مستقبل “حامية التنف العسكرية” في سورية

مستقبل “حامية التنف العسكرية” في سورية

تبقى هذه القاعدة الأميركية النائية أداة منخفضة التكلفة وعالية التأثير نسبيا لمنع صعود “داعش” من جديد، وتقويض النشاط الإيراني العدائي، وممارسة النفوذ على آفاق سورية طويلة الأمد.
* * *
عشية 20 تشرين الأول (أكتوبر)، استهدفت مجموعة من الطائرات المسلحة من دون طيار ورشقات الصواريخ قاعدة عسكرية أميركية صغيرة جنوب سورية. وقد تأسست “حامية التنف العسكرية” في العام 2016 عند تقاطع حدود البلاد مع الأردن والعراق، وهي تضم أكثر من مائة من أفراد الخدمة الأميركية. وتُستخدم القاعدة لمواصلة العمليات ضد “داعش”، وإعاقة أنشطة وكلاء إيران في سورية، وتُعتبر في الوقت نفسه ورقة نفوذ في المفاوضات القائمة منذ فترة طويلة حول مستقبل البلاد. غير أن حالة الحامية ليست مستدامة، ويشدد الهجوم الأخير على السبب الذي يدعو إدارة بايدن إلى رسم مسار لمستقبل الوجود العسكري المحلي لأميركا في القريب.
تاريخ “حامية التنف العسكرية” ومهمتها
قبل العام 2016، كانت المنطقة المحيطة بالحامية خاضعة لسيطرة تنظيم “داعش” قبل تحريرها على يد قوات التحالف. ومنذ ذلك الحين، استخدمتها الولايات المتحدة كقاعدة تدريب لجماعات المعارضة السورية، مع تموضع ما بين 100 إلى 200 من أفراد الخدمة الأميركية فيها في أي وقت معين. وتقع القاعدة على طول واحد من الطرق السريعة الرئيسية بين بغداد ودمشق، ما يعزلها عن عناصر الجيش الأميركي المتواجدة شمال شرق سورية.
وتحيط بالحامية منطقة فض نزاعات بمساحة 55 كيلومترا تشكلت في إطار تفاهم أميركي-روسي في العام 2016. وقد مكنت هذه المنطقة القوات الأميركية والدول الشريكة من تقويض عمليات “داعش” ومنعت دخول القوات المتحالفة مع إيران. كما كان لها أثر ثانوي في استقطاب اللاجئين السوريين إلى مخيم الركبان الذي يبعد بضعة أميال فقط عن القاعدة على الجانب السوري من الحدود. وفي ذروته، كان الركبان ملجأ لأكثر من 50 ألف لاجئ سوري، على الرغم من أن هذا العدد وبحسب التقارير تراجع إلى نحو 10 آلاف على مر السنوات في ظل عودة السكان إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في أعقاب إبرام العديد من الصفقات مع دمشق. وكان وجود عدد كبير من اللاجئين قرب قاعدة أميركية استكشافية قد مارس ضغوطا إضافية على أفراد الخدمة المتمركزين فيها، كما ظهر في 2020 حين سارعت لاجئتان حاملان نحو الحامية لإجراء عملية قيصرية طارئة.
كذلك، يحتضن الركبان أسر فصيل المعارضة الرئيسي في “حامية التنف العسكرية”، “مغاوير الثورة”، وهي جماعة من ضباط عسكريين سوريين سابقين يتحدرون عموما من منطقة دير الزور، استنادًا إلى مشروع قبلي أعده “مركز الأمن الأميركي الجديد”. وتقدر وزارة الخارجية انتشار نحو 300 عنصر من “مغاوير الثورة” حول منطقة فض النزاع المحيطة بالحامية. وكانت القوات الأميركية قد دربت الجماعة منذ ترسيخ وجود لها في القاعدة، وهي تتعاون معها حاليا في مهام مكافحة “داعش” والمهمات الإنسانية. وعلى سبيل المثال، اعترضت “مغاوير الثورة” شحنات تهريب مخدرات في العامين 2018 و2019، كما وفرت الأمن بشكل دوري لعمليات تسليم المساعدات إلى مخيم الركبان. وخلال الشهر الفائت، زعمت أنها اعترضت شحنة تابعة لـ”حزب الله” اللبناني من الكبتاغون كانت متجهة إلى الأردن ودول الخليج.
