من ساحة للصراعات الدولية والخلافات الإقليمية إلى نقطة التقاء لفرقاء المنطقة ودول العالم، هكذا يبدو المشهد اليوم في عراق ما بعد “داعش”، بعدما كسبت بغداد معركتها نهاية 2017 ضد أشرس قوى ظلامية في العصر الحديث.
وحقق العراق مكاسب نصر دبلوماسية أكملت النصر العسكري، إذ حظيت الدبلوماسية العراقية بالثقة من قبل الشركاء والأصدقاء الدوليين، فلعب دور الوسيط في عدد من القضايا الإقليمية والعالمية، إضافة إلى انفتاح العراق على محيطه العربي والإقليمي والدولي الذي مكَّن من احتضان بلاد الرافدين مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، الذي عقد في العاصمة العراقية نهاية الشهر الماضي، بحضور دبلوماسي رفيع لم تشهده البلاد منذ عقود طويلة، إذ حقق المؤتمر لقاءات ثنائية، أبرزها اللقاء القطري ـ الإماراتي والقطري ـ المصري بعد قطيعة دامت سنوات، إضافة إلى جمعه خصوم المنطقة في مدينة واحدة وتحت سقف واحد.
ملتقى لحل مشكلات المنطقة والتهدئة
وقال مشرق عباس، المستشار السياسي لرئيس مجلس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في حوار متلفز، “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة نتاج فلسفة الحكومة الحالية القائمة على أن العراق يجب أن يبني علاقات متوازنة متعاونة متضامنة مع الجميع، وأن يكون ملتقى لحل مشكلات المنطقة والتهدئة، وليس ساحة للصراعات وتبادل الأدوار والنفوذ بين الدول”.
وأضاف، “هناك مبدأ أساسي هو الثقة بالعراق، حكومة الكاظمي لديها ثقة بجوهر العراق وقيمته على المستويين الدولي والإقليمي، والكاظمي يعتقد أن محاولة استثمار الإرث والعمق العراقي مؤثرة وستجني ثمارها عندما يكون القائد يليق بهذا الإرث وبمستواه. الكاظمي يقول دائماً بنينا سياستنا في الداخل والخارج على مبدأ حسن النية”.
وأوضح أن “العراق شهد خلال الأشهر الماضية لقاءات غير معلنة بين دول عدة، والمنطقة تحتاج إلى العراق لتهدئة الصراعات، والعراق يحتاج إلى منطقة هادئة، والعلاقات تفاعلية مع الجميع، والكاظمي وفريقه المختص عملوا على أن يكون العراق نقطة لقاء وتواصل بين الدول المتقاطعة”.
وبحسب عباس، “هناك ستة لقاءات بين دول عدة، وما زلنا نهيئ للقاءات أخرى، فالعراق هو الأخ التقليدي الكبير في هذه المنطقة ذو الوزن التاريخي العميق. الأشقاء من العرب والجيران على حد سواء لديهم رؤية ونظرة بعين كبرى للعراق، لذلك عند محاولة تخفيف الصراعات عبر بغداد، فالبلد يقوم بدوره التقليدي”.
العراق الجديد
بدوره، يرى متحدث “ائتلاف النصر”، عقيل الرديني، أن “الدبلوماسية التي ينتهجها العراق خلال السنوات الماضية هي مخالفة تماماً لما كان ينتهجه النظام الديكتاتوري السابق بالعراق، إذ اعتمد ذلك النظام على القوة والحروب العشوائية التي زج بالشعب العراقي في أتونها، ودفع ثمنها باهظاً من شبابه واقتصاده وإمكاناته الأخرى”.
وشدد على أن “العراق الجديد يختلف ويحاول أن يحافظ على علاقات متوازنة مع جميع الدول، ويحقق من خلال هذه العلاقات مصلحة العراق السياسية والاقتصادية، وهذا دور مهم يلعبه العراق، ونحن نعتقد أن العراق ما زال يحتاج من القوة والحنكة السياسية ليلعب دوراً مهماً في المنطقة، سواء عربياً أو إقليمياً أو دولياً”.
اقرأ المزيد
هل يستطيع العراق الإمساك بأمنه بعد خروج القوات الأميركية؟
الكاظمي في الكويت… تجاوز آثار الماضي والتطلع نحو مستقبل أفضل
الكاظمي يعلن القبض على قتلة هشام الهاشمي
ويقول الرديني، في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، “إمكانات العراق وموارده الطبيعية وموقعه الجغرافي المتميز قد تعطي للعراق دوراً يكون بموجب هذا الدور حلقة الوصل بين المتخاصمين، وما حصل في بغداد من مؤتمرات ولقاءات هو بداية عودة العراق إلى أن يلعب هذا الدور”.
