موسم الهجرة العكسية من المدارس الخاصة إلى الحكومية

موسم الهجرة العكسية من المدارس الخاصة إلى الحكومية

أيامُ قليلة تفصل الطلاب في العديد من الدول العربية عن العودة إلى المدارس والمعاهد والكليّات، فيما التحق آخرون في دول عربية أخرى بمدارسهم فعلا. ويبدو أن أكثر ما سيميز هذا العام الدراسي هو الهجرة من المدارس الخاصة إلى المدارس الحكومية.

لندن – اضطر سالم العام الماضي لإعادة ابنته إلى المدرسة الإعدادية الخاصة منتصف العام الدراسي بعد أن دخلت في نوبة اكتئاب بسبب بعدها عن أصدقائها الذين رافقتهم لثماني سنوات، بالإضافة إلى توقف الدراسة بسبب تداعيات فايروس كورونا. ووجد سالم (52 عاما) وهو مسؤول في وزارة تونسية نفسه مضطرا لإخراج ابنته من المدرسة بسبب ارتفاع ثمن الأقساط، خاصة أن ابنته لديها أخوان يصغرانها سنا يدرسان في مدرسة ابتدائية خاصة. ويقول سالم “على الأقل يجب أن يدرسوا الابتدائي في مدرسة خاصة ليكون مستواهم جيدا حين يلتحقون بالإعداديات الحكومية بعد إتمام الابتدائي”.

كان سالم يعقد أملا في تلتحق ابنته بأحد المعاهد النموذجية الذي يؤمّه كل سنة صفوة التلاميذ المتميزين في الابتدائي بعد مناظرة وطنية.

ورغم أن ابنته لم يخول لها معدلها الالتحاق بالمعهد النموذجي، فهي تؤكد أن بعض ما تدرسه هو نفس البرنامج الذي تدرسه ابنة خالتها التي تكبرها بعامين في مدرسة حكومية. ويدفع أولياء الأمور في المدارس الخاصة كل سنة رسوما لأجل الكتب المدرسية التي تطبع في فرنسا.

ويؤكد سالم أنه أصبح مضطرا هذا العام لدفع أكثر من نصف مرتبه كأقساط شهرية لدراسة أبنائه، ولا يعرف كيف سيتدبر أمره ويفكر في الحصول على قرض.

عرفت منظومة التعليم في تونس عصرها الذّهبي طيلة السنوات التي تلت الاستقلال عن فرنسا عام 1956، فكانت جسرا عبرت عليه أسماء تونسية بارزة في كافة مجالات الحياة.

لكن سرعان ما أخذ مستوى التعليم منحى سلبيا، ولاسيما منذ تسعينات القرن الماضي؛ ما جعل تونس تحتل المرتبة الـ84 عالميا والسابعة عربيا من حيث جودة التعليم، وفقا لمؤشرات البرنامج الدولي لتقييم التعليم لعام 2016.

هذا التدني الراهن في مستوى التعليم العام (الممول من قبل الحكومة) يرجعه صديق الجديدي، الخبير الدولي في إصلاح وبناء المنظومة التربوية، إلى “سياسات خاطئة متبعة منذ عقود؛ لعدم وجود سياسة وطنية تربوية”.

ويوجه الخبير التونسي أصابع الاتهام أيضا إلى “الانتدابات (تعيينات) العشوائية في صفوف المدرسين، وتدهور البنية التحتيّة والموارد البشريّة في المؤسسات التعليمية العامة. وأدت جملة من المشكلات والمصاعب المتراكمة إلى اهتراء المنظومة التربوية وتراجع مستوى المدرسة التونسية”.

ويؤكد كمال الحجام، وهو مدير عام المرحلة الابتدائية في وزارة التربية، أن “تونس تحتل مراكز غير مطمئنة في التصنيفات الدولية لقطاع التعليم؛ ما يجعل الدولة تقارن بين ما كانت عليه مؤسساتها سابقا وما أصبحت عليه اليوم؛ وهو ما يدعوها فعلا إلى إصلاح جذري لنظام التعليم”.

