حينما غادر الرئيس الأميركي دونالد ترمب منصبه في 20 يناير (كانون الثاني) تنفس الصعداء كثيرون من المهتمين بوضع العلاقات المدنية – العسكرية في الولايات المتحدة. لم يكن يجدر بهم أن يفعلوا ذلك. صحيح أن ترمب استخدم العسكريين مصدراً للدعم السياسي، فأشار إلى بعض قياداته كـ”جنرالاتي أنا” وواجه البنتاغون (وزارة الدفاع) لأنه تباطأ في تنفيذ محاولاته سحب القوات من ميادين القتال حول العالم. في المقابل، لم تبدأ مع ترمب تلك المشاكل العميقة في العلاقة بين ضباط القوات المسلحة والمسؤولين المنتخبين، وكذلك فإنها لم تنتهِ حين باشر جو بايدن مهامه رئيساً للبلاد.
في ذلك الصدد، تضرب السيطرة المدنية على العسكريين جذورها في عمق دستور الولايات المتحدة، الذي يعتبر أن القوات المسلحة مسؤولة أمام الرئيس والهيئة التشريعية [البرلمان]. وبدءاً من عام 1947، بنى الكونغرس مؤسسات قوية صُمّمت بهدف الحفاظ على تلك العلاقة. في المقابل، تدهورت سيطرة المدنيين بصمت لكن بوتيرة ثابتة، على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة. وربما لا يزال كبار الضباط يتّبعون الأوامر ويتجنبون العصيان العلني، لكن نفوذهم قد تنامى، فيما تعثّرت آليات الرقابة والمساءلة أيضاً. وحاضراً، يشعر الرؤساء بالقلق حيال المعارضة العسكرية لسياساتهم، إذ يتوجّب عليهم أن يحسبوا حساباً للمؤسسة التي تطبق في شكل انتقائي ما يصدر إليها من توجيهات تنفيذية [بمعنى أنها صادرة عن السلطة التنفيذية التي يقودها الرئيس]. وغالباً ما يعمل القادة العسكريون غير المنتخبين على تحديد خيارات المدنيين أو تصميمها بحيث يتمكن الجنرالات من إدارة الحروب وفق ما يرونه مناسباً.
وبالتالي، لا تتصل السيطرة المدنية بمجرد تحدي القادة العسكريين الأوامر علانية أو رغبتهم في إطاحة الحكومة. بالأحرى، إنها تتعلق أيضاً بمدى قدرة القادة السياسيين على بلوغ الأهداف التي انتخبهم الشعب الأميركي كي يحققوها. وفي ذلك الصدد، ليست السيطرة المدنية ثنائية [بمعنى أنها إما تكون موجودة كسيطرة كلية وإما تنعدم تماماً]، بل تقاس بالدرجات. ومع الأخذ في الاعتبار أن العسكريين يغربلون المعلومات التي يحتاج إليها المدنيون وينفذون الأوامر التي يُصدرها المدنيون، فبوسعهم ممارسة تأثير كبير في صناعة القرار المدني. وحتى لو بقيت الكلمة الأخيرة في أيدي المسؤولين المنتخبين، إلا أنهم يتمتعون بقليل من السيطرة العملية على الأمور طالما تولى الجنرالات إملاء الخيارات كافة أو إبطاء عملية تنفيذها، على غرار ما يفعلون هذه الأيام في غالب الأحيان.
واستطراداً، تشكل عملية إعادة ضبط هذه العلاقة المتصدعة مهمة شاقة. إذ تتطلب أن يتابع الكونغرس دوره الرقابي متابعة حثيثة، ويُخضع العسكريين للمساءلة، بغض النظر عمّن يقطن في البيت الأبيض. وتتطلب أيضاً أن يوظف وزراء الدفاع كوادر مدنية تتمتع بالمهارة مؤلفة من أشخاص يُعيّنون لأسباب سياسية إلى جانب موظفي خدمة مدنية. في المقابل، يكمن الأمر الأكثر أهمية في أن عملية إعادة ضبط تلك العلاقة تحتاج إلى جمهور منتبه ومستعد أن يحاسب العسكريين والقادة المدنيين على حد واحد وسواء.
الفردوس المفقود
ليس من الصعب إيجاد أدلة تشير إلى تراجع السيطرة المدنية على العسكريين. وعلى امتداد العقود القليلة الماضية، أحبط كبار القادة العسكريين بانتظام قرارات رئاسية حول السياسة العسكرية أو أخَّروا تطبيقها. على تلك الشاكلة، ساعد كولن باول في 1993، حينما تولى رئاسة هيئة الأركان المشتركة، على منع الرئيس بيل كلينتون من إنهاء السياسة التي حَظرت على المثليين الالتحاق بالقوات المسلحة، الأمر الذي أدى الى حل وسط، بات غير موجود حالياً، تَمثَّل آنذاك بعبارة “لا تسأل، لا تُخبِرْ”. وكذلك اشتكى الرئيسان باراك أوباما وترمب حصار الضباط لهما عبر تقليص الخيارات العسكرية المتاحة وتسريب معلومات، وأجبروهما أيضاً على قبول زيادة في عدد القوات مع أنهما لم يكونا يؤيدان ذلك.
