المعادلة المستحيلة في العراق

المعادلة المستحيلة في العراق

لم تكن الحاجة إلى حريق مستشفى الحسين في الناصريّة، مركز محافظة ذي قار الجنوبيّة، للتأكد من أن الوضع العراقي يسير من سيّء إلى أسوأ. لا يكشف الحريق عيبا في بناء المستشفى الذي استخدمت فيه مواد غير قادرة على مواجهة النار فحسب، بل كشف أيضا عيبا في البنيان العراقي ككلّ. هناك عيب عراقي في الأسس التي يقوم عليها النظام الذي استطاعت فيه ميليشيات “الحشد الشعبي”، التابعة لإيران، أن تكون السلطة الحقيقية في الدولة العراقية الجديدة التي قامت بعد العام 2003. قامت هذه الدولة بفضل الاجتياح الأميركي الذي أعاد الميليشيات العراقية الموالية لإيران على دباباته إلى بغداد!

عادت هذه الميليشيات لتتحول إلى أدوات إيرانية تستخدم في عملية وضع اليد على العراق خطوة خطوة وذلك على الرغم من المقاومة التي يبديها الشعب العراقي بكلّ فئاته، بما في ذلك الشيعة العرب الذين ترتّب عليهم، ولا يزال يترتّب، مواجهة سلسلة من الاغتيالات المدروسة. من بين هذه الاغتيالات المدروسة بدقة اغتيال هشام الهاشمي، أحد أفراد الحلقة الضيّقة المحيطة برئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، قبل سنة. لا هدف لهذه الاغتيالات سوى تدجين العراقيين إيرانيا لا أكثر.

ما لبثت هذه الميليشيات أن ارتدّت على الأميركيين، ناسية أفضالهم عليها، وهي تؤكّد يوميا أنّها ليست سوى أدوات تستخدم في الضغط الإيراني على إدارة جو بايدن… التي يظهر أنّها ترحّب بهذا الضغط.

ليس التدهور العراقي وليد البارحة. صار عمره 63 عاما وذلك منذ الرابع عشر من تمّوز – يوليو 1958 لدى وقوع الانقلاب العسكري الذي قادته مجموعة من الضباط الدمويين الذين تولوا تصفية أفراد الأسرة الملكيّة الهاشميّة. على رأس هؤلاء كان الملك الشاب فيصل الثاني.

العراق يذهب فارق عملة في التجاذب القائم بين أميركا و”الجمهورية الإسلامية” التي رمت بثقلها لتأكيد أن العراق مجرّد محميّة إيرانية تسيطر عليها ميليشياتها تحت تسمية “الحشد الشعبي”.

ليس تاريخ العراق منذ ذلك اليوم المشؤوم سوى سلسلة من المآسي بعدما تناوب على الحكم العسكريون وحزب البعث الذي لم يعد في مرحلة معيّنة، بعد 1979، سوى غطاء لحكم مناطقي وعائلي. كان أفضل تعبير عن هذا الحكم، في مرحلة معيّنة، بروز نجم سائق الدراجة النارية حسين كامل الذي تحكّم طوال سنوات بسبعين في المئة من موازنة الدولة. لم يكن وراء صعود حسين كامل، قريب صدّام حسين من جهة والده وزوج ابنته رغد، سوى صعود حارس للشخصيّات الكبيرة التي تزور العراق… إلى موقع وزير التصنيع الحربي ثمّ وزير الدفاع. ليس ما يدعو إلى سرد قصة فرار حسين كامل حسن المجيد إلى الأردن في العام 1995 ثمّ عودته إلى بغداد حيث طلب صدّام حسين من العشيرة تنفيذ حكم الإعدام به وبشقيقه صدّام حسين كامل وهو زوج لبنت أخرى من البنات الثلاث للرئيس العراقي الراحل. القصّة معروفة وتدلّ في الوقت ذاته على مدى التخلّف الذي كان يعاني منه أفراد أسرة صدّام حسين.

