظور الكلام فيه أو الإشارة إليه، وشكل غضبا واسعا داخل أوساط فيلق القدس والحرس الثوري التي طالبت بمعاقبة الوزير وإحالته للتحقيق، كونه تدخل في أمور تتعلق بالرؤية الأمنية لكيفية الحفاظ على الأمنين القومي والوطني للنظام الايراني، على الرغم من أن ما تكلم به ظريف كان واقعا ميدانيا ملموسا يعيشه الوسط السياسي ويعاني منه الكثير من القيادات السياسية الصامتة والتي تمثل أجنحة (الدولة المعلنة) التي يقودها الرئيس حسن روحاني ويسعى فيها لتدارك الخلافات الحاصلة نتيجة التداخل في تحديد مفهوم الدولة وكيفية إدارة الحكم ومحاولة إيجاد الوسائل والإجراءات لإخراج النظام من عزلته الدولية والإقليمية واستعادة دور إيران في العلاقات مع باقي دول العالم، وتحديد خطوات رفع العقوبات المفروضة عليها والتي أصبحت تكلفتها عالية في جميع المجالات، وجاءت وفق تعبير محمد جواد ظريف بأنه (لمس أن الجناح العسكري الميداني للحرس الثوري الإيراني يرى أن النجاح العسكري أهم من أي نجاح دبلوماسي) وهذا ما يعطي انطباعا واضحا ومؤشرا كبيرا على الخلاف القائم بين مفهومي رئيسين في نظام الحكم الايراني أولهما (ايران الدولة) في سعيها لإيجاد قواعد أصولية تتفق والنظام الدولي الذي يحترم العلاقات المتبادلة بين الدول دون الشروع بالتدخل في شؤونها وثانيهما (ايران الثورة) في تدعيم رؤيتها وأهدافها الأمنية والاستخبارية في قيادة المنظومة السياسية الحاكمة وتسخيرها لتطلعاتهم وخططهم التوسعية بتصدير الثورة وتركيز العمق والاقتدار السياسي والأمني بعيدا عن طبيعة العلاقات السياسية التي تفرضها الإرادات الحاكمة والمصالح المشتركة بين بلدان العالم .
أعطى الحديث المسرب رؤية دقيقة للمعاناة التي يعيشها بعض أركان النظام الايراني من التدخل المستمر لقيادات الحرس الثوري في إدارتهم لوزاراتهم ومؤسساتهم الحكومية ومنها وزارة الخارجية التي كان لها السبق الأكبر في التدخل الذي تحدث عنه ظريف بقوله (إن الميدان العسكري هو الذي يحكم… ضحيت بالدبلوماسية من أجل الميدان بدلا من أن يخدم الميدان الدبلوماسية) وفي قراءة دقيقة لهذه الكلمات نرى أن المعاناة التي كان يحس بها الوزير وصعوبة إدارته للملفات الخاصة بمفاوضات البرنامج النووي والتواجد الإيراني على الأراضي السورية وطبيعة إدارة الصراعات السياسية في منطقة الشرق الأوسط التي كانت تفرض عليه كيفية معالجتها والحديث عنها وفق التدخلات التي كانت تفرض عليه من قبل قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، وكانت سببا ميدانيا في تقديم ظريف لاستقالته قبل خمس سنوات، عندما اشتكى من تدخل الحرس الثوري في شؤون وزارته فيما يتعلق بالعلاقة مع سوريا والتنسيق مع الرئاسة السورية دون علمه، ولولا تدخل علي خامنئي المرشد الأعلى وتوجيهه لظريف بسحب استقالته ومعاقبة المسؤولين في الحرس الثوري لعدم استشارة الخارجية الإيرانية لما انتهى الحال وبقيت الخلافات قائمة .
ويمكن أن نفهم طبيعة الدور الميداني الذي ترغبه القيادات الأمنية المرتبطة بفيلق القدس والحرس الثوري في توظيف وزارة الخارجية الإيرانية وتحويلها الى وزارة أمنية تخدم توجهاتهم وتنفذ برامجهم وخططهم الأمنية التي تعمل على التوسع والتمدد والنفوذ في باقي بلدان العالم ومنها منطقة الشرق الأوسط وعواصم الوطن العربي ، وهنا يتحدث ظريف متألما الى قناة إيران الفضائية العالمية بقوله (إن نفوذه في السياسة الخارجية صفر) ويعكس طبيعة الإرهاصات التي كان يعاني منها في قيادته للوزارة .
وبغية معالجة الآثار الناجمة عن الحديث المسرب اتخذت الرئاسة الإيرانية اجراءات عدة، أهمها إعفاء (حسام أشتا) من رئاسة مركز الأبحاث الإستراتيجية الذي كان يرأسه منذ عام 2013 إضافة الى عمله كمستشار للرئيس حسن روحاني وكان يعمل سابقا نائبا لوزير الاستخبارات في عام 2000 بسبب أن الحديث كان جزءا من مقابلة أمدها ثلاث ساعات أجراها المركز البحثي المرتبط بالرئاسة الايرانية والتي أثارت جدلا واسعا في الأوساط السياسية الايرانية وعمقت الصراعات والخلافات القائمة في أروقة وأركان النظام الحاكم في طهران كما أشار (علي نادري) مدير مكتب الاتصالات العامة للسلطة القضائية الايرانية في حديثه الذي نقلته وكالة (نوفوستي) الروسية (أنه تم فرض حظر على مغادرة عشرين شخصية سياسية) بسبب المعلومات المتوفرة عن دورهم في القيام بتكوين علاقات واسعة مع عدد من وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، وانهم قاموا بإرسال وتسريب حديث وزير الخارجية ظريف، وهناك عدة مؤشرات تفيد بعلاقاتهم وارتباطاتهم بجهات استخبارية خارجية .
وسعى محمد جواد ظريف إلى تقديم اعتذاره الشخصي لجميع مسؤولي أركان النظام الايراني وتحديدا قيادات فيلق القدس والحرس الثوري وعائلة قاسم سليماني، وانه لم يكن يسعى من حديثه الى إحداث خلافات أو خلق أزمات سياسية في البلاد، وإنما كانت هي رؤية شخصية لكيفية معالجة المستجدات الميدانية الحاصلة في التعامل مع طبيعة القرار السياسي الايراني والأدوات المؤثرة عليه .
حددت التطورات السياسية التي رافقت عملية تسريب شريط التسجيل عدة مظاهر واقعية ميدانية كشفت حقيقة الأوضاع السائدة في المشهد السياسي الايراني وطبيعة الخلافات القائمة بين جميع التيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية الحاكمة في ايران، وأعطت صورة دقيقة لتأثر وقوة الفاعل الأمني المسيطر على مقدرات وتوجهات السياسة الداخلية والخارجية للنظام الإيراني، وسعي الجميع لفرض إرادته وعبر رؤيته الخاصة وأهدافه الاستراتيجية، وهو مؤشر يعطي انطباعا على وجود خلافات واسعة حول كيفية إدارة الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعاني منها النظام، وأصبحت إحدى السمات التي يتصف بها المشهد العام في إيران .
وحدة الدراسات الإيرانية