وتذكيراً، لقد أشار جنرالات أوباما إلى أنهم لن يقبلوا بأقل من اتخاذ الإجراءات اللازمة بهدف مكافحة التمرد في أفغانستان مكافحة شرسة، على الرغم من معارضة البيت الأبيض ذلك. وفي وقت لاحق، أقال أوباما الجنرال ستانلي ماكريستال من منصبه كقائد للقوات الأميركية في أفغانستان أثناء تلك الفترة، بعدما استخفّ أعضاء في هيئة الأركان العامة بمسؤولي البيت الأبيض في سياق تصريحات أدلوا بها إلى مراسل صحافي. في سياق موازٍ، رأى ترمب أن كبار القادة العسكريين يقاومون أوامره بسحب القوات من أفغانستان وسوريا. وعلى الرغم من أن تلك الإجراءات كانت وعوداً مهمة تُعتبر علامات مميزة في حملته الانتخابية، فقد اضطر ترمب إلى التراجع عنها في النهاية حينما أبلغه القادة العسكريون أنهم غير قادرين على تنفيذها، وأنها سياسات من شأنها أن تلحق الأذى بالأمن القومي.
وبالطبع، لا ينال القادة العسكريون كل ما يريدونه على الدوام، غير أنهم غالباً ما يحصلون على أكثر مما يستحقون. ويتّسع نطاق صلاحياتهم كي يشمل نطاقاً أوسع من تلك القرارات التي تتصدر عناوين الصحف وتكون متعلقة بنشر القوات خارج البلاد أو تقليص عديدها. ويتجلى نفوذ العسكريين مئات المرات يومياً من خلال المناورات البيروقراطية داخل وزارة الدفاع الأميركية، والمناقشات المتعلقة بالسياسات في البيت الأبيض وأيضاً الإدلاء بشهاداتهم في مبنى الـ”كابيتول هيل” [مقر الكونغرس]. وربما أكثر من أي شيء آخر، تتولّى تلك التفاعلات العادية الرتيبة، توجيه عملية صنع القرارات بعيداً عن المدنيين في مكتب وزير الدفاع، بل تدفع بها نحو أصحاب البزّات العسكرية. ومثلاً، غالباً ما يستبق القادة العسكريون في البنتاغون التحليل والنصيحة التي تقدمها الكوادر المدنية، عبر إرسال مقترحاتهم مباشرة إلى وزير الدفاع، متجاوزين العملية المعقدة التي تقضي بإجازة عرضها، والتي يجب أن يتدبر الموظفون المدنيون أمرها.
اقرأ المزيد
بايدن يعلن فريقه: أميركا جاهزة لقيادة العالم من جديد
تحدي الانتخابات الأميركية: انهيار الإمبراطورية أم صعود الجمهورية؟
صدام الأحلام الإمبراطورية
هل سينظر المؤرخون إلى غزوة الكابيتول مثل نظرتهم لاقتحام الباستيل في فرنسا؟
الحزب الجمهوري الأميركي اتجه إلى الفاشية وصار التهديد الأخطر في العالم
معركة ترمب – تشيني لم تنته… فكيف ستنعكس على الحزب الجمهوري؟
الحزب الجمهوري أظهر للتو وجهه الحقيقي وبشاعته تفوق تصوراتنا
وإلى جانب ذلك، توجد إشارات تدل على تآكل السيطرة المدنية خارج البنتاغون أيضاً. ونادراً ما يطالب الكونغرس أيضاً بأن ينحني العسكريون أمام السلطة المدنية التي تعمل بدلاً من ذلك على إلقاء ثقلها بشكل انتقائي ولأسباب حزبية. ومثلاً، اقترح بعض المعلقين إضافة إلى عضو واحد في الكونغرس في الأقل، في أيام إدارة أوباما، وجوب استقالة مارتن ديمبسي الذي تولى آنذاك رئاسة هيئة الأركان المشتركة، وذلك احتجاجاً منهم على طريقة تعامل الرئيس مع الحملة الرامية إلى دحر تنظيم “الدولة الإسلامية” المعروف أيضاً بـ”آي أس آي أس” [الدولة الإسلامية في العراق وسوريا]. وحينذاك، تمثّل الهدف من تلك المطالبة في استعمال دور ديمبسي بوصفه كبير مستشاري الرئيس العسكريين، كوسيلة للتأثير في معركة حزبية حول سياسة أوباما الخارجية. وفي عهد ترمب، هلّل عدد من الديمقراطيين لجنرالات متقاعدين ومن لا يزالون على رأس عملهم، ممن رفضوا الانصياع إلى قرارات الرئيس. وتضم صفوف أولئك الرافضين الذين تصرفوا بحكمة كأنهم “البالغون الوحيدون بين مجموعة من الأشخاص غير الناضجين”، جيمس ماتيس (وزير الدفاع) ، وجون كيللي (وزير الأمن الداخلي ثم رئيس موظفي البيت الأبيض)، وأتش آر ماكماستر (مستشار ترمب للأمن القومي). وفي حالة قصوى، حثّ بعض معارضي ترمب كبار القادة العسكريين على التفكير في إزاحة الرئيس من منصبه. وفي أغسطس (آب) 2020، كتب جون ناغل وبول ينغلينغ، وهما من جنرالات الجيش المتقاعدين المعروفين جيداً، رسالة مفتوحة إلى مارك ميللي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، يطلبان منه فيها أن يخلع الرئيس إذا رفض أن يغادر منصبه بعد خسارته انتخابات 2020. وعلى الرغم من أن تلك الجهود ربما طمأنت من يشعرون بالقلق بشأن سياسات ترمب التي تعاني الفوضوية والغرابة، فإنها قوّضت السيطرة المدنية من خلال اقتراح أن مهمة العسكريين تتمثل في إبقاء السلطة التنفيذية تحت السيطرة. وحينما يؤيد السياسيون التمرد العسكري الذي يصبّ في مصلحتهم، فإنهم يلحقون الأذى الطويل الأمد بمبدأ الأسبقية المدنية.
