إن الخشية من سماع الحقيقة هي من أهم القضايا التي تشغل السلطات العربية. السلطة العربية لا تعرف كيف تعمل تحت ضغط النقد في ظل سماع حقائق مختلفة حول الأوضاع السياسية والاقتصادية والإجتماعية.
الحقيقة أمر مربك للسلطات العربية لأسباب كثيرة، فالمعلومات القادمة من النقد والمكاشفة متشابكة وتأتي من جوانب مختلفة في المجتمع، لكنها بنفس الوقت تضع السلطات في مواقف صعبة ومحرجة. في دول العالم وسائل كثيرة للتعامل مع النقد لكن في الدول العربية يختلف الأمر. فدولنا لا تعرف كيف تستقبل الحقائق مهما كانت متواضعة، وقلما تمتلك الأساس للتعامل مع ما تسمع لأنها غير قادرة على تغيير سياساتها، وفي معظم الحالات تخشى الدول العربية من أن يؤدي النقد مهما كان عاديا لوضع اليد على الجرح أمام الرأي العام مما يسهم في خلق الوعي حول الاحتكارات والفساد، وتوزيع المناصب والأموال. هنا بيت القصيد واساس المشكلة العربية التي تزداد عمقا.
وتحاول كل سلطة في الوطن العربي الكبير من منع المجروح من الأنين والضعيف من تبيان نقاط ضعفه والخائف من التعبير عن خوفه. لكن عندما تغلق الحكومة باب الإعلام الحر والمفتوح وتستبدله بالعقوبات والقوانين الصارمة، فإنها تفشل في تشخيص واقع مجتمعها، وتمهد الطريق لمزيد من النقد المصحوب بالتململ واحتمالات كسر المجتمع لحاجز الخوف وهذا بدوره يفقدها أهم وسائل الاستقرار البعيد الأمد.
قول الحقيقة للنظام السياسي هو الأصعب في الدول التي تعاني الضعف في استيعاب مكانة الإعلام المفتوح. فأحد أسباب الهزائم العربية في حروب عدة ومعارك كثيرة مرتبط بعدم القدرة على قول الحقيقة انطلاقاً من أن الحقيقة تؤثر على الوحدة الوطنية. الإعلام كالمرآة، يعكس واقعنا. إن ما حصل في الثورات العربية 2011 مع أنظمة مبارك والقذافي وبن علي وعلي صالح وبشار الأسد وما حصل في حرب اليمن او انتفاضة البحرين منذ سنوات، ارتبط في الجوهر بسياسة منع الحريات على نطاق واسع.
إن الإعلام بطبعه متسائل متشكك، ولهذا مطلوب من السلطة أن ترد على تهم الديكتاتورية بسياسة المرونة، لا بالنفي الإعلامي الحاسم جملة وتفصيلا، وعلى السلطة العربية في الوقت عينه، أن ترد على تهم التفرد بإتباعها لسياسة الشراكة والإنجاز، ومطلوب من السلطة ان ترد على تهم سرقة المال العام بشفافية ولجان تحقيق مساءلة كما أن على السلطة العربية أن ترد على نقدها والسخرية منها بالعمل الجاد المسؤول.
تخشى الدول العربية من أن يؤدي النقد مهما كان عاديا لوضع اليد على الجرح أمام الرأي العام مما يسهم في خلق الوعي حول الاحتكارات والفساد، وتوزيع المناصب والأموال
وعندما ترفض الدولة مبدأ حرية التشكيك والنقد وتعلن بأن النقد هو مؤامرة حيكت خيوطها في الخارج فعليها حينئذٍ ألاّ تغضب من ناقديها، فالسلطة تملك كل وسائل القوة وأدوات صنع القرار، بينما لدى الناس ـ ممن لا يملكون القوة التي تملكها الدولة ـ أدوات محدودة. إن رفض الدولة مبدأ النقد والتشكيك في سلوكياتها من خلال فرْضها ما يعرف بالموانع الإعلامية والخطوط الحمراء، يتحول مع الوقت في يد النقاد لإعلام نقدي مواز لإعلام السلطة. إن مواجهة الكلمة بالقمع والسجن يحوّل التعبير النقدي لمعركةَ استنزاف للدولة.
إن الشعوب والأفراد بتنوع طرق تعبيرهم، ماضون في التعبير عن أنفسهم فبعض أروع الروايات برزت في زمن القمع في أوروبا الشرقية، وبعض أفضل أنواع الإبداع والحركات السياسية برزت في ظل مقاومة قوانين الحد من التعبير و احتكار السلطة من قبل فئة صغيرة. الناس تتناقل الحقيقة، وفي حالة المنع الإعلامي تزداد تلك الحقيقة انتشاراً، حتى لو لم تعكس تلك الحقيقة الواقع بدقة ووضوح.
إن وسائل التواصل الاجتماعي تؤكد أننا مقبلون على إعلام سخرية ونقد، ومقبلون في الوقت عينه على انفتاح أكبر على قول الحقيقة. إن الجيل الجديد لن يقبل باستمرار القيود على حرياته، وذلك لأنه يتقن فن التعبير ويتمسك به، هذا الجيل سئم الوسائل الإعلامية الموجَّهة والرسمية التقليدية.
على الأنظمة والحكومات عند التعامل مع حرية التعبير أن تتقدم في حسها الإعلامي وتتصالح مع الحقيقة بكل قساوتها، وذلك من خلال إلغاء قوانين الجزاء الخاصة بالتعبير قولاً وكتابة، صوتاً وصورة، وهذا بدوره سيحيل الأمر للرقابة المجتمعية، التي تمثل الحصن الأهم. وعندما يقع هذا، ستتطور اللغة والتعبير الحر في المجتمع، وسيكون الحَكَم الحقيقي في النهاية هو القارئ والمشاهد، وليس الحكومة. لقد أصبح الرأي العام قوة كبيرة قادرة على ضبط وتيرة النقد وعدم تحولها إلى خطاب كراهية.
وعلى الحكومات العربية أن تنتقل إلى التركيز المسؤول على أسباب التململ والضيق في المجتمع. ليس مهماً ماذا قال هذا المعارض وذاك النائب او تلك الناشطة او ذلك الشاب؟ بقدر لماذا قال ما قال وما سبب الغضب بين الناس على نظامهم وحكومتهم؟ إن السؤال الأهم: كم عدد الذين يؤيدون ما قاله هذا المعارض وتلك الإعلامية وهذه المسرحية النقدية وتلك القصيدة التي كسرت كل القيود؟ يجب ان نتساءل أين أخفقت الحكومة في سياساتها وممارساتها وعدالتها؟
إن انتقال الحكومات من التركيز على التعبير بصفته صورة المشكلة إلى التركيز على الأسباب الحقيقة للمشكلة، سيوصلنا إلى نتائج أفضل في تصويب السياسات الحكومية وتصحيح الاتجاه في عموم البلدان العربية.
القدس العربي