في أعقاب الانتقادات التي وجهتها الولايات المتحدة للصين بسبب معاملتها للمسلمين في شينجيانغ، بدأت بكين تروّج باستمرار بأن واشنطن لا تبالي بمعاناة المدنيين في غزة وتتلكأ عن تأدية واجباتها كقوة عالمية. يجب أن يتمثل مصدر قلق واشنطن الفعلي فيما إذا كان عداء بكين الحديث سيسفر في النهاية عن التخلي عن حدود الاستفزاز عبر وسائل التواصل الاجتماعي والانتقال إلى ساحات معارك أكثر خطورةً.
خلال الصراع بين إسرائيل وغزة، غرّد متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية قائلاً “تدّعي الولايات المتحدة بأنها تهتم بحقوق الإنسان للمسلمين، لكنها تغض الطرف عن معاناة المسلمين الفلسطينيين”. وهذه التغريدة هي عموماً من باب الشماتة – حيث أن الولايات المتحدة، وتحت وطأة الضغوط لأنها رفضت طلب وقف إطلاق نار فوري في غزة، كانت قد استغلت قبل أيام فقط إحدى فعاليات الأمم المتحدة لانتقاد الصين على معاملتها للمسلمين في شينجيانغ.
غير أن ترويج الصين المستمر لهذه السردية – القائلة بأن واشنطن لا تبالي بمعاناة المدنيين في غزة وتتلكأ عن تأدية واجباتها كقوة عالمية – ليست نابعة من ضغينة كامنة أو من اتخاذ موقف دفاعي فحسب. بل إنها دليل على أن المنافسة بين القوى العظمى تدور رحاها في المزيد من مناطق العالم وعبر ميادين متعددة، بما فيها حالات الغليان البغيضة التي تتسبب بها وسائل التواصل الاجتماعي.
للوهلة الأولى، لا يبدو الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني نقطة واضحة من الخلاف بين بكين وواشنطن. ففي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أقام الزعيم الصيني ماو تسي تونغ علاقات وثيقة مع “منظمة التحرير الفلسطينية” وعصابات مسلحة أخرى. ومع وفاته، وبدء محادثات السلام بين إسرائيل ومصر في أواخر السبعينيات، وحاجة الصين إلى الأسلحة الإسرائيلية، تحسّنت العلاقات الصينية-الإسرائيلية تدريجياً في الثمانينيات، مما مهّد الطريق أمام إقامة علاقات دبلوماسية رسمية في عام 1992. ومنذ ذلك الحين ازدادت هذه العلاقة وثاقةً. فقد حرصت بكين على التقرب من إسرائيل، معتبرةً إياها وجهة رئيسية لاستثماراتها في مجال البنية التحتية في إطار “مبادرة الحزام والطريق”، على غرار ميناء الحاويات في حيفا وخط سكة حديد مقترح يربط بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط. والأهم من ذلك، تهتم الصين بالتعاون مع إسرائيل باعتبارها مصدراً للتقنيات المتطورة – بما فيها الروبوتات والتكنولوجيا البيولوجية والذكاء الاصطناعي – وهو مجال تهدف الصين من خلاله إلى أن تصبح رائدة عالمية فيه، ويستقطب في الوقت نفسه اهتماماً كبيراً من “جيش التحرير الشعبي” الصيني.
وبالتوافق مع هذا التطور، انتهجت بكين مقاربة محافظة وشبه مهدئة إزاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. فقد تظاهرت بإصدار “خطة سلام” – وأعادت إصدارها بشكل متكرر – وهي مكوّنة من أربع نقاط تتواءم إلى حدّ كبير مع الإجماع الدولي بشأن الصراع. وتدعو إلى حل دولتين على أساس خطوط عام 1967، تكون في إطاره القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية، وإلى وقف أعمال العنف وبناء المستوطنات الإسرائيلية، من بين أمور أخرى. ولا تبدو هذه المقاربة مصممة لكي تنجح بل لتجنب الهجمات، وهو ما يتوافق تماماً مع النهج الذي تعتمده بكين إزاء الخلافات الإقليمية الأخرى: فهي تسعى إلى إرساء توازن في العلاقات مع كل جانب من أي نزاع كان وتجنب اتخاذ خطوات دبلوماسية جريئة أو متحيزة بشكل مفرط. وحتى أن اتفاق “الشراكة الاستراتيجية الشاملة” الذي وقعته الصين مع إيران والذي كثر الحديث عنه بشكل مبالغ فيه، سبقته اتفاقات مماثلة مع السعودية والإمارات وغيرهما. وتعكس إقامة هذا التوازن ركيزة أساسية في استراتيجية الصين إزاء الشرق الأوسط – أي أن تكون صديقة الجميع من دون أن تتحالف مع أي دولة.
