ملء الفراغ الناشئ عن انسحاب القوة العسكرية الأمريكية من الشرق الأوسط، هو الشغل الشاغل لصانعي السياسة وخبراء الاستراتيجية في دول المنطقة والدول صاحبة المصالح فيها. خلال أيام قليلة مضت انعقدت قمتان، قمة أمريكية – إسرائيلية في واشطن يوم الخميس الماضي، ثم قمة «التعاون والشراكة» التي احتضنتها بغداد يوم السبت. الأولى كانت ثنائية وجاءت في سياق العمل على ضبط السلوك الأمريكي – الإسرائيلي في شأن قضايا أساسية أهمها أمن إسرائيل، والموقف من إيران، ومستقبل التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، والعلاقات بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية. أما قمة بغداد فقد جمعت أصدقاء وأندادا تختلف مصالحهم اختلافا شاسعا، لكنهم يلتقون حول قاسم مشترك أعظم، هو السباق لملء الفراغ الناشئ عن الانسحاب العسكري الأمريكي.
هذا السباق قد يسفر عن مزيد من التوتر في المنطقة، إذا لم تتقدم الدبلوماسية على الحرب في حل الخلافات وتسوية النزاعات وتنسيق المواقف. وقد حملت قمة بغداد هذه الرسالة الى جميع المشاركين، على اختلاف مصالحهم وأهدافهم. الرئيس الأمريكي بايدن هنأ رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، معربا عن سعادته بأن من بين شركاء الولايات المتحدة من يؤمن بأسبقية الحوار والدبلوماسية على الحرب في إدارة العلاقات بين كل دول الشرق الأوسط.
الإرهاب هو التحدي الأول
وقد سيطرت على كلمات المتحدثين في القمة قضايا متعددة، أولها قضية مكافحة الإرهاب، التي كانت القاسم المشترك بين المشاركين. ثم جاءت قضايا أخرى تمتد من ضرورات الأمن والاستقرار والتعاون، إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية، على الرغم من اختلاف معنى عدم التدخل لدى بعض الأطراف المشاركة مثل، إيران وتركيا. قمة بغداد للتعاون والشراكة، لم يتم الإعداد لها جيدا، ومع ذلك فإنها فتحت بوابة واسعة للدبلوماسية العراقية إلى محيطها الإقليمي، كما إنها أسست لحقيقة أن عملية إقامة نظام إقليمي جديد يجب أن تتجاوز حدود القومية والدين والمذهب واللغة، بحكم حقائق ومقومات التنوع فيها. كما وفّرت القمة، فرصا لعقد لقاءات ثنائية بين بعض أطرافها، مثل مصر وقطر، والسعودية وإيران. كما كانت مناسبة للدول المشاركة تؤكد فيها بأن بعض ما يحدث في العراق يمس الأمن القومي لجيرانها، مثل المواجهة بين تركيا وقوات «بي كي كي». ومع أن القمة انتهت بإصدار بيان ذي طابع خطابي، يخلو من الاتفاق على أي إجراء عملي مشترك، فان السيد مقتدى الصدر زعيم أكبر كتلة برلمانية، لفت الأنظار إلى أن القمة «كانت أخوية قبل أن تكون سياسية»، ووصفها بأنها تمثل «انعطافة في غاية الأهمية من الناحية الاقتصادية والأمنية، وكذلك دلالة واضحة على أهمية العراق في المنطقة، وعلى سيادته وريادته في شتى المجالات». ويمثل نجاح العراق في عقد القمة في الظروف الراهنة إنجازا لحكومة الكاظمي، وتتويجا لنشاط دبلوماسي كبير، تمكنت بواسطته بغداد من أن تصبح منصة لمفاوضات مباشرة بين السعودية وإيران، وأن تبدأ في إعادة بناء تحالف سياسي تاريخي مع كل من القاهرة وعمّان، سبق أن اتخذ أشكالا مختلفة كان آخرها مجلس التعاون العربي، الذي أنشئ عام 1989 بين العراق والأردن ومصر واليمن، ثم انهار في العام التالي نتيجة غزو قوات صدام حسين للكويت. هذه الإنجازات الدبلوماسية الثلاثة، تؤكد أن العراق يستطيع أن يلعب دورا مهما في نظام إقليمي جديد، باعتباره الدولة العربية التي تشترك حدودها مع قوتين إقليميتين رئيسيتين هما إيران وتركيا. لكن استمرار قدرة العراق على ممارسة هذا الدور ستتوقف على ثلاثة مقومات رئيسية هي، فائض القوة الشاملة، ومهارة الدبلوماسية، ودرجة الثقة المتبادلة مع جيرانها.
علاقات متوازنة مع إيران
انتهى الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق إلى اتفاق على انسحاب القوات الأمريكية المقاتلة بحلول نهاية العام الحالي، مع استمرار الدور الأمريكي في التدريب والتأهيل وإمدادات السلاح، والتعاون ضمن خطة الإطار الاستراتيجي. هذا يعني عمليا إغلاق القواعد العسكرية الأمريكية، ونقل مسؤوليتها إلى القوات العراقية. وتلتقي هذه النتيجة مع أحد أهداف استراتيجية إيران في الشرق الأوسط. وقد وصف حسين أمير عبد اللهيان وزير الخارجية الإيراني، وجود القوات الأمريكية في المنطقة بأنه أهم أسباب التوتر وعدم الاستقرار. وتعتبر إيران أن خروج القوات الأمريكية من العراق سيكون أفضل هدية إلى روح قاسم سليماني القائد التنفيذي للاستراتيجية الإيرانية في الشرق الأوسط، الذي اغتالته الولايات المتحدة على أرض العراق في بداية العام الماضي. المبعوث الإيراني للقمة هو أحد تلامذة سليماني، وكان المسؤول عن السياسة الخارجية لبلاده تجاه العالم العربي قبل تعيينه أخيرا وزيرا للخارجية. ومن ثم فإن خروج القوات الأمريكية من العراق سيؤدي لإزالة مبرر استخدام العراق ساحة لتصفية الحسابات بين طهران وواشنطن. ومن شأن ذلك أن يساعد على إقامة علاقات متوازنة بين العراق وإيران، بعيدا عن التوتر والحساسيات.