واقع المدارس العامة يعكسه أيضا ما يسميه البعض في تونس بـ”هجرة التلاميذ” من هذه المدارس إلى مدارس خاصة يتحمل فيها أولياء الأمور تكاليف دراسة أبنائهم، وهو خيار برز خاصة في السنوات العشر الأخيرة، على أمل تلقي الأبناء تعليما أفضل، وتعلم لغات أخرى منذ الصغر، باعتبارها من أهم شروط الحصول على وظيفة.

وفقا لأرقام وزارة التربية التونسية، يدرس قرابة مليون و93 ألف تلميذ في 6070 مدرسة عامة، هي 4562 مدرسة ابتدائية، و1508 مدارس بين إعدادي وثانوي، بينما توجد حوالي 320 مدرسة خاصة.

وبلغ عدد المؤسسات التربوية الخاصة في تونس سنة 2017، 735 مدرسة ومعهدا إعداديا وثانويا تقدم خدماتها لأكثر من 138 ألف تلميذ. رقم يمثل طفرة حقيقية على مستوى تطوّر الاستثمار الخاص في قطاع التعليم الذي لم يكن منفصلا بدوره عن خيارات الدولة في التملّص شيئا فشيئا من دورها الاجتماعي، خصوصا في هذا القطاع.

رغم أن تجربة فتح التعليم أمام الاستثمار الخاص قد بدأت منذ أكثر من ثلاثة عقود، إلا أن هذا القطاع لم يمثل مصدر جذب كبيرا لرؤوس الأموال وخصوصا في المرحلة الابتدائية. فخلال منتصف ثمانينات القرن الماضي، لم يكن يتجاوز عدد المدارس الابتدائية الخاصة 16 مؤسسة تربوية تستقطب 6295 تلميذا، أي 0.5 في المئة تقريبا من جملة المتمدرسين المسجلين بالمرحلة الابتدائية. وتطلب الأمر قرابة 25 سنة حتى يصل عدد المدارس الخاصة إلى 109 مدرسة على امتداد كامل الجمهورية مع نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة.

وضع سرعان ما تغير خلال العشرية الأخيرة، حيث بلغت نسبة تطور المدارس الابتدائية 267.88 في المئة، ليصبح عددها الجملي 401 مؤسسة تربوية سنة 2018. هذه الطفرة تزامنت مع تزايد إقبال الأولياء على تسجيل أبنائهم في المدارس الخاصة، ليرتفع عدد تلاميذها من 24953 تلميذا أي ما يمثل 2.48 في المئة من إجمالي رواد المرحلة الابتدائية سنة 2000، إلى 69680 سنة 2018 بما نسبته 6.5 في المئة تقريبا من العدد الإجمالي لتلاميذ المدارس.

وعن الفرق بين المدارس العامة والخاصة، يرى الحجام أن “المدارس الخاصة تقدم إضافة للعائلة التونسية، تتمثل في توفير فضاء مدرسي يبقى فيه الطفل خلال الفترتين الصباحية والمسائية، أي طوال فترة دوام (عمل) والديه، وهو ما لا توفره المدرسة العامة حاليا.. وهناك تفكير في إيجاد أنشطة ثقافية في المدارس العامة خلال فترة المساء”. ويتابع المسؤول التربوي التونسي أن “المدرسة العامة اليوم، وبجانب الاهتمام بمضامينها المعرفية، تفكر في إيجاد خدمات اجتماعيّة وطبية من شأنها تحسين أوضاع التلاميذ؛ بما يساهم في تطوير نتائجهم الدراسية”.

وبعيدا عن اقتناعهم بالتعليم الخاص أو العمومي دفعت جائحة كورونا الكثيرين من أولياء الأمور في تونس وغيرها من البلدان إلى إعادة أبنائهم إلى المدارس العمومية بسبب الأزمات الاقتصادية.

جائحة كورونا دفعت الكثيرين إلى إعادة أبنائهم إلى المدارس العمومية بسبب الأزمات الاقتصادية

وتدعو هناء بن عبدالله، وهي مديرة مدرسة “بوعبدلي” الخاصة في العاصمة تونس، أولياء الأمور إلى “التحرك سريعا لإنقاذ أبنائهم من التعليم المتردي في تونس، ورفض النظام التعليمي الراهن”. وتعتبر أن “الإصلاح يبدأ بمراجعة المناهج التعليمية، التي تتضمن مواد لا فائدة من إدراجها.. فبعض التلاميذ يرتقون من سنة دراسة إلى أخرى دون تحصيل نصف الدرجات الدراسية المطلوبة”. وعن الفرق بين المدارس العامة ومدرسة “بوعبدلي” الخاصة، تقول مديرة المدرسة “نضع المدرسين في عملية تأهيل مستمرة طيلة السنة؛ ليتعلموا كافة أساليب جذب انتباه التلميذ أكثر للدرس داخل الفصل، وتحفيزه أكثر للتعلم”.

