أصبحت قصة الهيمنة على التجارة العالمية في القرن الحادي والعشرين هي مادة الصراع بين الولايات المتحدة والصين وليست الأيديولوجيا مثلما كانت عليه في القرن الماضي بين الاتحاد السوفييتي، حين حاصرته الولايات المتحدة في عقر داره عام 1990، لم تبق من نفوذه الشيوعي سوى زعامات أمنية استخباراتية استطاعت الوثوب إلى السلطة في موسكو ممثلة بالقيصر الجديد بوتين لتعاود القطبية الجديدة إلى جانب النمر الصيني.
مهما يقال عن تراجع الولايات المتحدة في زعامتها للعالم، لكنها تبقى ذات هيمنة كبرى ورائدة في ميادين التكنولوجيا العسكرية والمادية والمال. صيغ الهيمنة تحدّثت بقوة انسجاماً مع ثورة التكنولوجيا وعالم الرقميات. لم تعد لأعداد الجيوش وترساناتها العسكرية الغلبة بعد دخول حروب القرصنة الإلكترونية وما يسمى بالحرب السيبرانية.
صحيح أنه في نهاية الحرب الباردة أواخر الثمانينات وبعد سقوط جدار برلين انتصرت الولايات المتحدة على الاتحاد السوفييتي من خلال طوابير الخبز في موسكو. لكن اليوم لا هي تستثمر ذلك الانتصار الاستراتيجي الكبير ولا روسيا عملاقة.. فالكبار تحجموا ليبدأ الصغار في الشعور الواهم أنهم كبروا في عالم جديد لم تعد فيه قيمة راجحة للجيوش وامتلاك القنابل ما عدا النووية التي تبقى واحدة من أهم عناصر الردع في العالم.
على هامش محادثات فيينا بين طهران وواشنطن دعا وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إلى حشد التقدم التكنولوجي وتحسين دمج العمليات العسكرية على الصعيد العالمي “من أجل الفهم بشكل أسرع واتخاذ القرار بشكل أسرع والعمل بشكل أسرع. الطريقة التي سنقاتل بها في الحرب الرئيسية المقبلة ستبدو مختلفة تماما عن الطريقة التي قاتلنا بها في الحروب السابقة”.
الرئيس الأميركي جو بايدن يريد تفكيك أعمدة الجيل الرابع من حروب الشرق الأوسط عبر انسحاب قواته من أفغانستان ويليها العراق. لتتعاطى إدارته مع حروب الجيل الخامس التي دخلت بقوة، فيما يبقى السؤال قائماً: ما مصير المنطقة ومن ضمنها العراق أمام تمادي النظام الإيراني في إشاعة الفوضى والدمار.
في هذه الظروف والمعطيات يحاول نظام خامنئي محاكاة جيل حروب الأربعينات والخمسينات معتقداً أن هيمنته على العراق بمساعدة ساسة واشنطن وما تبعها في الهيمنة على سوريا المفككة واليمن المنقسم ولبنان الجائع واستخدامه النمط العقائدي في الحروب يجعله ذا اعتبار أمام التطور البشري الجديد في الحروب الإلكترونية والمعلوماتية.
تتحمل إدارتا بوش وأوباما المسؤولية التاريخية في استمرار حياة نظام خامنئي ورعايته وتمدده في العراق بالطريقة التي أغلق فيها منافذ الحياة عن شعبه. لكن إدارة بايدن، رغم معرفتها بخطورته على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، تعطيه مزيداً من الاعتبار حين تجلس معه على مائدة التفاوض في فيينا لمنحه مزيداً من الوقت للوصول إلى مرحلة صناعة القنبلة النووية الخيار الوحيد له لمواصلة حياته في عالم التحديات والحروب الجديدة.
نظام طهران يعلم أنه غير قادر على مواجهة التطور العالمي الجديد في نمط الحروب الإلكترونية أو التهديد بها، وهو ما زال يراوح في أنماط وأساليب حروب تقليدية معتقداً أنه من خلال استعراضات الأسلحة التقليدية قادر على التأثير النفسي على الولايات المتحدة ودول العالم المتقدم، الذي يعرف جيداً أنها محاكاة لأنماط عهود قديمة، وأن تأثيرها لا يتجاوز تأثير الجهلة المتبقين من الميليشيات، خاصة في العراق، القلقة على مصيرها الكارثي في المستقبل القريب.
يحاول نظام طهران التشبث بالوصول إلى بعض مفاصل التقنيات الإلكترونية لإشعار الأميركيين أنه موجود في الساحة عبر تجنيد عدد من الطلبة الإيرانيين في الولايات المتحدة لتنظيم حملات إلكترونية استهدفت بعض المواقع الرسمية الأميركية وحلفائها.
نظام طهران يعلم أنه غير قادر على مواجهة التطور في نمط الحروب الإلكترونية وهو ما زال يراوح في أساليب الحروب التقليدية معتقداً أنه قادر على التأثير النفسي على الولايات المتحدة
في سبتمبر الماضي تم توجيه لائحة اتهام إلى ثلاثة متسللين إيرانيين لسرقة معلومات مهمة حول تكنولوجيا الفضاء الجوي والأقمار الصناعية الأميركية. لقد استهدفوا العديد من الشركات داخل الولايات المتحدة وخارجها ونجحوا في اختراق الشبكات وسرقة معلومات حساسة.