ولم يكن اعتداء 20 تشرين الأول (أكتوبر) الاعتداء الأول الذي تتعرض له القوات الأميركية في “حامية التنف العسكرية”. ففي 2016، ضربت طائرة روسية القاعدة مرتين –مرة باستخدام الذخائر العنقودية ومجددا بعد تحذير أميركي بوجود أفراد خدمة من التحالف في المكان. وقد لقي 4 مقاتلين من المعارضة السورية حتفهم. وفي نيسان (أبريل) 2017، هاجم عملاء “داعش” الجنود الأميركيين بعد أن ادعوا أنهم من الثوار المدعومين من الولايات المتحدة. وبعد أسابيع قليلة فقط، أطلقت ميليشيا مدعومة من إيران طائرة مسيرة محملة بقذيفة على الحامية.
وفي ذلك الوقت تقريبا، بدأ عناصر ينفذون عمليات برية متحالفون مع إيران يستكشفون منطقة فض النزاع. وبين أيار (مايو) وحزيران (يونيو) 2017، تصدّت القوات التابعة للولايات المتحدة والتحالف لقوة “مؤيدة للنظام” تضمّ نحو 60 جنديًا كما نفذت ضربات ضد قوات مشابهة أخرى دخلت المنطقة. وبحلول فصل الصيف من ذلك العام، عزّزت الولايات المتحدة وجودها من خلال “نظام راجمة الصواريخ المدفعية عالية التنقل”. وفي شباط (فبراير) 2020، زعمت “مغاوير الثورة” أنها تصدت لقوة من العناصر المتحالفة مع إيران بينما كانت تحاول دخول المنطقة، وفق تقرير نشرته “ميليتيري تايمز”.
مستقبل “حامية التنف العسكرية”
كما شرح الكولونيل دانييل ماغرودير جونيور من القوات الجوية الأميركية في تقرير صادر عن “مؤسسة بروكينغز” في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، فإن الوجود العسكري في “حامية التنف العسكرية” يدعم ثلاثة أهداف للسياسة الأميركية في المنطقة: (1) مواصلة الحملة ضد “داعش”، و(2) تقويض الأنشطة المدعومة من إيران على طول “الجسر البري” من إيران إلى لبنان، و(3) التمتع بنفوذ في المفاوضات المتعلقة بمستقبل سورية. وغالبًا ما ينفر المسؤولون العسكريون الأميركيون من الإقرار علنًا بالهدفين الثاني والثالث نظرًا إلى المخاوف حيال التبرير القانوني للوجود الأميركي في سورية.
خلال فعالية نظمها “معهد الشرق الأوسط” في تموز (يوليو) 2020، أشار قائد “القيادة المركزية الأميركية” الجنرال كينيث ماكنزي جونيور إلى أن “الهدف الرئيسي من تواجدنا في سورية هو تنفيذ عمليات ضد (داعش)”. غير أن سلفه الجنرال جوزف فوتيل ألمح إلى أهداف أشمل عند شهادته أمام الكونغرس في العام 2018: “تتمتع حامية التنف العسكرية بالقيمة المشتقة من كونها موجودة ضمن خط رئيسي للوصول والاتصال ترغب إيران ووكلاؤها في استغلاله… لذلك، في حين أن هذه ليست مهمتنا، إلا أننا ندرك الأثر غير المباشر الذي نتركه”.
وفضلًا عن تقويض خط الاتصالات البري الذي يجمع إيران مع “حزب الله” والنظام السوري، أثبت الوجود الأميركي في “حامية التنف العسكرية” أنه مفيد لـ”حملة إسرائيل بين الحروب”، التي تردد أنها شملت عشرات المهام الجوية ضد أهداف في سورية. وقد استهدفت بعض هذه العمليات قواعد سورية حيث كان “الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني و/أو وكلاؤه من الميلشيات يوسعون رقعة وجودهم. في الماضي، كانت هذه المهام تنفذ من خلال التحليق فوق لبنان، غير أن عاملين جعلا منطقة فض النزاع قرب الحامية المسار الأقل خطورة والأكثر جاذبية بالنسبة لإسرائيل: تركيز أنظمة الدفاع الجوي المزعوم غرب سورية وحول دمشق، والمخاوف الإسرائيلية المتنامية حيال تزويد إيران وكلاءها بقدرات أكثر تقدما. وتمكن طريق الهجوم عبر “حامية التنف العسكرية” القوات الإسرائيلية من تجنب أنظمة الرادار السورية للإنذار المبكر الموجهة نحو الغرب/ الجنوب الغربي. ومن غير الواضح ما إذا كانت دمشق ستنشر أنظمة الدفاع الجوي في المنطقة المحيطة بالحامية في حال فراغها من القوات الأميركية.
