واهم من يعتقد أن القضية الفلسطينية قابلة للانتهاء والتصفية، فمن يتصفح الواقع ويتعايش مع التاريخ يعرف جيداً أنها ستبقى من أهم القضايا في الشرق العربي، بل وفي الشرق الإسلامي والإنساني. أن يتجاوز ذكرها رؤساء العالم في قممهم، كما فعل الرئيس أوباما في خطابه الأخير في الأمم المتحدة، لا يعني أنها ليست قضية القضايا والتي عندما تعود، تؤثر في التحولات. الديناميكية الفلسطينية تثور عندما تهمَل، وتلتئم عندما تشعر بأنها عادت إلى مراحل النسيان والتشتت، وفي كل عودة تكتشف لنفسها تعابير جديدة وأدوات مختلفة. وعلى مدى عقود مقاومة الفلسطينيين لعدوهم الطامع في أرضهم والنافي لوجودهم، تفجرت عشرات الانتفاضات والثورات والتمردات والعمليات والحروب، بل بلغ عدد الشهداء الذين سقطوا من أجل الحقوق الفلسطينية عشرات الآلاف. يكفي أن نتذكر أن أكثر من ٢٠ ألفاً قضوا في عام ١٩٨٢ إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وأن التضحيات الفلسطينية كما العربية امتدت كالسيول في تاريخ الصراع، وهي لم تتوقف مرحلياً إلا لتستجمع قوتها.
الجيل الذي يثور في فلسطين ويقف في مقدمة المواجهة، لم يكن قد تجاوز عالم الطفولة عندما اندلعت الانتفاضة الثانية عام ألفين، وهو لم يكن قد اختبر الحياة عندما اندلعت الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧. وقد يسمي البعض ما يقع انتفاضة أم مقدمة لانتفاضة أو مقاومة وتصعيداً، وبالفعل فالتسمية ليست الأهم في هذه الحالة الفلسطينية الجديدة، وذلك لأن ما يقع يعيد إلى المسألة الفلسطينية بعضاً من مكانتها وقيمة من قيمها بعد أن اعتقدت إسرائيل أنها دمرت كل من يجرؤ على تحديها. اللغة الجديدة للفلسطينيين تخاطب لغات الثوريين والناشطين العرب الذين احتلوا الميادين وحلموا قبل أكثر من أربع سنوات بعصر بلا فساد واستقواء وبلا هيمنة وتهميش. الفارق بين الحالة الفلسطينية وتلك العربية أن الفلسطينيين بحكم التجربة والتاريخ يتواصلون مع ماض قاس وواقع جوهره الاضطهاد القومي والتوسع الاستيطاني والسلوك العنصري.
الحالة الفلسطينية الجديدة تعبير عن طموحات وآمال خريجي الجامعات وطلبتها وتعبير عن الشبان والشابات المرتبطين بالأرض والمكان، بل من الملاحظ أن التمرد الفلسطيني احتوى على المرأة الشابة لأول مرة في قلب المواجهات، وأنه عبر بوضوح عن انسداد الأفق المستقبلي للتسوية السياسية في ظل وأد الحقوق واكتساح الأراضي وضعف إدارة السلطة الفلسطينية أمام القيود الإسرائيلية المدمرة. النهوض الفلسطيني غايته تحدي المشروع الصهيوني وإيقاف اندفاعه ودفعه للتراجع بنسب مختلفة، وهذا يعني تسجيل نقاط جديدة في صراع الحقوق ضد الظلم. فهذه ليست انتفاضة الدولة الفلسطينية بعد أن دمرت اسرائيل بنى الدولة وإمكانيات نشوئها، بل إنها حركة مقاومة تؤسس لتمكين مشروع الصمود على الأرض، بينما تسعى لحماية الناس والمجتمع من تجبر اسرائيل. لهذا من المتوقع أن تتطور المواجهة، لكن من المتوقع في الوقت نفسه أن تعقبها حالة تهدئة تليها حالة انفجار ثم تهدئة. كل هذا سيخلق الأرضية لتجارب مدنية وشعبية مقاومة وسيمهد بسبب طبيعة التطور لبروز وتقدم قيادات فلسطينية شابة. هذا الوضع سيسهم في بناء مجتمع قادر على أن يستمر في الحياة بينما يستمر في المقاومة.