الرئيس الأميركي بايدن لديه ملفات النظام الإيراني في دعم القاعدة حيث ما زال قسم كبير من قادتها يحظون برعاية حكام طهران ويديرون عمليات التنظيم الإرهابي من هناك، كما أن أيمن الظواهري ما زال مختبئا داخل الأراضي الإيرانية. كتبت الصحافية الأميركية باربرا ستار في تغريدة على تويتر أنه من غير الممكن تجاهل ما يجري، مضيفة أن طهران وبعد 10 سنوات على مقتل أسامة بن لادن سمحت لقادة القاعدة بالاختباء في أراضيها.
وعلق وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو على هذه المعلومات، مؤكدا أن إيران هي المقر الرئيسي لعمليات القاعدة الإرهابية العالمية. كما رأى أن تلك العمليات تنفذ بموافقة من النظام في طهران.
أول تقرير للاستخبارات الأميركية في عهد بايدن المعروف باسم “تقييم التهديد السنوي” حول إيران يؤكد أنّها التهديد الرئيسي لمصالح الولايات المتّحدة والدول الحليفة في الشرق الأوسط، وكشف أن إيران تملك مخزونا مخيفا من اليورانيوم وأن طهران تركز جهودها على تعزيز قدرات وكلائها لتهديد حلفاء واشنطن، مؤكدا أن الاستراتيجية الإيرانية تهدف إلى ضمان بقاء النظام وتحقيق الهيمنة الإقليمية.
الزيارات المكثفة لقادة المخابرات والاستخبارات في الحرس الثوري إلى بغداد يرشحَ من أخبارها أن المسؤولين حملوا رسالة شديدة اللهجة من الإمام خامنئي لتطبيق سياسة حافة الهاوية، بتشديد الضربات على المواقع الأميركية تزامناً مع الزيارة المرتقبة لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى واشنطن، ليبحث فقرة الانسحاب المبرمج للقوات الأميركية. بينما تسرّب التقارير الإخبارية الساذجة أن النظام غير موافق على تصعيد الميليشيات هجماتها ضد المواقع الأميركية في العراق. مع ذلك يتودد الرئيس بايدن إلى حكام طهران ويتوسل إليهم لمواصلة مفاوضات فيينا.
بايدن أكثر مسؤول أميركي لديه وثائق حول ملف سياسات النظام الإيراني في العراق، حيث انتهكت ميليشياته القيم والأعراض وقتلت الشباب ونهبت البيوت والأراضي، وسرقت أموال العراق، ووصلت الحماقة بالنظام الإيراني إلى استهداف القواعد العسكرية والمصالح الأميركية في العراق. لا يتوقع العراقيون مساندة جو بايدن لهم بعد تخليه عن المصالح الأميركية العليا، وهو لن يتردد في تلبية مطالب نظام خامنئي بالانسحاب من العراق.
توهم رئيس النظام الإيراني خامنئي أنه عبر عمليات موضعية بغسل أدمغة مجموعة قليلة من شيعة جنوبي العراق لموالاته تزامنت مع تسليم الإدارات الأميركية حكم العراق لطهران أنه انتقل إلى موقع المؤثر والفاعل في العالم مثله مثل تنظيم القاعدة الذي تمرّد على ولاة الأمر الأميركان. لكن المفاجأة في العراق كانت تمرّد الشباب الشيعي على أحزاب السلطة وميليشياتها التي تنفذ مشروع إرباك القوات الأميركية بسلاح متخلف.
إشاعة الفوضى والتخريب لا تحتاج إلى خبرات عالية، بل هي أحط مستويات السياسة، وقريبة إلى أفعال العصابات والمافيات. لعل العراقيين وغيرهم من أشقائهم في المنطقة يتساءلون هل حقيقة أن الولايات المتحدة، بما تملكه من قدرات سياسية تضعها في المرتبة الأولى في العالم، لا تستطيع تقليص نفوذ نظام يشيع الفوضى والدمار في العراق والمنطقة، أم أنها سياسة مدروسة، الغرض منها تسليم مهمات التفتيت وتفكيك الشعوب لأنظمة على طراز النظام الإيراني.
لو صدق ساسة الولايات المتحدة مع مبادئ قادتهم الأوائل كجورج واشنطن وروزفلت وأبراهام لينكون وترفعوا عن مستنقع السياسات النفعية قصيرة المدى لوقفوا إلى جانب شعوب العراق وسوريا ولبنان واليمن، وواجهوا نظام الملالي في طهران الذي وصفوه قبل عقدين من الزمن بالنظام المارق، إلا إذا كان هذا الوصف قد أصبح يعني الخادم للمصالح.
مع ذلك فالشعوب في القرن الحادي والعشرين عليها الاعتماد على أنفسها فقط للاستمرار في الحياة.
العرب