تذكّر أحداث أوكرانيا الحالية العالم بما جرى عام 1938 حين طالب المستشار الألماني أدولف هتلر القوى الأوروبية الكبرى بالموافقة على ضم إقليم السوديت الذي كان تابعا لتشيكوسلوفاكيا وتسكنه غالبية ألمانية.
حضر الاجتماع، في ميونيخ الألمانية حينها، إضافة إلى الزعيم الألماني، نظيره الفاشي الإيطالي بنيتو موسوليني (الذي طلب البريطانيون وساطته) ورئيس وزراء بريطانيا نيفيل تشامبرلين، ونظيره الفرنسي أدوار دلادييه، وكان الهدف من المباحثات منع الهجوم الوشيك للقوات الألمانية على تشيكوسلوفاكيا.
حصل هتلر على إقليم السوديت فعلا (من دون استشارة أصحاب الأرض التشيكوسلوفاكيين) لكنّ ذلك شجّعه، بعد ذلك، على توسيع دائرة الحرب والغزو حيث احتل بولندا عام 1939، ثم الدنمارك والنرويج عام 1940، وبعدها احتلت قواته البلقان وباقي أوروبا، واجتاحت فرنسا نفسها، لتنتقل بعدها لـ«معركة بريطانيا» التي بقيت وحدها تقاوم الهجوم الألماني لسنتين قبل اضطرار الولايات المتحدة الأمريكية للدخول في الحرب بعد هجوم اليابان على ميناء بيرل هاربور عام 1941.
كان أحد أسباب سياسة الاسترضاء التي اتبعتها بريطانيا وفرنسا لوقف التمدّد الألماني (إضافة إلى وهم منع الحرب) هو الخوف من الاتحاد السوفييتي، وقد اتبع جوزف ستالين، الزعيم المطلق للاتحاد السوفييتي حينها، سياسة مشابهة لهتلر بعقده معاهدة عدم اعتداء مع ألمانيا ضمّت بروتوكولا سريا يقسم شمال وشرق أوروبا إلى مناطق نفوذ سوفييتي وألماني، وقد نفذ هذا الاتفاق عمليا بغزو جيشي البلدين لبولندا واقتسامها، ثم ضم موسكو لأستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبيساربيا ومهاجمة فنلندا.
أنهت الحرب العالمية الثانية، عمليا، مغامرة دول «المحور» التي ضمّت ألمانيا واليابان وإيطاليا (وكذلك بلغاريا والمجر ورومانيا وفنلندا) وخلقت نظاما عالميا جديدا تقف فيه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوروبيون في جهة، والاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية الخاضعة له، في جهة أخرى.
انتهى هذا النظام، عمليا، مع بدء تفكك الاتحاد السوفييتي (1989 ـ 1991) حيث أعلنت ليتوانيا، التي ضمت أثناء الحلف الألماني ـ السوفييتي، استقلالها، وتبعتها نظيراتها في لاتفيا واستونيا، وانفرطت النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية، واستقلت أغلب دول الاتحاد السوفييتي السابق عن موسكو، بما فيها أوكرانيا.
هناك قول لفلاديمير بوتين، الذي نصّب رئيسا عام 2000، يعتبر سقوط الاتحاد السوفييتي «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين» وهناك تصريحات أخرى لمسؤولين روس آخرين تتحسر على خسائر الإمبراطورية القيصرية، بما فيها حصة موسكو من اتفاق سازونوف ـ سايكس ـ بيكو، الذي ألحق أجزاء كبرى من تركيا بروسيا (وقد أوقف الشيوعيون العمل بالاتفاقية بعد سيطرتهم على الحكم عام 1917).
تاريخ بوتين في الرئاسة، هو عمليا، محاولة لتغيير تلك «الكارثة» الجيوسياسية، وهو ما يفسّر مسارا عسكريا وسياسيا متصاعدا، يبدأ من حرب الشيشان، ويمرّ بجورجيا وبيلاروسيا واحتلال القرم وشرق أوكرانيا، ومدّ النفوذ في دول وسط آسيا، وصولا إلى سوريا، التي صارت جزءا أساسيا من شبكة القوة الروسية، مع تأثيرات ملحوظة في ليبيا ومالي والسودان وفنزويلا وكوبا الخ.
الإطار النظريّ لهذا التوسع هو حماية الأمن القومي الروسيّ، لكنّ ما يحصل فعليا هو العمل على استعادة الإمبراطورية الروسية التي تفككت عام 1991، ويعمل بوتين على استعادتها عبر استخدام حشد القوات والتهديد بالحرب، والواضح أن سياسة الاسترضاء، التي اتبعها البريطانيون والفرنسيون عام 1938، لم تعد ممكنة عام 2022.
القدس العربي