المقاومة بهذا الإطار الجديد تقف على أعتاب طريق سيصحح الصورة المشوهة التي رسختها حالة السلام الشكلي والوهمي منذ اتفاقات أوسلو عام ١٩٩٤. فمنذ أوسلو، وعلى الأخص منذ اغتيال رئيس الوزراء السابق اسحاق رابين من قبل متطرف يهودي والمشروع الصهيوني يتعمق في مصادرة الأرض والتهويد والتهديد والطرد والسحق والإلحاق. التحول الجديد في الساحة الفلسطينية سينجح في إعادة المصطلحات إلى ما كانت عليه، بحيث يسمى الاحتلال احتلالاً والاستيطان اعتداء وتهجماً والاعتقال مواجهة ضد أحرار ومصادرة الأراضي جريمة بحق الإنسان والعنصرية سلوكاً همجياً. وهذا سيعني مزيداً من الصعوبات لحكومية نتانياهو اليمينية ومزيداً من تعرية السلوك الصهيوني أمام العالم. ففي الأراضي التي احتلتها اسرائيل عام ١٩٦٧ وبين فلسطينيي ١٩٤٨، وصلت العنصرية والتوسع والحصار والتجويع على حساب حياة الناس وحقوقهم إلى واحدة من أعلى مراحلها.
المقاومة الفلسطينية الجديدة تضع عراقيل جمة أمام دعاة القبول بالأمر الراهن والاستسلام له. لا يزال المشهد العربي يرى في العلاقة مع إسرائيل مدخلاً للتأثير على الولايات المتحدة، وهناك في الصفوف العربية من يعتقد بإمكانية الاعتماد على إسرائيل والتنسيق معها من أجل مواجهة التوسع الإيراني. بين خيار التعاون مع الشعوب وخيار التعاون مع إسرائيل الصهيونية التوسعية (وهي القوة العدائية المتناقضة مع الأماني العربية) يقع فارق كبير سوف يسهم في تدمير ما تبقى من الوضع العربي. إن مجرد طرح إمكانية التنسيق مع إسرائيل لا يقوي البيت العربي، بل يسهم في تفكيكه وتآكله. المقاومة الجديدة تخلخل الأرضية الساعية لجعل إسرائيل جزءاً من التوازن الإقليمي ضد إيران وجزءاً من التوازن الإقليمي في مواجهة الارهاب. لكن يجب الانتباه إلى أن الورقة الاسرائيلية تحرق من يسعى إليها كما سبق لها أن فعلت في السابق، فالتاريخ العربي الحديث منذ ١٩٤٨ مليء بالشواهد والأمثلة.
إن النضال الفلسطيني يجب أن يبلور الأساس الذي يسمح له بالاستمرار في صورة متسعة شعبية وعميقة الجذور. ولكن تحقيق ذلك يتطلب التزاماً أعمق بضرورة الإبقاء على الطابع الشعبي للمقاومة. فاستخدام الفلسطينيين للسكاكين دليل على وصول الوضع إلى حالة الخطورة الأكبر، ودليل على أن الضحية الفلسطينية لم يعد أمامها إلا ممارسة الموت العلني، فقد وصل جيل من الناس إلى حالة فقدان القيمة في الحياة مقابل أخذ حياة مستوطن. إن بعض الوسائل المستخدمة عندما يحقق أهدافه يتطلب الانتقال إلى وسائل أخرى تستثمر ما وقع. فهناك حاجة للانتباه إلى عدم تحول الانتفاضة إلى صراع فلسطيني فلسطيني، وأن لا تتحول تحت أي ذريعة إلى مشهد يدفع إلى احتراب أهلي. لا بد إذاً من استراتيجية تبنى على ما سبق من انتفاضات، وذلك من خلال تقليل نسب العنف وزيادة نسب الإبداع المقاوم في مواجهة الاحتلال بكل مناحيه وليس فقط جنوده. لا بد من مواجهة الاحتلال عبر تأكيد حق الانتقال من مكان إلى مكان، وحق دخول المناطق الممنوعة وحق استخدام كل الطرق وحق المساواة. تجارب النضال الشعبي غير المسلح قد تكون رديفاً مهماً لما يقع الآن. ربما من الطبيعي أن نتوقع استمرار هجمات السكاكين، فهذه وسيلة لا يقوى أحد على إيقافها بحكم الضغوط التي تواجه المجتمع والناس، لكن التقدم هو الآخر يتطلب بلورة أكبر وأوسع للنضال الشعبي والإنساني الهادف إلى التحرر من الاستيطان وتمدده والاحتلال وعنفه والعنصرية وهمجيتها.
ناظم شفيق الغبرا
صحيفة الحياة اللندنية