ومع ذلك، اصطدم نهج الصين الحذر بصورة أكثر بركيزة أخرى من ركائز استراتيجيتها في الشرق الأوسط: العمل على تقويض نفوذ الولايات المتحدة وهيبتها في المنطقة، كما تفعل في أماكن أخرى في الوقت الذي تتدهور فيه علاقاتها مع واشنطن. وقد ازدادت حدة غليان هذه التوترات، التي عادةً ما تكون على نار هادئة، خلال الصراع الذي دار مؤخراً في غزة. وفي تناقض صارخ مع تغطيتها الفاترة للحرب الأخيرة بين إسرائيل وغزة عام 2014، نشرت وسائل الإعلام الحكومية الصينية عدة مقالات اتهمت فيها واشنطن بتجاهل حقوق الفلسطينيين وحمّلتها أيضاً مسؤولية معاناة المدنيين. على سبيل المثال، كتبت صحيفة “غلوبال تايمز” في افتتاحيتها أن الولايات المتحدة “لم تؤجج نيران الصراع فحسب، بل أظهرت أيضاً للعالم مدى أنانيتها ونفاقها فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان وتحمّل مسؤولياتها كقوة عظمى”. من جهتها، أشارت “شبكة تلفزيون الصين الدولية” التابعة للدولة إلى أن السياسة الأمريكية خاضعة لـ”لوبي يهودي”، مما أثار رد فعل غاضب من السفارة الإسرائيلية في بكين.
ويتم تضخيم هذه الموضوعات من خلال حسابات وسائل التواصل الاجتماعي الرسمية والتابعة للدولة في الصين، والتي لا تكرس وقتها لشرح السياسة الصينية – الطريقة النموذجية للعمل بالنسبة للولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى – بل لانتقاد واشنطن في كثير من الأحيان. وتُعتبر تغريدة للمتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية زهاو ليجان خير مثال على هذه المقاربة: فهي تظهر نسراً أصلعاً يمثل الولايات المتحدة يقوم بإلقاء صاروخ على غزة وقد ترافقت مع التعليق التالي “انظروا ماذا أحضر المدافع عن #حقوق_الإنسان لشعب #غزة”.
ووفقاً لـ مشروع “أداة المتابعة هاميلتون 2.0″ التابع لـ”التحالف لتأمين الديمقراطية” الذي يتعقب وسائل التواصل الاجتماعي الروسية والصينية والإيرانية، كانت “فلسطين” الكلمة المفتاح والهاشتاغ الرابعة الأكثر تداولاً في حسابات الحكومة الصينية على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأسبوع الثالث من أيار/مايو، مباشرة بعد كلمة “كوفيد-19”. ولا تحصر وسائل الإعلام الصينية التي تعنى بالشرق الأوسط انتقاداتها بسياسة الولايات المتحدة في المنطقة؛ ففي العام الماضي، على سبيل المثال، بث التلفزيون الحكومي الصيني فيديو باللغة العربية زعم فيه أن الولايات المتحدة كانت منشأ فيروس “كوفيد-19”. كما لا تعمل بكين بمفردها: فوسائل الإعلام الصينية والروسية والإيرانية غالباً ما تتناول المواضيع نفسها أو حتى تعيد نشر تغريدات أو تكرر الرسائل ذاتها.
ومع ذلك، فإن ما لا تقوله بكين لا يقل أهمية عن ما تقوله. فعلى الرغم من أن الصين نشطة في انتقادها للولايات المتحدة، إلا أنها ليست متحمسة بالقدر نفسه للترويج لنفسها؛ فوسائل الإعلام الصينية، على سبيل المثال، لا تقترح على طرفيْ الصراع التطلّع إلى الصين للحصول على إجابات. وهكذا، على الرغم من أن وسائل الإعلام الحكومية تروّج للصين باعتبارها وسيطاً أكثر حيادية وإنصافاً من واشنطن، إلا أن صحيفة “غلوبال تايمز” قلّلت صراحةً من التوقعات بشأن الأعباء التي تبدي بكين استعدادها لتحمّلها، مقتبسةً قول باحث يشدّد على أن “دور الصين في المساعدة على حلّ الأعمال العدائية محدود” وأن النتيجة ستعتمد على طرفيّ الصراع بذاتهما. وقد تهدف بكين إلى إنزال الولايات المتحدة عن عرشها في الشرق الأوسط، ولكنها غير متلهفة بالضرورة لتحمّل الأعباء التي كانت على عاتق واشنطن.
