بدأت الجولة الجديدة من المفاوضات حول الاتفاق النووي بين دول أوروبية وأميركا من جهة وإيران من جهة أخرى. وكالعادة، ينزوي الوفد الإيراني بعيداً عن مواجهة الوفد الأميركي الذي يجلس في قاعة منفصلة، ويتحرّك الأوروبيون بينهما ناقلين كلّ كلمة أو بادرة لكلّ طرف… لم تسفر المحادثات التي جرت قبل خمسة أشهر عن شيء، سوى تصريحات عامة وأمل بعقد جولة أخرى، وتوقفت منذ أعلنت إيران أنّها انتخبت شخصاً متشدّداً رئيساً جديداً للبلاد؛ إبراهيم رئيسي. ومنذ ذلك التاريخ، وخلال الخمسة أشهر تلك، كانت إيران تصرّح، المرّة بعد المرّة، أنها زادت من نسب تخصيب اليورانيوم، وكانت الوكالة الدولية للطاقة النووية تؤكّد ما تقوله إيران، فيما يبدو استراتيجية تفاوضية لا تُحسن إيران غيرها، وهي إظهار التعنّت، وأحياناً التطرّف إلى أقصى درجة، كإبراز رئيس متشدّد سيقود البلاد أربع سنوات، ما شكّل مقدّمة لتوقف المفاوضات الجارية، وإعادة كلّ شيء إلى نقطة الصفر، ثم إعلانات التخصيب المتكرّرة، وعرض نسبه العالية، والتي تقترب شيئاً فشيئاً من حافّة إنتاج قنبلة نووية… لم يكن التشدّد مقصوراً على الأشهر الخمسة الماضية، فمنذ لحظة انسحاب دونالد ترامب من الاتفاق، وإعادة العقوبات، بدأت إيران بإظهار وجهها المتشدّد، فيما كان ترامب مستسلماً لخطط تشديد العقوبات التي لا يُحسن غيرها، ومن دون أن يكون متأكّداً إن كانت ستجدي نفعاً. بدأت منذ أشهر حملة التحضير الأميركي للمفاوضات، بمحاولة حصار إيران في مجالها “الطبيعي”، فقد تم تقارب كلّ من الأردن والإمارات مع سورية، تحت عناوين بارزة؛ تطويق إيران، بمزاحمتها على أماكن نشاطاتها وتحجيم حضورها الإقليمي، أو وضعه تحت المراقبة. وكانت إيران قد شاركت قبل ذلك في مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة في أواخر أغسطس/ آب، بحضور لافت لفرنسا، إلى جانب دول إقليمية مثل السعودية. ويعتقد الرئيس جو بايدن أنّ هذه السياسة الناعمة بإغراء إيران لحضور مؤتمر كبير من هذا النوع، ومواجهة خصوم إقليميين كالسعودية، أو بتهديد مبطن بالتصالح الخليجي أو الأردني مع سورية على حسابها، يمكن أن يجعل موقف أميركا في المحادثات النووية مثمراً أكثر، فيما تبدي إيران وجهاً واحداً لا يتغير، وهو التشدّد، على الرغم من إظهارها الترحيب بزيارة وزير خارجية الإمارات، عبد الله بن زايد، دمشق، أما الفرصة التي سنحت لها في بغداد بالوجود مع السعودية فقد وصلت، كما هو متوقع، إلى لا شيء. انتهت كل تلك المناورات الجانبية ما إن بدأت الاجتماعات في فيينا، وتبدو بنود العودة إلى الاتفاق بمنتهى البساطة، فالمطلوب الالتزام مجدّداً بالاتفاق السابق وبكامل بنوده مقابل رفع العقوبات. لكنّ إيران، حسب النسخة السياسية الجديدة التي يمثلها رئيسي، تصرّ على أن تُرفع العقوبات عنها قبل أن تباشر عودتها إلى التزامات الاتفاق. وتستهلك فرق التفاوض، وقتاً، بسبب تمسّك كل طرف بأن يكون الآخر هو المبادر، ولتبدو إيران جادّة في حضورها المؤتمر، فقد قدّمت مشاريع مكتوبة سُلمت إلى الوفود الأوروبية لدراستها، لا تختلف في جوهرها عن الهدف المعلن، وهو سعيها المحموم إلى رفع العقوبات فوراً، واستعادة مليارات الدولارات المحتجزة هنا وهناك في بنوك العالم، وقد وصل التضخم في أسواقها إلى أرقام مهولة. الحوار غير المباشر يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، ليس في قاعة المؤتمر فقط، بل في جبهات الإقليم كله، وتبدو أميركا جدّية في تجنيد دولٍ من المنطقة لمساعدتها في هذه المواجهة، كالمناورة في سورية، ويمكن كخطوة إضافية اللجوء إلى خدمات إسرائيل في هذا الملف، وإسرائيل لم تخفِ رغبتها في توقف المفاوضات فوراً، واللجوء إلى لغةٍ مختلفة. وعلى الرغم من أنّ بايدن ما زال يلجأ للقوة الناعمة، لكن يمكن في لحظة الوصول إلى الجدار المسدود، أن تكون خدمات إسرائيل مفيدة ومطلوبة. يبقى أمامه رصد ردود فعل الإقليم إذا حدث شيءٌ من هذا القبيل.
العربي الجديد