ولقد أصبحت الرقابة ذاتها مُسيَّسة أيضاً. فبشكل متزايد، يستعين السياسيون بمن لديهم خبرة عسكرية كي يديروا البنتاغون. هكذا، قرّر ترمب تعيين الجنرال المتقاعد ماتيس، وزيراً للدفاع، وفعل بايدن الشيء نفسه حين أسند المنصب نفسه إلى لويد أوستن. وفي الحالتين كلتيهما، توجّب على الكونغرس أن يتنازل عن شرط تقاعد الضباط مدة سبع سنوات في الأقل، قبل السماح لهم بالإمساك بأرفع منصب في الوزارة. وتذكيراً، لقد صُممت تلك القاعدة [التقاعد سبع سنوات] التي جرى تجاوزها مرة وحيدة فيما مضى، من أجل إعطاء الأولوية [للفوز بمنصب وزير الدفاع] للضباط الذين تفصلهم مسافة أبعد عن العقلية والشبكات الاجتماعية المرتبطة بالخدمة العسكرية. وفي الصورة المثالية، ينبغي أن يقدر وزراء الدفاع على العمل بارتياح كمدنيين، لا كجنود. وبالتالي، فقد مَثَّل ترشيح ماتيس وأوستن قطيعة مع تقاليد وقوانين طُبّقَتْ لأكثر من سبعة عقود. إذ بدأت مع إصلاحات عام 1947 التي نصَّتْ على أن وزير الدفاع لا يمكن أن يكون جنرالاً تقاعد قبل فترة قصيرة.
واستكمالاً، لا يوجد سبب واضح يدعو إلى الاعتقاد بأن أولئك الذين يتمتعون بخبرة عسكرية يكونون أكثر ملاءمة للسيطرة على القوات المسلحة بالنيابة عن الكونغرس أو الرئيس، فيما يوجد عدد من الأسباب للاشتباه في عكس ذلك. إذ يتعلم الجنود في الخدمة العسكرية اتباع الأوامر، وليس التدقيق والتمحيص في مضامينها وأبعادها، وفق ما يجدر بمسؤول في مجلس الوزراء أن يفعل. علاوة على ذلك، يجري تعليم العسكريين، بشكل مثالي، أن ينأوا بأنفسهم عن الجدال الحزبي، بينما يتطلب عمل الوزير أن يتمتع بخبرة ومهارة حزبية جيدتين. ومع ذلك، ووفق ما يُظهر تعيين ماتيس وأوستن، تتحول الخدمة العسكرية في الوقت الحاضر، اختباراً حاسماً في الحصول على وظائف تتصل بسياسة وزارة الدفاع التي تولاها مدنيون بشكل تقليدي، حتى في الأوقات التي تكون أهميتها أدنى [بالمقارنة مع أوقات أخرى].
في تلك الأثناء، فشل الجمهور في الإصرار على أن يتولى القادة المنتخبون محاسبة العسكريين. إذ يفضل عدد من الأميركيين أن يضعوا العسكريين على قاعدة حجرية كالتي تقف عليها التماثيل، ويتأملوهم من بعيد. وأصبح ترديد شعار “ادعموا قواتنا” بديلاً عن أداء الواجب الوطني الذي يقضي بمساءلة المؤسسة التي تخدمها تلك القوات. وحاضراً، تُبدي أعداد كبيرة من المواطنين تردداً حتى في مجرد الإفصاح عن آرائهم أثناء إعطائهم ردوداً على أسئلة الاستبيانات عن القوات المسلحة، وأكثر من ذلك بكثير حينما يتعلق الأمر بانتقاد القادة العسكريين. وفي استطلاع أجرته مؤسسة “يو غوف” عام 2013، اختار في شكل منتظم ما يتراوح بين 25 و30% من المشاركين المدنيين الذين لم يخدموا في القوات المسلحة، الإجابة بـ”لا أعرف” أو “لا رأي لديَّ”، كرد على أسئلة تتعلق بالعسكريين.
وفي أفضل الأحوال، تُحصِّن تلك الإجابات القوات المسلحة من الخضوع للتدقيق، وكذلك فإنها تمنح في أسوأ الأحوال، تصريحاً لها [القوات المسلحة] كي تتصرف بلا مبالاة كمن يعرف أن العقاب لن يطاوله. وجسّد مؤتمر صحافي عقد في البيت الأبيض عام 2017 تلك الميزة الاستثنائية. فخلال مناقشة اتصال أجراه ترمب مع أرملة جندي قتيل بغرض تعزيتها، رفض كيلي الذي خدم في القوات المسلحة ما يزيد على أربعة عقود ولقي ابنه مصرعه في حرب أفغانستان، السماح للصحافيين الذين لم يعرفوا شخصاً فقد أحد أفراد عائلته في القتال، بطرح أسئلة. وكذلك ألقت سارة هكابي ساندرز التي شغلت منصب السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض حينذاك، اللوم على صحافيين نظراً إلى أنهم تجرأوا على التشكيك بالجنرال كيلي [إذ اتُّهِمَ بمجافاة الحقيقة أثناء حديثه عن النائبة الديمقراطية فيديركا ويلسون]. وأوردت هكابي ساندرز أن الجدال مع “جنرال من مشاة البحرية من فئة أربعة نجوم” يشكّل أمراً “غير مناسب على الإطلاق”.