كيف يجب أن تردّ واشنطن؟ منذ عدة سنوات، تقوم واشنطن بتحذير شركائها في الشرق الأوسط – إسرائيل أولاً وقبل كل شيء – من الاقتراب الشديد من بكين. وتوفر الدبلوماسية الصينية العامة بشأن غزة فرصة للرئيس الأمريكي جو بايدن لتعزيز هذه الرسالة. وللأسف، اكتشف العديد من الشركاء الاقتصاديين للصين – أستراليا بشكل بارز ولكن أيضاً الفلبين وكوريا الجنوبية واليابان وغيرها – أن بكين مستعدة لاستخدام العلاقات الاقتصادية المفيدة على ما يبدو كميزة عند نشوء أي خلافات جيوسياسية. وفي السياق نفسه، يتجلى لإسرائيل أن كل جهودها الرامية إلى إقامة علاقات سياسية واقتصادية أوثق مع بكين لا توفّر الكثير من الحماية عندما ترى الصين فرصة لتسجيل نقاط ضدّ واشنطن. وعلى الرغم من أن الصين لم توجه الانتقادات إلى إسرائيل بشكل مباشر، إلا أن الهجمات على واشنطن لتجاهلها معاناة الفلسطينيين هي انتقادات للقدس بحكم الأمر الواقع، بغض النظر عن كيفية التعبير عنها. يتعين على الشركاء الآخرين للولايات المتحدة في المنطقة الذين يقيمون علاقات وثيقة مع الصين، مثل الإمارات والسعودية، التنبّه بدورهم.
وبالنسبة لواشنطن، فإن استغلال الصين لصراع غزة من أجل شنّ حملة دبلوماسية علنية ضد الولايات المتحدة يثير تساؤلات حول كيفية تأثير المنافسة الاستراتيجية مع الصين على الشرق الأوسط، وبالتالي، كيف يجب أن تتغير السياسة الأمريكية في المنطقة لتتماشى معها. ويسلّط الفصل الأخير الضوء على أن المنافسة مع الصين لن تقتصر على المناطق والقضايا التي تفضلها الولايات المتحدة. فمكان وزمان تبلور المنافسة لن يعتمد كثيراً على الأماكن التي تنخرط فيها بكين بل على الأماكن التي تعتقد أن الولايات المتحدة معزولة فيها أو ضعيفة. وبالتالي، لا يجدر بواشنطن الإنجرار بسهولة وعليها تجنب تصنيف كل صراع على أنه منافسة مع بكين؛ ومع ذلك، عليها أن تضمن أن الرسائل الأمريكية في المنطقة وخارجها تتصدى بشكل فعال للرسومات الكاريكاتورية المغالية التي تروّج لها الصين وروسيا وإيران.
فضلاً عن ذلك، على واشنطن أن تحذو حذو بكين، فتوسع نطاق رسائلها في الشرق الأوسط ومناطق أخرى لضمان فهم سياساتها تجاه الصين وقوى رئيسية أخرى. وبشكل خاص، على إدارة بايدن استخدام القنوات الدبلوماسية والاستخباراتية لضمان أن يكون لدى أقرب شركاء الولايات المتحدة في المنطقة – الذين تتقرب منهم بكين بشكل متزايد – فهْم أفضل للأهداف والاستراتيجيات الصينية ومخاوف واشنطن. كما يجدر بالدبلوماسيين الأمريكيين خلال تصاريحهم العلنية، بما فيها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ألا يركزوا رسائلهم على المشاكل الثنائية فحسب، بل عليهم أن يقدموا شرحاً شاملاً لاستراتيجية الولايات المتحدة وأولوياتها، بما فيها تلك المرتبطة بالصين.
وفي ظل احتدام المنافسة بين القوى العظمى – وتعثر الدبلوماسية الكبرى – هناك عدد قليل من المشاكل أو المناطق التي لا تتعرض لخطر الانجرار إلى الصراع. ففي الشرق الأوسط، تكتسي مسألة تقويض الولايات المتحدة أهمية متزايدة في السياسة الصينية، مما يساهم في تحوّل الصين من جهة فاعلة إقليمية هادئة إلى أخرى أكثر مجاهرةً وتصادمية. واتضح هذا الاتجاه في استخدام الصين الليبرالي لقرار النقض في “مجلس الأمن الدولي” بشأن المسائل المتعلقة بسوريا وأصبح أكثر وضوحاً خلال الصراع الأخير في غزة. ويجب أن يتمثل مصدر قلق واشنطن الفعلي فيما إذا كان عداء بكين الحديث سيسفر في النهاية عن التخلي عن حدود الاستفزاز عبر وسائل التواصل الاجتماعي والانتقال إلى ساحات معارك أكثر خطورةً.
مايكل سينغ
معهد واشنطن