لكن كلام المديرة يفنده مدرسون سابقون من المدرسة نفسها، حيث يؤكدون أن المناهج التعليمية مبينة على تضخيم أعداد التلاميذ وتعليمهم اللغات دون أن يكونوا ملمين بالمواد العلمية والتقنية. ويؤكد الكثير من العارفين بالمؤسسة أنه ينعدم فيها الانضباط في أوساط التلاميذ.

ويقول نورالدين الجويني، وهو مدير مدرسة “نهج الهند” العامة بالعاصمة “لدينا نماذج كثيرة في مدرستنا لرجال أعمال يمكنهم دفع أموال لتعليم أبنائهم في مدارس خاصّة، ولكنهم أعادوهم إلى هنا، إيمانا منهم بأن التعليم العام هو الأفضل، ويعكس النتائج الحقيقيّة لمستوى التلميذ التعليمي”. ويزيد الجويني أن “التعليم العام يبقى حاضنة للجميع، ويتمتع بدرجة رقابة عالية، حتى أن أعلى نسب النجاح في السنوات النهائية تكون لتلاميذ في التعليم العام.. ولا بد من مراجعة النظرة السلبية إزاء منظومة التعلم العام”.

وتؤكد لطيفة مرابط، وهي مدرسة في روضة أطفال ولها أبناء في مدارس عامة، أن “الهدف الأساسي من التوجه إلى التعليم الخاص هو الضغوط الاقتصادية، التي تدفع بعض الأسر إلى البحث عن أماكن لوضع أبنائهم فيها طيلة ساعات دوام الوالدين، خوفا من توجه أبنائهم بعد انتهاء الدراسة اليومية في المدارس العامة إلى ممارسات قد تجعلهم منحرفين في ما بعد”. لكن، وبحسب قول لطيفة فإن “العديد من التلاميذ يعودون من التعليم الخاص إلى العام وهم يشكون تأخرا في مستوى مواد اللغة والعلوم أيضا”.

ويرى البعض أن الحل الأمثل لأبنائهم لهذا العام هو التسجيل في المدارس الحكومية الذي يعتبر مجانيا وأوفر للأسر، خاصة بعد أن تراجع الوضع الاقتصادي والتفكير بالحجر المنزلي في حال تجدد الأزمة مرة أخرى خلال العام لضمان عدم خسارتهم للرسوم المدرسية.

وأجبر العديد من أهالي الطلبة ممن يعانون من ظروف اقتصادية صعبة فرضتها عليهم أزمة كورونا، على التسجيل في المدارس الحكومية. وتقول سلمى إن “العديد من أهالي الطلبة ممن يعانون من ظروف اقتصادية صعبة فرضتها عليهم أزمة كورونا، أجبروا على التسجيل الحكومي خاصة أن أولياء الأمور مهددون بخفض رواتبهم وعدم تمكنهم من تسديد القسط للعام المقبل في المدارس الخاصة، إذ يتخوف البعض من احتجاز شهادات الطلبة إلى حين تسديد جميع الأقساط المالية”.

وعلى صعيد الدول العربية، تبحث الوزارات قرارات واردة بقوة لمراعاة ظروف التعلم عن بعد والأعباء التي تحملتها الأسر في العام الماضي عبر متابعة أبنائها في أثناء الحصص الإلكترونية، فأزمة كورونا فرضت على جميع الدول إعادة النظر بشأن التعليم الخاص والرسوم المتحصلة من أولياء أمور الطلبة، بعد احتجاجهم على رفع نسبة الخصومات في العام الدراسي القادم.