قصة المنشأ
من المستطاع رد أسباب التدهور في العلاقات المدنية – العسكرية في جزء منها إلى التغييرات المؤسّساتية. ففيما تحولت الولايات المتحدة إلى قوة عالمية، طوّر القادة المنتخبون بنية بيروقراطية تتولى إدارة القوات المسلحة على أساس يومي. وحين بات من الواضح في بداية “الحرب الباردة” أن مؤسسة الدفاع الأميركية قد أصبحت أكبر من أن يستطيع الرئيس أو المشرعون السيطرة عليها بأنفسهم، أقرّ الكونغرس “قانون الأمن القومي” عام 1947. ولقد أسّس ذلك القانون الكيان الذي سيصبح في نهاية الأمر وزارة الدفاع، ووضع على رأسها وزير دفاع مدني، من شأنه أن يغنيها بالخبرة في إدارة السياسات البيروقراطية والمحلية. سيتولى ذلك الشخص الوظيفة الحصرية المتمثلة في ضمان أن تكون النشاطات العسكرية متوائمة مع أهداف الأمة التي يحددها القادة السياسيون المنتخبون. ومنح الكونغرس الوزير كوادر مدنية مؤلفة من أفراد يمكنهم أن يستفيدوا من خبراتهم في الحكومة والأعمال التجارية والميدان الأكاديمي.
وفي 1986، أبطل الكونغرس من دون قصد أشياء كثيرة في ذلك القانون. ففي ذلك العام، أجرى الكونغرس إصلاحاً واسعاً في قانون 1947، عبر إقرار “قانون غولدووتر– نيكولاس لإعادة تنظيم وزارة الدفاع” الذي جرّد القادة المدنيين من سلطات وموارد كثيرة كي يعطيها إلى نظرائهم العسكريين. ومنذ إقرار ذلك القانون، حلّت كوادر عسكرية كبيرة تملك موارد جيدة، بديلاً من المدنيين في وزارة الدفاع وبقية القطاعات الحكومية. ومثلاً، يعتمد السفراء وغيرهم من المسؤولين المدنيين في أحيان كثيرة حاضراً، على القيادات المقاتلة الإقليمية التابعة للقوات المسلحة من أجل تزويدهم بالموارد التي تلزمهم في أداء وظائفهم، بما في ذلك الطائرات والدعم اللوجيستي. وتتحمل القيادات المقاتلة الإقليمية أيضاً مسؤوليات تتجاوز الحدود الوطنية، ما يخولهم صلاحيات دبلوماسية فعلية بحكم الأمر الواقع، ويتيح لهم أيضاً إجراء اتصالات متكررة لا تقتصر على نظرائهم العسكريين في الخارج، بل تشمل قادة الحكومات الأجنبية. وبالتالي، تزايدت أعداد المسؤولين العسكريين ممن يديرون برامج المساعدة والتعاون الأمني وتنامى نفوذهم، ما أسهم في تعزيز عملية تهميش نظرائهم المدنيين في وزارة الخارجية.
السيطرة المدنية على العسكريين عميقة الجذور في دستور الولايات المتحدة.
وعلى نحوٍ مماثل، بات من الحقائق البديهية في نسيج الأمن القومي أن يعاني الدبلوماسيون نقصاً في التمويل، بالمقارنة مع العسكريين. ووصل الأمر إلى حد أن حذّر وزراء دفاع سابقون تشمل صفوفهم ماتيس وروبرت غيتس، الكونغرس من مخاطر نقص تمويل وزارة الخارجية. في المقابل، لم يفعل أحدٌ شيئاً على الإطلاق حيال ذلك. ومن دون إجراء محاولة جادة في إعادة التوازن، فلن تؤدي الأفضلية التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية في الكوادر والموارد، إلا إلى زيادة تقويض السيطرة المدنية، ما سيوفر للعسكريين مزيداً من السرعة والقدرة اللتين يمكنهم الاستفادة منهما أثناء المعارك البيروقراطية بشأن وضع السياسات وتطبيقها.
وفي الوقت نفسه، أُفرِغَتْ عمليات السيطرة المدنية ضمن وزارة الدفاع نفسها، من محتواها. وفي السنوات الأخيرة، واجه البنتاغون صعوبات جمة في تجنيد موظفين مدنيين مسؤولين عن الرقابة على العسكريين النظاميين، وكذلك الحال بالنسبة إلى الاحتفاظ بهؤلاء الموظفين وإدارتهم. وتعود تلك التحديات إلى شح الاستثمارات في أماكن العمل المدنية. وفي ذلك السياق، لا يتوفر سوى قليل من التدريب الممنهج الموجّه إلى إعداد مسؤولين مدنيين من أجل أداء مهامهم، بل غالباً ما يُزج بهم في أعماق البنتاغون ويُتْرَكون حتى يغرقوا أو يسبحوا. وعلى العكس من ذلك، يستطيع من يخدمون في القوات المسلحة، الاستفادة من برامج التعليم العسكري المهنية الشاملة، إضافة إلى فرص التطوير الأخرى، طوال حياتهم المدنية.
ومع حلول 2018، تدهور ذلك الوضع إلى درجة استنتجت فيها “لجنة استراتيجية الدفاع الوطني”، المؤلفة من أعضاء في الحزبين [الجمهوري والديمقراطي] التي عينها الكونغرس، أن الافتقار إلى أصوات مدنية تسهم في صنع القرار المتعلق بالأمن القومي، عمل على “تقويض مفهوم السيطرة المدنية”. وكذلك من المؤكد أن تلك المشاكل صارت أكثر حدّة خلال إدارة ترمب، حين بات البنتاغون يعجّ بمسؤولين مدنيين غير ثابتين يعملون بالنيابة وفي وظائف شاغرة. في المقابل، لقد تقلص الحضور المدني هناك [في البنتاغون] قبل تسلم ترمب زمام السلطة بوقت طويل.