موقع العراق الجيوسياسي يساعده على تطوير الصيغة الموازنة المثلى للعلاقات بين الدول العربية وغير العربية في الشرق الأوسط
رسائل إلى الداخل
كذلك فإن العراق وهو مقبل على انتخابات عامة مهمة بعد أسابيع معدودة، يسعى إلى توجيه رسائل إلى القوى السياسية المحلية، وإلى جمهور الناخبين، تهدف لضبط إيقاع إدارة المصالح القومية للبلاد، في وجه التطورات التي تشهدها المنطقة، ومحاولة رفع الروح المعنوية ذات الطابع الوطني الجامع، بتقديم صورة ناصعة للدبلوماسية العراقية إلى المواطن العراقي عبر لقاء القمة. يضاف إلى ذلك عنصر ذاتي مهم يتعلق برئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، الذي يقود حكومة انتقالية، تتلخص أهم وظائفها في إصدار الميزانية، والإعداد للانتخابات، والمحافظة على القدر من الأمن والاستقرار اللازمين لتحقيق ذلك. فكأن الكاظمي يقول للعراقيين: لقد وعدت ووفيت بالوعد وأكثر. وربما سعى الكاظمي لأن تكون القمة هي سفيره إلى قلوب وعقول العراقيين، بما يعزز فرصه في ممارسة دور رئيسي في حكومة ما بعد الانتخابات، وربما كان النجاح في الترتيب لعقد القمة أحد الأسباب التي شجعت السيد مقتدى الصدر على تخليه عن مقاطعة الانتخابات، وإعلانه عشية القمة أن ائتلافه سيشارك في انتخابات أكتوبر، ثم موقفه الإيجابي من نتائج القمة. مع تأكيدنا على أن السبب الرئيسي لمشاركته يعود إلى حسابات سياسية محلية وإقليمية، ورغبته في تثبيت مكاسبه البرلمانية، التي حققها في انتخابات 2018، وسعيه للحصول على تفويض شعبي جديد، مستفيدا من زخم «انتفاضة تشرين».
قيود على الدور العراقي
هل يستطيع العراق فعلا أن يقوم بدور إقليمي ريادي في قضايا مكافحة الإرهاب والتعاون الإقليمي؟ حقيقة الأمر هي أن العراق ما يزال في حاجة إلى المساعدة الخارجية في مجالات مختلفة، وأن الدولة العراقية ما تزال مثخنة بالجراح النازفة، التي يتمثل أخطرها في انفلات السلاح وانتشاره في أيدي جماعات غير حكومية، ووجود تدخلات عسكرية على أرضه بواسطة قوى أجنبية منها تركيا، التي تحارب أكرادها في شمال العراق، وكذلك إيران التي تستخدم العراق ساحة لضرب المصالح الأمريكية. ويمثل هذان العاملان، انتشار السلاح خارج الدولة والتدخل العسكري الأجنبي، أهم القيود على الدور الخارجي – الإقليمي المحتمل للعراق. ومن الصعب جدا تصور أن العراق يستطيع أن يمارس دورا مستقلا على النطاق الإقليمي في ظل عجز الدولة عن فرض احتكارها للسلاح، وعدم استطاعتها أن توقف استخدام أراضيها ساحة لتصفية الحسابات بين قوى أخرى. وسوف يتعين على العراق قبل كل شيء أن يتبنى استراتيجية دقيقة لإدارة أزمة انتشار السلاح واحتوائها تمهيدا للتخلص منها، وأن يبني علاقات متوازنة مع جيرانه بمن فيهم إيران وتركيا، بعيدا عن التهديد أو الابتزاز. إن مصالح العراق الجيوسياسية والاقتصادية والبيئية مع جيرانه تستلزم الحرص على تطوير هذه المصالح وعدم تعريضها للخطر.
العراق يعاني من شحة مياه قاسية تهدد أراضيه الزراعية بالتصحر، لكنه يستطيع بالتنسيق مع تركيا وإيران تقليل حدة هذه المشكلة. تركيا لديها مصالح قوية مع العراق، الذي يمثل بالنسبة لها أحد أهم شرايين الطاقة والتجارة، فهي أكبر شريك تجاري للعراق بين دول المنطقة، وقد بلغت قيمة تجارتها معه أكثر من 30 مليار دولار في العام الماضي، أي ما يعادل ثلاثة أمثال تجارة العراق مع دول مجلس التعاون الخليجي، التي بلغت أقل من 10 مليارات دولار. أما إيران فهي ترتبط مع العراق بشبكة من العلاقات المتنوعة، جغرافية وتاريخية وسياسية واقتصادية وثقافية، وتبلغ تجارتها معه حوالي 13 مليار دولار، أي ما يزيد على عشرة أمثال التجارة المتبادلة بين العراق وكل من مصر والأردن مجتمعتين، التي بلغت في العام الماضي أقل من مليار دولار. إن موقع العراق الجيوسياسي يساعده على اكتشاف وتطوير الصيغة التوازنية المثلي للعلاقات بين الدول العربية وغير العربية في الشرق الأوسط.
إبراهيم نوار
القدس العربي