ما كان غريباً أن تندلع من درعا، كبرى مدن الجنوب السوري، شرارة الثورة السورية… التي تضافرت جهود مختلف الأطراف على وأدها كلٌّ وفق دوره و«اختصاصه». وبعدما بدا لبعض الوقت أن المواطن السوري الطيب راح ضحية الخلافات والصراعات الإقليمية والدولية، أخذ يتبين أن التفاهم بين السواد الأعظم من «المختلفين» أكبر بكثير مما توهّمه المراقب المحايد.
كانت مهمة «شيطنة» الثورة أكثر من ضرورية لتبرير العملية الممنهجة للانقضاض عليها وإفشالها. وكان لا بد من إخراج أصوات الشخصيات ذات الرؤى الجامعة والذهنيات المنفتحة، وإبعادها عن الصورة، من أجل ترك الساحة… إما لجماعات تابعة أو لقيادات سليمة المقاصد غير أنها لا تجيد السياسة ولا تفهم العالم.
وحقاً، بمرور الشهور على ما وصفها النظام وأتباعه وداعموه بـ«المؤامرة العالمية» عليه (قبل أن يتبين أنها كانت مؤامرة عالمية لمصلحته)، بدأ استثمار الخيارات على وقع «الفيتوهات» الروسية والصينية الهادفة إلى منع معاقبة النظام على حصار المدن والمجازر الجماعية وعمليات التهجير الفئوي.
وشيئاً فشيئاً، كما نذكر، مع صبغ الفصائل الأقوى بصبغة دينية ومذهبية معينة بدعم إقليمي، و«عسكرة» المواجهات على حساب تهميش نواة «الجيش السوري الحر»، أخذت العناصر الوطنية المستقلة والتقدمية تتعرّض للإبعاد عن مؤسسات الانتفاضة وتنظيماتها. وبعدما أدى خذلان الثورة إلى وقف الانشقاقات العسكرية والسياسية، حصل التطور النوعي ميدانياً عبر التدخلين العسكريين الإيراني والروسي. وهنا، أيضاً نتذكر أن المسؤولين الإيرانيين والروس تكلموا صراحة عن أنه لولا التدخل المباشر لكان نظام دمشق قد سقط.
من ناحية ثانية، لئن كان تراجع الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عن «خطه الأحمر» – الذي هدد به نظام دمشق في موضوع السلاح الكيماوي عام 2013 – قد أفهم السوريين بأن واشنطن لن تدعمهم، فإن إسقاط تركيا طائرة السوخوي الروسية فوق الحدود السورية – التركية، عام 2015، كان المدخل إلى تطوّر خطير صب ضد الثورة. فبعده عاد إلى المشهد شريط العداوات التاريخية الروسية – التركية. وبسبب الاختلال في الميزان الاستراتيجي بين روسيا وتركيا اضطر الأتراك للإذعان. وجاء هذا الإذعان بعد بضع سنوات من تلويح الرئيس رجب طيب إردوغان بأن أنقرة «لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء ما يحدث في سوريا». ولم تلبث الأمور بين الجانبين التركي والروسي أن اتجهت نحو تفاهم تجسّد في «مسار آستانة»، وكان الشريك الثالث في هذا المسار… إيران. نعم، إيران… الداعم الميداني لنظام دمشق والراعي الإقليمي لمخطّط التغيير السياسي والديموغرافي في المنطقة.
كل هذا كان يجري، بينما سوريا تنزف وتتفتت، وشعبها يعاني ويهاجر، والمتآمرون عليها ينسّقون مع وسطاء الأمم المتحدة تفاصيل إعادة تأهيل النظام. وفجأة، في مكان ما، غير بعيد عن أنظار العواصم الإقليمية والكبرى، أبصر النور فجأة «غول» اسمه «داعش» أفلح صانعوه ومستغلوه في تغيير «السيناريو» السوري برمته. إذ صار «داعش» محور المقاربات السياسية، بما فيها تلك التي تجاهلت «العداء» بين الغرب وإيران، وشجعت بعض العواصم الغربية على اعتبار طهران «حليفاً» فعلياً في مواجهة هذا التنظيم المتطرف.