يُذكر أن الحامية خدمت المصالح الأردنية أيضا. فقد ساعد الجنود الأميركيون وشركاؤهم من “مغاوير الثورة” على ضمان أمن حدود المملكة البعيدة مع العراق وسورية ضد عمليات التهريب والتسلل المحتمل لعناصر “داعش” أو الميليشيات الإيرانية. وعلى الرغم من أن الأردن حذر من تهديد إرهابي يطرحه مخيم الركبان، إلا أن واشنطن ساعدت على تقليص هذا الخطر من خلال إقامة حواجز ودعم أفراد الأمن المدربين على يد الولايات المتحدة الذين يسيرون دوريات على الجانب السوري من الحدود.
الخاتمة
تشير التقارير الصادرة مؤخرا إلى أن إدارة بايدن أنجزت مراجعتها لسياسة الولايات المتحدة إزاء سورية وستركز على مواصلة العمليات لدحر مجموعة “داعش” وتقديم المساعدات الإنسانية. ويعتبر ذلك نقلة نوعية عن سياسة إدارة ترامب التي ركزت على هدفين آخرين إلى جانب دحر التنظيم: تطبيق قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2554 (أي تمكين انتقال سياسي يسمح للحكومة السورية بإعادة بسط سيطرتها على كامل البلاد) وضمان خروج كافة القوات الأجنبية.
قد لا تهتم إدارة بايدن بمنح الأولوية لأهداف الإدارة السابقة، كما يظهر من خلال عدم اهتمامها المتصور في منع التطبيع العربي مع الرئيس السوري أو تعيين مبعوث رفيع المستوى إلى سورية. مع ذلك، من شأن الحفاظ على موطئ قدم أميركي في الحامية وفي شمال شرق البلاد أن يعود بالفائدة على المصالح الأميركية وأهداف الإدارة بطرق أساسية. فناهيك عن منع تنظيم “داعش” من إعادة تشكيل صفوفه بما يكفي لشنّ هجمات جديدة في سورية أو خارجها، يمثل التواجد الأميركي على الأرض مصدر النفوذ الرئيسي لواشنطن في تحديد معالم مستقبل سورية وتقويض أنشطة إيران الخبيثة عبر الحدود.
باختصار، إن “حامية التنف العسكرية” هي امتداد لسياسة أميركا العامة إزاء سورية. فقد اعتقدت إدارتا أوباما وترامب أن فوائد التواجد العسكري الأميركي هناك تفوق مخاطره، ولسبب وجيه –على الرغم من أن القاعدة كانت هدفًا استطلاعيًا للخصوم منذ تأسيسها، إلا أن أي فرد في الخدمة الأميركية لم يلق حتفه هناك. وطالما أن إدارة بايدن تبقى ملتزمة بالمهمة العسكرية لمحاربة “داعش” في سورية، فإن الوجود المستمر في الحامية منطقي. وعلى الرغم من الموارد الضرورية لضمان أمن الحامية البعيدة وتزويدها بالإمدادات اللازمة، تبقى عملية الانتشار منخفضة التكلفة نسبيًا وعالية الأثر وتعود بالفائدة على المصالح الأميركية والإقليمية على السواء.
*غرانت روملي: هو زميل أقدم في “معهد واشنطن” ومستشار سابق لسياسة الشرق الأوسط في مكتب وزير الدفاع الأميركي. ديفيد شينكر: هو “زميل أقدم في برنامج توب” في “معهد واشنطن”. شغل سابقاً منصب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى خلال إدارة ترامب.

الغد