وفي لبنان أين يبلغ عدد المدارس الرسميّة (الحكومية) ألفا و235 مدرسة، تضمّ نحو 342 ألفا و304 طلاب، فيما يبلغ عدد المدارس الخاصّة (غير الحكوميّة) ألفا و209 مدارس، تضمّ نحو 558 ألفا و68 طالبا، تقف العائلات اللبنانية حائرة بين خيارين، إما تسجيل أبنائها للعام الدراسي المقبل في المدارس الخاصة، وإما تأمين المستلزمات الحياتية الأساسية، والأخير هو الخيار الأقرب.

وعلى مدى عقود طويلة، شكل التعليم الخاص في لبنان عنصرا أساسيا، خاصة لناحية تميزه ومعاصرته، حتى أنه كان مقصدا من الدول العربية المجاورة.

ويقول محمد شمس الدين الباحث في “الدوليّة للمعلومات”، “إن مدارس خاصّة أغلقت أبوابها، وجرى تسريح 6 آلاف معلم العام الماضي، على وقع الأزمة المتفاقمة التي يشهدها لبنان”.

وحذرت منظّمة “أنقذوا الأطفال” (غير حكومية، مقرها بريطانيا)، في تقرير، من كارثة تربويّة في لبنان. وقالت المنظمة، آنذاك، إن الأطفال اللبنانيين من الفئات الأكثر هشاشة (ماديا) يواجهون خطرا حقيقيّا بالانقطاع نهائيّا عن التعليم، على وقع انهيار اقتصادي في البلاد.

ترى الطويل أن “70 في المئة من الأهل لن يتمكّنوا من تأمين الأقساط المدرسيّة للمدارس الخاصّة، أو شراء الكتب والمستلزمات الدراسية، فضلا عن فقدان الحاجات اللوجستيّة كافّة في المنازل (لا كهرباء ولا إنترنت)”. وتدقّ الطويل ناقوس الخطر حيال تدهور مستوى التعليم، قائلة “إنّنا قادمون على كارثة تطيح بجيل كامل، إذا استمرّ المسؤولون في إهمال القطاع التربوي”.

المدارس الرسمية غير مهيئة لاستيعاب النزوح من التعليم الخاص، على مستويات القدرة الاستيعابية وغياب التجهيزات للتلاميذ ذوي الصعوبات التعلميّة أو أصحاب الإرادات الصلبة، أو للكادر التعليمي

ويقول رئيس مصلحة التعليم الخاص بوزارة التربية عماد الأشقر إن “كادر الإدارة المختصة في المدارس الرسمية (الحكومية) يعمل على موضوع القدرة الاستيعابية للطلاب، الذين سينتقلون (من التعليم الخاص) إلى التعليم الرسمي (شبه مجاني بنفقات رمزية)”.

وحول القدرة الاستيعابية للمدارس الحكومية، يرد الأشقر بأن “الموضوع جغرافي بامتياز، هناك مناطق قدرتها الاستيعابية كاملة، وأخرى وسط، ومناطق غير قادرة على الاستقبال”.

ويعاني لبنان أسوأ أزمة اقتصادية منذ انتهاء الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، ما فجر منذ 17 أكتوبر 2019، احتجاجات شعبية غير مسبوقة ترفع مطالب سياسية واقتصادية. ويقدر الأشقر أن ينتقل ما بين 100 و150 ألف طالب من مدارس خاصة إلى حكومية، وفق مديرين ومراقبين.

وتقول مديرة مدرسة لبنانية خاصة إن الإقبال على التسجيل، توضح أن “التسجيل حتى الآن صفر في المئة، ونحن بالفعل أمام خطر، ونستنجد بوزارة التربية”.

وترى أن “المدارس الرسمية غير مهيئة لاستيعاب النزوح من التعليم الخاص، على مستويات القدرة الاستيعابية وغياب التجهيزات للتلاميذ ذوي الصعوبات التعلميّة أو أصحاب الإرادات الصلبة، أو للكادر التعليمي”.

تقول مديرة إحدى المدارس الكاثوليكية في العاصمة بيروت إن “الكادر التعليمي وضع سيناريوهات عدة للعام الدراسي الذي يبدأ في سبتمبر”. وكأن اللبناني لا تكفيه الأزمات المعيشية التي أثقلت كاهله، لتأتي أزمة التعليم مهددة مستقبل أولاده.

العرب