كان مفترضا، بعد الانتهاء من حكم صدّام حسين، دخول العراق مرحلة جديدة تتسم بنظام ديمقراطي يكون فيه تداول سلمي على السلطة وأحزاب ذات طابع وطني عراقي. لم يحدث شيء من ذلك. استمرّ مسلسل المآسي العراقيّة. جعل ذلك كثيرين يترحّمون على الرئيس الراحل الذي ساوى في ظلمه بين العراقيين، لكنّه وقف في وجه الزحف الإيراني على العراق بعد انتصار ثورة الخميني وقلب نظام الشاه في العام 1979.

تتميّز الفصول الجديدة في المأساة العراقيّة في أنّها تقود إلى مرحلة، سيتوجب فيها الإعلان عن فشل النظام الجديد الذي سعى الأميركيون إلى إقامته بين عامي 2003 و2004. في كلّ يوم يمرّ، يتبيّن كم أنّ هذا الفشل يقترب وكم أن حجم الصعوبات التي تواجه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي كبير. حجم هذه الصعوبات كبير إلى درجة لا يستطيع فيها الكاظمي الاستقالة في حال كان يريد البقاء في العراق مستقبلا. يمتلك الكاظمي كلّ النيّات الطيّبة ويمتلك كل السلطات التي يُفترض أن تساعده في النجاح في ظلّ تناغم بينه وبين رئيس الجمهوريّة برهم صالح، وهو شخص عاقل. ولكن، تنقص الكاظمي أيّ قدرة على ترجمة نيّاته على أرض الواقع، خصوصا في ظلّ رغبة إيرانيّة في جعل العراق ورقة في أيّ مفاوضات مع الإدارة الأميركية.

أسوأ ما في الأمر، أن إدارة جو بايدن لم تستطع إلى الآن إيجاد استراتيجيّة للرد على “الجمهوريّة الإسلامية” التي تسعى لفرض شروطها في مفاوضات فيينا. ليس سرّا أن إيران تريد في مقابل العودة إلى العمل بالاتفاق النووي الموقع في العام 2015 رفع كلّ العقوبات الأميركية التي فرضتها إدارة دونالد ترامب. هذا ما لن تتمكن من تحقيقه يوما.

مآسي العراقيين متواصلة

يذهب العراق فارق عملة في التجاذب القائم بين أميركا و”الجمهورية الإسلامية” التي رمت بثقلها لتأكيد أن العراق مجرّد محميّة إيرانية تسيطر عليها ميليشياتها تحت تسمية “الحشد الشعبي”. ليست المستشفيات العراقية وحدها التي ذهبت ضحيّة الأطماع الإيرانيّة في العراق. كلّ العراق صار مهددا. بات في الإمكان التساؤل هل من خيار آخر أمام مصطفى الكاظمي غير الاعتراف بفشله في مواجهة “الحشد الشعبي”؟

اضطر الكاظمي قبل بضعة أسابيع إلى حضور عرض عسكري لـ”الحشد الشعبي”. اضطر إلى ذلك في وقت يسعى فيه إلى خلق دور متوازن للعراق يعود فيه بلدا قريبا من العرب عموما من دون أن يثير ذلك حساسيات إيرانيّة. يبدو أن تحقيق مثل هذه المعادلة مستحيل في وقت لا تستطيع إيران القبول بمثل هذا الدور المتوازن وذلك على الرغم من أنّ في استطاعتها الاستفادة منه. يؤكد ذلك الاجتماعات ذات الطابع الأمني رفيعة المستوى التي انعقدت بين السعوديين والإيرانيين في بغداد قبل فترة قصيرة. سمحت هذه الاجتماعات التي شارك فيها ممثل لـ”المرشد” علي خامنئي بفتح قناة بين الرياض والشخص المتحكّم بالسياسة الإيرانية من ألفها إلى يائها.

في كلّ يوم يمرّ، تتعقد الأوضاع أكثر في العراق. كلّ ما يمكن قوله بعد 63 عاما على الانقلاب العسكري في 1958 والاجتياح الأميركي في 2003 أن العراق لم يستطع بناء نظام قابل للحياة وأن ليس سوى كلمة الفشل تصلح لتتويج سلسلة المآسي العراقيّة التي أوصلت إلى بناء مستشفى بمواد غير قادرة على مواجهة أيّ حريق… وصرف ثمانين مليار دولار على الكهرباء من دون أن تكون هناك كهرباء!

صحيفة العرب