ممارسة السياسة
أدى الاستقطاب الحزبي إلى تقويض السيطرة المدنية، إذ ارتفع معدل التقدير الذي يحظى به العسكريون مِنْ قِبَل الجمهور إلى مستويات عالية في أعقاب ضربات 11/9، ولاحظ السياسيون ذلك. وبات القياديون المُنتَخَبون مستعدين بشكل متزايد أن يتجاهلوا المعايير المدنية – العسكرية، ويتجنبوا الرقابة الجادة والمُساءلة، ويشجعوا تمنّع العسكريين عن الخضوع [للسيطرة المدنية]، كي يسجّلوا [المُنتَخَبون] نقاطاً سياسية ضد خصومهم السياسيين.
وحاضراً، يحاول السياسيون في الحزبين الرئيسين الاستفادة من هيبة العسكريين كي يحموا أنفسهم من النقد وهجمات منافسيهم. ويشكّل ذلك غالباً استراتيجية مجانية، نظراً إلى الشعبية التي يحظى بها العسكريون. وغالباً ما يزعم المرشحون في إطار الحملات الانتخابية أن القوات تفضلهم على خصومهم. في ذلك السياق، حمل أحد إعلانات ترمب في [الانتخابات الرئاسية] 2020 شعار “ادعموا قواتنا”، فيما استشهد بايدن باستطلاع للرأي في صحيفة “الأزمنة العسكرية” يظهر أنه هو الذي يحظى بدعم العسكريين. وعلى الدوام، يسعى المرشحون إلى كسب تأييد الجنرالات المتقاعدين بل يستخدمونهم رأس حربة في الهجوم على خصومهم السياسيين. على تلك الشاكلة، عمد مايكل فلين خلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في 2016، وهو مستشار ترمب الذي كان في ذلك الحين قد قضى مجرد سنتين خارج الخدمة، إلى انتقاد هيلاري كلينتون مُنافِسَة ترمب، وشجّع الحشد على ترديد هتاف “احبسها”. وفي أكثر من مرّة، ألقى ترمب إبّان ولايته الرئاسية خطابات لها طابع حزبي قوي أمام جمهور من عسكريين نظاميين يرتدون زيّهم الرسمي. وذات مرّة، خاطب ضباطاً في “قاعدة ماكديل الجوية”، مشيراً إلى أنه “لقد أجرينا انتخابات رائعة، أليس كذلك؟ ورأيت تلك الأرقام، وأنتم مثلي وأنا مثلكم، وأنتم تحبونني، وأنا أحبكم”. ومنذ فترة، يحاول بعض قدامى المحاربين في زمن ما بعد هجمات 9/11 ممن يرشحون أنفسهم لاحتلال منصب ما، الاستعانة بتفاصيل مستمدة من تجربتهم تلك، من أجل بث الفرقة بين من أدّوا الخدمة العسكرية، ومن لم يؤدوها، مستندين إلى مقاطع فيديو مغرقة في المبالغة. وفي 2020، أطلق دان كرينشو، عضو في الكونغرس عن الحزب الجمهوري عمل سابقاً من أفراد “نايفي سيل” (قوات العمليات الخاصة التابعة لسلاح البحرية الأميركي)، إعلاناً موضوعه مستوحى من فريق “المنتقمون” الخيالي [المؤلف من الأبطال الخارقين في القصص المصورة الأميركية]، بعنوان “تلقيم تكساس من جديد”، تظهر فيه مروحيات وطائرات مُقاتلة يهبط كرينشو نفسه بالمظلة من إحدى الطائرات.
محطة مترو “بنتاغون سيتي” في واشنطن
محطة مترو “بنتاغون سيتي” في واشنطن (رويترز)
وفي أغلب الأحيان، يجري تجاهل لحظات التسييس الأقل فظاعة على غرار ارتداء الرؤساء سترات “بومبر” الجلدية [شبه سترة طواقم الطائرات القاذفة في الحرب العالمية الثانية] وبدلات الطيران، أثناء إلقائهم خُطباً عامة أمام جمهور عسكري، أو المغامرة بالذهاب إلى “ويست بوينت” بهدف إلقاء كلمات رئيسة في السياسة الخارجية بدلاً من تقديمها في جامعة مدنية. وبالتالي، تعزّز كل تلك المظاهر الاعتقاد بأن الخدمة العسكرية أرفع مقاماً من أنواع الخدمة العامة الأخرى.
وعلى الرغم من أن السياسيين يحاولون الحصول على ميزة انتخابية من خلال سلوك كهذا، فما يفعلونه في الواقع يؤدي إلى تقويض صلاحيتهم هُمْ بالذات في نهاية الأمر. إذ يُعَلِّم السياسيون الجمهور عبر الاحتفاء بالقوات المسلحة أن يتوقع من المسؤولين المنتخبين تقديم تنازلات للقادة العسكريين أو الإذعان لهم، في قرارات مهمة. واستطراداً، تحفز تلك الديناميكية نفسها القادة المدنيين على تشجيع الضباط أن يؤدوا الخدمة العسكرية بحكمة كما لو أنهم البالغون الوحيدون بين مجموعة أشخاص غير ناضجين، وكذلك مقاومة أو معارضة سياسات خصومهم الحزبيين أو الاستقالة احتجاجاً على أمر قانوني صادر عن الرئيس المنتخب. وعلى الرغم من إمكانية وجود مزايا قصيرة المدى في مثل ذلك السلوك (وبافتراض أن القادة العسكريين مصيبون، بالطبع)، يؤدي ذلك الأمر إلى تخريب المبدأ الأوسع الذي يقضي بوجوب أن يتّبِعَ المدنيون السياسات التي جرى انتخابهم كي يتولوا تطبيقها.