وتابع، “ما زلنا نحتاج إلى استقرار داخلي ورؤيا مشتركة بين السياسيين لإدارة البلاد في المرحلة المقبلة، وهذا يعطي توجهاً ودافعاً أقوى باتجاه أن يجعل العراق لاعباً أساسياً في المنطقة العربية والشرق الأوسط، لكن إذا ما كان هناك اختلاف في التوجهات ووجهات النظر داخلياً فهذا يعيق أو يجعل هنالك عراقيل أمام عودة العراق للعب دور مهم، وهو الدور الإيجابي في المنطقة من خلال التعاون الاقتصادي والتفاهم السياسي وحل كل الخلافات في المنطقة، وجعلها منطقة آمنة خالية من الحروب والتوترات الأمنية، فلم تعد المنطقة تتحمّل أكثر من هذا الوضع”.
وتابع، “هناك مشكلة في سوريا ولبنان، في إيران، في اليمن. توترات بين إيران ومنطقة الخليج، هنالك مشكلة المحاور: المحور الإيراني والمحور الأميركي، كل هذه المشاكل تحتاج إلى وقفة جادة من القادة، وإعادة النظر بكل السياسات الخاطئة، وأن تكون هناك سياسات هادئة وهادفة لاحتواء المنطقة قبل خروج الأوضاع عن السيطرة، وأعتقد أن هذا ما يؤمن به العراق ويعمل من أجله الآن”.
قبول وارتياح على المستويين الشعبي والسياسي
بدوره، يشير سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، رائد فهمي، إلى أن “سياسة الانفتاح على دول الجوار وخلق علاقات متوازنة معها تقوم على المصالح المشتركة واحترام السيادة الوطنية، وتوحيد الجهود لحل النزاعات سلمياً، ومعالجة عناصر وبؤر التوتر في علاقاتها البينية والعمل المشترك لإحلال الأمن والسلام وتطوير اقتصادات المنطقة وتعزيز عملية التنمية فيها- تحظى بقبول وارتياح على المستويين الشعبي والسياسي، وتستجيب لحاجة العراق الماسة، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، لإيجاد بيئة صديقة وداعمة مع الجوار الإقليمي”.
ورأى فهمي في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، “لا أعتقد أن الدبلوماسية العراقية نفسها تعتقد بقدرة الجهد العراقي وحده، مهما كانت كثافته وكفاءته، على أن يخلق السلام ويقدم الحلول للنزاعات في المنطقة. إلا أن الدور العراقي يمكن أن يكون مهدئاً للتوترات القائمة، وميسراً لترميم العلاقات ما بين دول المنطقة المتنازعة، وتوفير قنوات تواصل مضمونة تثق بها أطراف النزاع أو الخلاف، لكن نجاح الجهد الدبلوماسي العراقي يشترط أصلاً توافر النية والرغبة الصادقتين لدى دول المنطقة -لا سيما تلك التي تشهد علاقاتها توتراً وخلافات وانعدام ثقة- في البحث عن حلول سلمية للمشاكل القائمة والانخراط في عملية تفاوضية وحوارية لفك العقد والوصول إلى تسويات مرضية لجميع الأطراف وللمنطقة عموماً”.
ويعتقد فهمي أن “العراق يمتلك حالياً مؤهلات لأن يلعب دوراً فاعلاً ومؤثراً إيجابياً في هذه العملية، بحكم علاقاته الجيدة مع جميع الأطراف الإقليمية والدولية ذات العلاقة. وتأتي في مقدمة المعايير التي يمكن الحكم بموجبها على مدى صفاء نية وجدية أي دولة من دول المنطقة في تنفيذ الوعود والتعهدات والالتزامات بالمواثيق والقرارات التي خرجت بها اللقاءات والمؤتمرات التي ضمت دول الجوار والمنطقة- مواقف وإجراءات دول الجوار العراقي في وضع حد للأعمال والتدخلات التي تمثل تجاوزاً وخرقاً للسيادة العراقية، واحترام المصالح المتبادلة ومبادئ القانون الدولي التي تنظم استخدام وتقاسم الموارد الطبيعية المشتركة، وبشكل خاص المورد المائي”.
مفاهيم جديدة
في حين، أوضح الباحث في الشأن السياسي علي البيدر أن “العراق انتقل من مرحلة الفعل ورد الفعل أو من امتصاص الصدمات إلى المبادرة وتقديم طروحات تتعلق بواقع المنطقة بشكل عام، كونها تؤثر بشكل مباشر في الواقع العراقي”.
وتابع البيدر، في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، “المشاركات التي يمتلكها العراق مع الجميع ممكن أن يتعكز عليها ويخلق مساحة يوجد فيها الجميع وفق المصالح المشتركة والاحترام المتبادل”. مشدداً على أن “قمة بغداد الأخيرة أثبتت مفاهيم جديدة كانت غائبة عن العراق، أو أن البلاد كانت منشغلة في معالجة قضاياها داخلياً من دون الانتباه للخارج، وهي اليوم ترى جذوراً لتلك الأزمات والمشاكل مع الخارج”.
وختم البيدر، “رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي اعتمد على توسيع الأطراف المهتمة بالعراق، وهذا ما ولَّد حالة من التعاطف مع العراق في كل القضايا، كما أن سياسة الكاظمي في الاعتماد على القوى الناعمة من شأنها أن تضعف الأدوار السلبية لقوى إقليمية في البلاد، وهذا يحسب له ويجب أن يساعده الجميع على ذلك”.
اندبندت عربي