كيف يمكن تفسير البطء الخادع والتوتر والتحولات في المشهد الدولي؟

كيف يمكن تفسير البطء الخادع والتوتر والتحولات في المشهد الدولي؟

من لا يريد أن يرى سياقاً تاريخياً في كثير مما يحدث دولياً، عليه فقط أن يتأمل أغلب الأزمات أو المشكلات الدولية والإقليمية الجارية ليلحظ أمرين معاً، وهما: بطء خادع وفي الوقت ذاته، توتر وتحولات لا تتوقف في مسار هذه الأزمات، فمنذ أسابيع على سبيل المثال، بدأ العالم حبس أنفاسه في ظل حديث عن قرب اجتياح روسيا لأوكرانيا، ولكن ذلك لم يحدث، حتى الآن على الأقل، ولم تنفرج الأزمة، ولم تحدث تسويات، ولم يتراجع أي طرف، وتتواصل التفاعلات بشكل معقد، ولكن في الواقع، إن هذه الأزمة بالغة الدلالة لا تتوقف عن فرز تطورات جديدة طوال الوقت، وربما منذ فترة ليست بقصيرة. وفي جميع تفاصيل المشهد الدولي، وكذلك في أزمات المنطقة العربية، أو غيرها من بؤر الأزمات، يتضح كثير مما ذكرناه، من عدم حسم مصحوب بتحولات لا تتوقف، بما يستحق إلقاء الضوء على سمات هذه الظواهر وانعكسات ذلك على تفسير الأوضاع الدولية عموماً من ناحية، ومن ناحية أخرى فرص وصعوبات عملية اتخاذ القرار لدى دول العالم كله.

أزمة أوكرانيا

يتفق مفكرون وكتاب كثر على أن هذه الأزمة تشكل علامة على التحولات العميقة في عالمنا المعاصر، وأن موسكو رمت بكل ثقلها لتؤكد لواشنطن أنها لن تسمح لها بمواصلة الهيمنة على النظام الدولي وتقليص الآخرين، وبشكل خاص عدم السماح لها بتهديد المفهوم الروسي للأمن القومى عبر ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو. وواصلت روسيا خلال الأسابيع الأخيرة، حشودها العسكرية دون أن تهدد علناً بالاجتياح العسكري، بينما تابعت الولايات المتحدة حملتها السياسية وسط استعراض محدود للقوة، ونشرت بضعة آلاف من قواتها في بولندا ودول وسط أوروبا، وحذت بريطانيا حذوها بعدد أقل وجعجعة صوتية شارك فيها أيضاً بعض الجهات الغربية التي أرسلت بعض القوات الرمزية إلى دول ملاصقة لأوكرانيا. من ناحية أخرى، تحركت فرنسا في مسعى وساطة فزار رئيسها إيمانويل ماكرون، موسكو، ولكن الزيارة غالباً أثارت ردود فعل تثير التساؤلات حول معاملة ماكرون خلال تلك الزيارة، ثم دخلت ألمانيا على خط الجهود الدبلوماسية، وإضافة إلى كل ذلك تم ترتيب عدد من الاتصالات السياسية والدبلوماسية بين واشنطن وموسكو، لم تسفر عن شيء.

ويعكس المشهد برمته كل الدلالات التي بدأ بها، فهناك الحشد الروسي الهائل، مقابل تحركات عسكرية غربية لا يمكن وصفها الأ بأنها رمزية، وأنه من الواضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن يتراجع.
في الواقع، ليس من الممكن تصور هذا في أي حسابات رشيدة تأخذ تركيبة المشهد في الحسبان، وكذلك شخصية الرئيس الروسي، ومنذ البداية أيضاً لم يتصور إلا قلة أن واشنطن يمكن أن ترد عسكرياً، بل تشير تصريحاتها بوضوح أن المتوقع هو فرض عقوبات اقتصادية، وأن بورصة النقاش تدور حول حدود هذه العقوبات ومداها. وبالغت بعض التصريحات بالقول إن تلك العقوبات قد تصل إلى بوتين نفسه، وهو أمر ليس من السهل توقعه، وقد يسبب مزيداً من التعقيدات، ولا يمكن تصور تداعياته.
والأهم من كل ذلك هو لقاء القمة الروسي – الصيني الذي تم على هامش دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، التي حضرها بوتين وقاطعتها الولايات المتحدة، وما خرج عن ذلك اللقاء هو بالضبط ما كان متوقعاً، ألا وهو اصطفاف روسي – صيني، وتفاهم فكري أيديولوجي ضد ما سماه البيان الصادر “رفض إصرار دولة على الهيمنة على النظام الدولي ورفض محاولة فرض نظام سياسي على العالم وأن الديمقراطية مفهوم متسع يصل إليه العالم، كل بطريقته الخاصة، إذا المشهد يتصاعد باتجاه نهاياته الدرامية المقدرة له ويرسخ التحالف الروسي – الصيني وتتعدد السيناريوهات والاحتمالات التي ستؤول إليها الأمور، فالأزمة تصنع سياقاً تاريخياً أياً كان ما ستسفر عنه.

أزمة الملف النووي الإيراني

خطفت أزمة أوكرانيا الأضواء عن مشهد آخر بطيء، بل ربما يكون بالغ البطء، وهو مشهد المفاوضات حول الملف النووى الإيراني، وتدور مفرداته حول ضمانات عدم تحول هذا البرنامج إلى الشق العسكري وعدم رفع معدلات تخصيب اليورانيوم. وتم تجاهل، منذ الاتفاق النووي الأول الذي تم التوصل إليه في عام 2015، مسائل تغلغل إيران وسياساتها في المنطقة، ولكن سؤال المفاوضات الأكبر يدور حول مساحة الدور الإيراني في الشؤون الدولية وما إذا كان يمكن تقليم أظافرها، وإمكانية قبولها كطرف نووي ولاعب دولي. ويتفرع من ذلك أسئلة كثيرة، أبرزها أن الاستراتيجية الغربية والأميركية التي تم تطبيقها فشلت، وعندما حاولت واشنطن إصلاح أخطاء التعامل مع طهران، زادت الأخيرة من مكاسبها وطورت برنامجها النووي، والأهم من ذلك، عمقت تغلغلها الإقليمى، ولم تؤتِ العقوبات ضدها نتائج رادعة، بل واصلت حركتها في كسب مواقع النفوذ الإقليمي لتقدم نموذجاً جديداً من نجاح دولة متوسطة القوى في تعظيم نفوذها الخارجي، على الرغم من أنها تكاد تكون معزولة عن نصف العالم. وبعد كل ذلك، استؤنفت المفاوضات لتسير ببطء وتعثر، ليطرح سؤال واضح حول مدى قدرة الولايات المتحدة على ردع قوة إقليمية متوسطة وحول أي أدوات يمكن تطبيقها للتعامل مع هذا النموذج أو غيره في المستقبل.

اندبندت عربي