وفي سياق مماثل، أدت المؤسسة العسكرية أيضاً دوراً في تدهور السيطرة المدنية. ويرجع أحد أسباب ذلك إلى تآكل أخلاقيات الحياد لدى الأحزاب. وفي حين أن معظم الضباط الكبار لم يتعاطفوا مع أي حزب سياسي قبل عام 1976، صار نحو ثلاثة أرباع أولئك الضباط يفعلون ذلك اليوم، بحسب استبيانات أُجريتْ مع كبار الضباط ممن التحقوا بكليات حربية مختلفة بين عامي 2017 و2020.
وكذلك يشعر عديد من العسكريين العاملين بالارتياح عند طرح تعليقاتهم السياسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي على جمهور واسع. ومن شأن تلك الصراحة أن تجعل وجوه جنود الأجيال السابقة تحمر خجلاً. إن الجنرالات المتقاعدين ممن يتعاطون السياسة، خصوصاً من خلال الإعلان عن تأييد المرشحين أثناء حملاتهم الانتخابية، يعزّزون الانطباع لدى العسكريين النظاميين بأن الانقسامات الحزبية تمزّق القوات المسلحة. وإلى حد بعيد، لقد أخفق القادة العسكريون الكبار في معالجة ذلك السلوك. إذ اكتفوا إما بإشاحة وجوههم عنه وإما اعتبار أنه عائد إلى عدد قليل من التفاح الفاسد. وعلى الرغم من ذلك، يؤدي صمتهم إلى جعل الانتماء الحزبي بين العسكريين أمراً طبيعياً، فيما يخلص أولئك الموجودون في الخدمة العسكرية إلى أنه من المقبول تأييد أحد الأطراف السياسية علناً. وفي ذلك الصدد، وجدت استطلاعات للرأي جرت أخيراً وشملت ضباطاً كباراً أثناء ترؤسهم أعمالهم، أن ثلثهم تقريباً قد لاحظوا أن زملاءهم يقدمون أو يشاركون تعليقات تنمّ عن الاستخفاف بالمسؤولين المنتخبين، عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
في سياق مُشابِه، من شأن من يخدمون في القوات المسلحة أن يجعلوا السيطرة المدنية أكثر صعوبة حين يتصرفون كأنهم أرفع مستوى من نظرائهم المدنيين. وتُظهر البحوث على الدوام أن عديداً من أفراد القوات المسلحة يعتقدون أن القرار الذي اتخذوه بشأن الالتحاق بالخدمة العسكرية النظامية يجعلهم متفوقين من الناحية الأخلاقية على أولئك الأميركيين ممن لم يتخذوا القرار نفسه. ويفيد استقصاء أجراه معهد الأبحاث” نورك” في 2020 بأن ذلك الإحساس بالتفوق يشمل حتى أولئك الأميركيين الذين يقومون بأعمال تنطوي على مخاطر كبيرة. إذ يشعر عسكريون أنهم أرفع أخلاقياً من الأطباء الذين يكافحون الجائحة أو الدبلوماسيين المنهمكين في تأدية مهام شاقة في مناطق تشهد قتالاً. وفي حالات قصوى، يشكّك العسكريون في شرعية المدنيين الذين يمارسون الرقابة عليهم، خصوصاً إذا كانوا يشّكون في أن أولئك القادة لا يشاطرونهم وجهات نظرهم الحزبية.
واستكمالاً لتلك المشهدية، ثمة عامل آخر يسهم في تقويض السلطة المدنية، يتمثّل في تعلّق العسكريين بفكرة مفادها أنهم يجب أن يتمتعوا وحدهم بالسيطرة الحصرية على ما يعتبرونه شؤونهم الخاصة. إذ يؤكد ذلك المفهوم الذي يحظى بتأييد عالم السياسة صاموئيل هانتنغتون، أن العسكريين لديهم الحق في التصدي حين يحاول المدنيون التدخل في قضايا عسكرية. واستناداً إلى وجهة النظر تلك، فإن الاستقلالية تكون حقاً لا امتيازاً. في المقابل، لا تختلف الشؤون العسكرية والمدنية بعضهما عن بعض، وفق ما يوحى به إلى عديد من الضباط. إذ توحي تجارب الدول الأخرى إلى أن النماذج البديلة منطقية تماماً. ومثلاً، في أنحاء أوروبا، تعوَّدَ القادة العسكريون أكثر من نظرائهم في الولايات المتحدة، على رقابة أشد تدخلاً في شؤونهم بكثير [بالمقارنة مع عسكريي أميركا].
سيستفيد السياسيون في الحزبين الرئيسين من وجود رقابة مدنية أفضل.
معالجة هوليوودية
ثمة اتجاهات في الثقافة الأميركية تقدم الدعم لعدد من هذه المشاكل، إذ ينجذب الأميركيون بشكل متزايد إلى القوات المسلحة كأنها صنم يتعبدونه، ويعتقدون أن الوطنيين الحقيقيين يتمثّلون في أولئك الذين يرتدون الزي العسكري. ويثق الجمهور في أميركا بالعسكريين أكثر من أي مؤسسة وطنية أخرى، حسب استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “غالوب”. ويعني ذلك الإعجاب إلى جانب تراجع الثقة بالمنظمات المدنية، أن قطاعات كبيرة من السكان تعتقد أن من يلبسون الزي العسكري يجب أن يديروا القوات المسلحة، بل ربما الدولة نفسها أيضاً.