الفترة اللاحقة شهدت نوعاً من الاستقرار القائم على التفاهم الضمني إقليمياً ودولياً على التعايش مع نظام الأسد فوق أرض سورية ممزقة الأوصال متعددة المرجعيات. ففي الشمال الشرقي، على جانبيه العربي والكردي، النفوذ العسكري الأميركي. وفي أقصى الشمال الغربي الحضور التركي. وفي منطقة الساحل، وخاصة، محافظتي اللاذقية وطرطوس المرجعية للروس. وفي الوسط والشرق يتعايش النظام مع ميليشيات إيران ومخططاتها الديموغرافية. وهكذا تبقى منطقة الجنوب الممتدة في الغرب من جبل الشيخ وهضبة الجولان المحتلة إسرائيلياً، وإلى الشمال العاصمة دمشق وريفها، وشرقاً بادية الشام (الحماد) وصولاً إلى نقطة التنف الحدودية القريبة من حدود الأردن والعراق.
واللافت الآن، أنه وسط برود «العداء» العربي لنظام دمشق وتحمّس عدد من العواصم العربية لإعادة تأهيله، تظهر شروخ وتشقّقات… ناهيك من حالة قلق روسي لمسار الأمور. وهي تبرز أمام التصعيد العسكري في محافظة درعا، والانهيار الأمني والمعيشي في محافظة السويداء… وهاتان المحافظتان تشكّلان قلب الجنوب السوري المتاخم للأردن.
خلال الأيام الأخيرة رفض قدري جميل، رئيس «منصة موسكو» – المحسوبة على المعارضة -، خلال مداخلة له في ندوة استضافتها وكالة «ريا نوفوستي» الروسية، تحميل العقوبات الغربية سبب سوء الأوضاع المعيشية، معتبراً أن «سبب الأزمات يعود إلى الفساد المنتشر في بنية نظام الأسد الذي يجب تغييره». وتابع جميل، المقرب جداً من موسكو – أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في سوريا أسوأ من باقي المناطق السورية…».
وفي اتجاه موازٍ، كتب محلل سياسي عربي مقرّب جداً من السلطات الروسية في إحدى صحف موسكو، غامزاً من قناة رهان البعض في دمشق على الصين: «… تبدو التوجهات الساذجة أو ربما المغرضة لأهداف سياسية أو شخصية باستبدال (كذا وردت) الصين بروسيا، بعدما (عجزت) روسيا عن مساعدة ودعم الشعب السوري (بما فيه الكفاية)، بل ونزع بعض اللافتات المعبّرة عن الصداقة والتعاون بين الشعبين الروسي والسوري في الشوارع السورية، واستبدالها بلافتات صينية، يبدو ذلك كله توجهاً سياسيا مثيراً للشفقة، ناهيك عن كونه خداعاً شعبوياً واضحاً، لن يغير من الأوضاع المأساوية على الأرض قيد أنملة».
وتابع المحلل: «الأوضاع على الأرض السورية للأسف، ليست تماماً بالصورة مثلما تبدو في فيديو الرئيس، بينما يتجوّل بين مواطنيه، ويتناول «الشاورما» في أحد المطاعم العادية في دمشق، وسط ترحيب وحفاوة من المواطنين البسطاء. بل أصعب من ذلك، وذلك بسبب عوامل عدة داخلية وخارجية…»، إلى أن يقول: «ينطبق الأمر نفسه على الجنوب السوري، الذي يعاني من وضع خطير للغاية، وقابل للانفجار في أي لحظة…».
هذا الجنوب السوري هو العمق العربي للعاصمة دمشق، وجسرها الحيوي والملعب الجيو – استراتيجي بين خط الهدنة مع إسرائيل وحدود الأردن و«الممر الإيراني» من طهران إلى بيروت. وهو المنطقة التي تسعى إيران للسيطرة عليها ميدانياً وتغيير نسيجها ديموغرافياً.
والواضح أن موسكو، بالذات، قد لا تكون مرتاحة تماماً لـ«جنوب إيراني» يكمل حصة طهران من مناطق المرجعيات الدولية المنتشرة في سوريا «العربية»… سابقاً.