بدت مشاهد مطار كابول بعد انسحاب آخر جندي أمريكي أبعد عن تصوير خاتمة 20 سنة من الحرب التي شنتها الولايات المتحدة تحت شعار «الحرب على الإرهاب» وأقرب إلى مشهد سوريالي من التخريب والتدمير والتعطيل والتعثر والتعجل، لقوة كونية غازية تنسحب على عجل وارتباك واختلال. إنها أيضاً تترك وراءها ذلك الحصاد الدامي (75 ألف عسكري وشرطي أفغاني، و71 ألف أفغاني مدني، و3500 في صفوف الجيش الأمريكي وقوات من 42 دولة أجنبية) والكلفة المادية الباهظة والجسيمة (قرابة 822 تريليون دولار في قطاع المعدات العسكرية وحدها) والحصيلة العجفاء التي أثبتت انقلاب السحر على الساحر (غزو البلد لإسقاط طالبان، والانسحاب منه بعد إعادة تسليمه إلى طالبان).
ولقد شاءت مفارقات التاريخ أن يرحل آخر جندي أمريكي غازٍ على مبعدة أيام قليلة من الذكرى العشرين لهجمات 11/9 الإرهابية التي استهدفت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ومقر البنتاغون في واشنطن، وكانت الذريعة الأولى التي استخدمها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن لغزو أفغانستان، بالتضامن والتكافل مع الحلف الأطلسي ووحدات عسكرية من عشرات الدول حلفاء واشنطن.
كذلك يشاء التاريخ إلزام أربعة من رؤساء أمريكا المسؤولين عن أطول حروب الولايات المتحدة، بوش الابن وباراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن، أن يبصروا بأمّ العين مشاهد الحشود والإذلال والإخلاء واليأس وإراقة الدماء في مطار كابول بعد سقوط العاصمة في قبضة طالبان وفرار الرئيس الأفغاني أشرف غني. ولم تكن أقل مرارة وخيبة وإحساساً بالهزيمة حصة تلك الغالبية التي مثّلت أمريكياً عادياً وقع بدوره ضحية أوهام «الحرب على الإرهاب» فهلل للاحتلال الأمريكي وساند صانعيه وأعاد انتخابهم قبل وقت طويل من فوات الأوان.
الدرس الأول خلف هذا الحصاد الدامي وهذه الحصيلة العجفاء هو أن عمر أي غزو خارجي قصير مهما طال بالطبع، ولكنه أيضاً يحمّل الغازي عواقب ليس بعضها أقل أذى لضحايا الغزو أنفسهم، حتى إذا كانت غالبية الساسة الأمريكيين أدنى استعداداً لأخذ العظة من دروس التاريخ، أو من تجارب مريرة متعاقبة في فيتنام وكوريا وأفغانستان والعراق. والمستقبل الوشيك سوف يكشف ما إذا كانت أوهام القوة الكونية العظمى قد وًضعت على محك الهزائم والإخفاقات بما يتيح تفادي تكرار الماضي، أم أن غطرسة «الشرطي الكوني» سوف تتواصل في أذهان هذه الإدارة أو تلك ومعها تتضخم أكثر فأكثر عقائد التدخل العسكري والاجتياح والإخضاع.
وكان رئيس جمهوري هو بوش الابن قد بدأ الحرب في أفغانستان ضد نظام طالبان، ورئيس جمهوري آخر هو ترامب قد اعترف بالحركة رسمياً بعد 19 سنة، وكان رئيس ديمقراطي هو أوباما أول الواعدين بالانسحاب، ورئيس ديمقراطي هو بايدن آخر مستكمليه، وبالتالي ليس ثمة فارق جوهري بين الحزبين في إشاعة أوهام الغزو وتجميل محاسنه. وخلاصة المغزى القاسي أن شاغل البيت الأبيض، الراهن أو المقبل، ملزم بالتعاطي مع الحصيلة والحصاد، ولكن عبر سلطة طالبان ذاتها التي اعتُبرت الداء وتُرى اليوم مالكة الدواء.
القدس العربي