وبصورة جزئية، تنامى ذلك العشق الذي يخصُّ به الأميركيون العسكريين بأثر من الجهود المبذولة في إخراج المؤسسة العسكرية من مأزق ما بعد فيتنام. وفي 1980، قد أعلن إداورد ماير إبّان ترؤسه آنذاك أركان الجيش، أن قواته “جيش أجوف”. وفي العام نفسه، انتهت عملية تهدف إلى إنقاذ الرهائن الأميركيين في إيران بكارثة، ما أظهر للجمهور مدى استنزاف قواته المسلحة. وبينما حاول الكونغرس تصحيح الوضع من خلال زيادة الإنفاق العسكري، عملت القوات المسلحة بمهارة على إعادة تأهيل صورتها عبر الثقافة الشعبية. وفي ثمانينيات القرن الماضي، تعاون البنتاغون في صناعة أفلام ذات ميزانيات ضخمة كـ”توب غان” (البندقية الأقوى)، ولا يزال مستمراً في هذه الممارسة حتى الوقت الحاضر. إذ ساعدت وزارة الدفاع على إنتاج أفلام الأبطال الخارقين على غرار “كابتن مارفل”. وكذلك تعلمت المؤسسة العسكرية أنها تستطيع التأثير في حبكات القصص وتعزيز تميّز علامتها التجارية، من خلال جعل تعاونها وتوفيرها للمعدات مشروطاً بموافقتها على نصوص الأفلام.
وبالتالي، يعتبر ميل القوات المسلحة إلى التجنيد بكثافة من أبناء فئات فرعية بعينها من المجتمع الأميركي، مشكلة أخرى مؤثرة. ونظراً إلى عدم وجود كثير من الحثِّ على تقديم تضحيات مشتركة أو التعبئة الوطنية خلال حربي أفغانستان والعراق، لم يكن لدى غالبية الجمهور شيئاً يفعله عدا توجيه الشكر إلى القوات على الخدمة التي تؤديها. في غضون ذلك، بذلت القوات المسلحة قصارى جهدها من أجل تكريم الجنود من خلال عروض وطنية تركزت على نُبْل الخدمة العسكرية، وجرى تقديمها بشكل ملفت في المناسبات الجامعية والرياضية الاحترافية. وتالياً، عزّزت تلك الاتجاهات فكرة أن الأفراد الموجودين في الخدمة العسكرية كانوا استثنائيين حقاً، أفضل ومختلفين وأكثر نكراناً للذات من المدنيين الذين هلّلوا لهم.
الإصلاح أو الفناء
بصورة واضحة، أضعفت تلك الضغوط مجتمعة العمليات المؤسّساتية، والممارسات غير الحزبية، والقيم المجتمعية التي خدمت تاريخياً كأداة في حفظ قوة مبادئ السيطرة المدنية على القوات المسلحة، عبر ممارستها [السيطرة] اليومية العادية وغير الجذابة في كثير من الأحيان. في المقابل، من المستطاع إصلاح ذلك الضرر. وتتمتع الإصلاحات المؤسسية بأكبر فرص النجاح. وسيستفيد السياسيون في الحزبين الرئيسين من وجود رقابة مدنية أفضل.
في ذلك الصدد، يستطيع الكونغرس أن يبدأ بإعادة التوازن في وزارة الدفاع، فيجرد “هيئة الأركان المشتركة” والقيادات المقاتلة (مراكز القيادة العسكرية الـ11 المعنية بمسؤوليات جغرافية أو وظيفية محددة) من بعض السلطات كي يعطيها إلى المدنيين في مكتب وزير الدفاع. وكذلك يستطيع المشرعون أن يفعلوا ذلك من خلال مقاومة دعوات تحثُّ على إجراء مزيد من الخفض للقوة العاملة المدنية في البنتاغون، وعبر القضاء على ازدواجية الجهود في “هيئة الأركان المشتركة” والقيادات المقاتلة، التي تشتمل على نحو 40 ألف وظيفة. وسيساعد برنامج موازٍ في تدريب القوة العاملة المدنية والاحتفاظ بها وإعدادها، على تعميق حضور المدنيين وعملهم في البنتاغون.
في سياق متصل، يتوجّب على الكونغرس أيضاً أن يعيد النظر في الجهود المبذولة بهدف إسناد مهمة “التكامل العالمي” للقدرات العسكرية الأميركية إلى رئيس “هيئة الأركان المشتركة”، وتلك مبادرة ترسخت جذورها حينما شغل جوزيف دانفورد ذلك المنصب بين عامي 2015 و2019. وآنذاك، تمثّلت الفكرة في أن “هيئة الأركان المشتركة” يمكنها أن تَبُتَّ في المتطلبات الجغرافية المتنافسة للقوات المسلحة، وتكبح قوة القيادات المقاتلة، وتحدد الأولويات التي تُوَزَّع الموارد على أساسها. في المقابل، فإن المدنيين في مكتب وزير الدفاع، وليس أعضاء الطاقم العسكري الفضفاض، هم أفضل من يؤدي ذلك الدور.
في سياق مماثل، يتوجّب على العسكريين الموجودين في الخدمة أيضاً أن يعالجوا دورهم في تقويض السيطرة المدنية. إذ تكمن السمة المميزة لأي مهنة في قدرتها على فرض معايير السلوك. وعلى الرغم من ذلك، فقد جُهدَت المؤسسة العسكرية في بعض الأوقات، كي تضمن امتناع أعضائها عن ممارسة نشاطات حزبية. ومن أجل معالجة تلك المسألة، ينبغي أن يتنصل الضباط الموجودون على رأس عملهم علناً من كبار الضباط المتقاعدين ممن ألحقوا الأذى بأخلاقيات الحياد في القوات المسلحة، من خلال تأييدهم مرشحين أثناء حملات انتخابية وغيره من أشكال التصريح بمواقف سياسية. وكذلك يتوجّب على الضباط المتقاعدين أيضاً أن يستعينوا بضغط الأقران كي يكبحوا عمليات المصادقة على حملات انتخابية ودعم المرشحين التي ينهض بها بعض زملائهم. وإذا فشل ذلك، يجدر بالكونغرس التفكير في وضع فترة تهدئة قوامها أربع سنوات من شأنها أن تمنع الجنرالات والأميرالات من الإعلان عن تأييدهم حزباً أو مرشحاً حزبياً بصورة مباشرة، في أعقاب تقاعدهم. وبالتالي، سيكون ذلك مشابهاً لما فعله مجلس النواب الأميركي بالنسبة إلى مشاركة الضباط في جهود مجموعات الضغط.
يجب أن يتوقف السياسيون عن نشر خرافة مفادها أن الخدمة في القوات المسلحة تشكّل شرطاً أساسياً في ممارسة الرقابة عليها
أخيراً، ينبغي للقادة العسكريين القيام بعمل أفضل لجهة تثقيف من يؤدون الخدمة العسكرية حول أهمية الحياد الذي يجب أن يحافظوا عليه، بما في ذلك المنشورات على وسائط التواصل الاجتماعي. وسيتطلب هذا وجود لوائح واضحة وتنفيذ متسق. ويجب على القادة أنفسهم إعادة التفكير في وجهات نظرهم حيال الاحتراف العسكري، والتخلي عن فكرة أن لديهم مجالاً حصرياً، واعتناق نهج يقبل أن هناك حاجة إلى الرقابة المدنية.
وثمة حاجة إلى إصلاحات في مجالات أخرى، بما فيها ما يتصل بالقادة المدنيين المنتخبين، إلا أن تحقيقها غير مرجح. يواجه السياسيون اليوم القليل من العواقب بسبب تسييس القوات المسلحة، ولديهم حوافز كبيرة للاستمرار على هذا المنوال. ومع ذلك، يمكن للقادة المنتخبين البدء في التعامل مع هذه المشاكل من خلال وضع حد نهائي لممارسة التماس التأييد من قبل الجنرالات المتقاعدين. كما يمكنهم أيضاً أن يكفوا عن استخدام العسكريين ببزاتهم الرسمية كخلفية لخطابات سياسية حزبية، وأن يتوقفوا عن إطلاق حملات إعلانية تلمح إلى أنهم يتمتعون بدعم عسكري أكثر من خصومهم. ويجدر بالمحاربين القدماء والاحتياطيين الذين في أهبة الاستعداد للالتحاق بالقوات المسلحة أو أعضاء في “الحرس الوطني”، أن يقلعوا عن استعمال خدمتهم سلاحاً لتحقيق مكاسب انتخابية. ومن شأن هذا أن يعني نهاية استغلال الدعم العام للعسكريين عبر حملات إعلانية توحي أن الخدمة العسكرية تجعلهم مواطنين أرفع قدراً.
ويجب أن يتوقف السياسيون أيضاً عن نشر الخرافة القائلة بأن الخدمة في القوات المسلحة هي شرط أساسي لممارسة الرقابة عليها. لا تقلل هذه القناعة فقط من أهمية الدور الذي يلعبه المدنيون، بل هي تُعلي أيضاً رمزياً مكانة العسكريين فوق مكانة رؤسائهم المدنيين في أذهان من هم في الخدمة العسكرية والجمهور أيضاً. إن تحديد فترة انتظار للضابط المتقاعد تستغرق عشر سنوات، أو في الأقل الالتزام بمدة الشرط النافذ حالياً وهي سبع سنوات، يستطيع بعدها أن يخدم كوزير للدفاع، هو خطوة من الضروري اتخاذها. ويتوجب كذلك تقييم مساهمات الخبرة المدنية والاستثمار فيها على جميع المستويات في البنتاغون.
أخيراً، يتوجّب على أولئك الذين يواصلون نشر الخرافات عن القوات المسلحة في الثقافة الشعبية أن يعيدوا التوازن إلى صورهم. فليكن هناك مزيد من “ماش” مسلسل الكوميديا السوداء التلفزيوني الذي بُثَّ في سبعينيات القرن العشرين، وتدور أحداثه حول وحدة طبية تابعة للجيش الأميركي خلال الحرب الكورية، في مقابل خفض عدد الأعمال الفنية عن الجندية القويمة المعتدة بنفسها. ومن شأن ذلك أن يضفي طابعاً إنسانياً على العسكريين، ويقضي على نظرة الجمهور المشوَّهة للقوات المسلحة. واستطراداً، فمن شأن إعادة العسكريين إلى الأرض، وتقريبهم أكثر من المجتمع الذي يخدمونه، أن يساعدا السياسيين في جهودهم الرامية إلى التدقيق في الشؤون العسكرية، إضافة إلى تشجيع الأميركيين على النظر إلى المُساءلة كممارسة صحية في مجتمع ديمقراطي.
وكخلاصة، إذا لم يلاحظ الأميركيون العفن الكامن تحت قشور رؤيتهم المثالية عن السيطرة المدنية، ستتفاقم الأزمة المدنية – العسكرية في الولايات المتحدة، وتزداد سوءاً بكل تأكيد. إذ تعتمد التقاليد الديمقراطية للبلاد والأمن القومي على تلك العلاقة الدقيقة، إلى درجة أعلى مما يدركه معظم المواطنين. ولن تبقى الولايات المتحدة دولة ديمقراطية أو قوة عالمية لفترة طويلة، من دون رقابة مدنية صارمة على القوات المسلحة.
ريسا بروكس
اندبندت عربي