في لقاء تلفزيوني، عقب إعلان فوز الرباعية التونسية بجائزة نوبل للسلام عن عام 2015، فجّر الضيف، وهو أحد رموز الرباعية، مفاجأة ربما كانت صادمة لكثيرين، عندما أنكر وجود ما يعرف بالربيع العربي، في معرض إجابته على سؤال عن تفجير تونس الثورات العربية. قال الرجل بوضوح إن ما حدث في بلاده هو انفجار موجات الغضب ضد القهر والظلم والفساد والاستبداد من طغمة حاكمة، على رأسها زين العابدين بن على وأسرته، ووقفت أجهزة الأمن عاجزة أمام المد الجماهيري، واتخذ الجيش التونسي موقفاً تاريخياً بأن نأى بقواته عن المعترك السياسي تماماً. ولم يجد بن علي أمامه حلا سوى الفرار يوم 14 يناير/كانون ثاني 2011. وسارت الأمور في تونس مسيرتها، بعد ذلك، في تجربة فريدة، وحدث أن تأزمت الأمور إلى درجة كادت أن تعصف بالتجربة كلها. هنا، تدخل المجتمع التونسي المدني الواعي، ممثلاً في الرباعية، وفرضت حواراً وطنياً جامعاً، انتهى بتوافق مبني على أساس العودة إلى الناس من جديد، على الرغم من أن هناك من كان قد حصل على الأغلبية فى انتخابات قريبة. ولكن، وتحت ضغط الأزمة، لم يجد حرجا من التخلي عن السلطة، ومرت الأزمة بسلام، ليستأنف الشعب التونسي تجربته في التحول الديموقراطي، يخطئ ويصيب، لكنه كان قد أقر مبدأً جديداً على الثقافة السياسية العربية، هو أن التغيير يجب أن يكون بالانتخاب، وليس بالانقلاب.
وبعيداً عن المسميات، والتي حاول الغرب تسويقها، دعونا نستعرض مسارات ما جرى في ذلك العدد المحدود من الدول العربية التي حاول الغرب أن يضعها في حزمة واحدة، أطلق عليها مسمى ثورات الربيع العربي، والتى يسعى الغرب، في نهاية المطاف، إلى ترسيخ رسالةٍ إلى شعوبنا، فحواها أنه لا جدوى من تلك الثورات.
ما جرى في مصر، وما اصطلحنا على تسميته ثورة 25 يناير، هل هناك علاقة بينه وبين ما جرى في تونس، بما يمكننا من الربط بينهما، واعتبار أنها أحداث تجري في سياق واحد؟ ما جرى في مصر مختلف، ولم يكن بأي حال رجع صدى لما جرى في تونس، لأن مصر كانت، وعلى مدى سنوات، تعيش حالة من الحراك الوطني، والتفاعل ما بين تيارات متعددة، تسعى إلى التغيير بأشكال مختلفة، منها ما كان هادئ النبرة، ومنها ما كان مرتفع الصوت نسبياً، من أمثلتها حركات كفاية ، و6 أبريل و9 مارس، ثم الحركة الوطنية للتغيير، وغيرها. وبالطبع، كانت هناك تيارات غضب شبابية، تتنامى يوماً بعد يوم، مع تصاعد عمليات قهر أجهزة الأمن، والقمع والتعذيب الذي بلغ مداه في عمليات القتل المباشر لشباب، مثل خالد سعيد وسيد بلال. وبدأت الدعوات، على مواقع التواصل الاجتماعي، لإعلان الرفض بالخروج والتظاهر، وتم اختيار يوم 25 يناير، باعتباره رمزاً ليوم احتفال الشرطة. وكان ذلك كله قبل حادثة الشاب محمد البوعزيزي في تونس بسنوات، ولم يكن يدور في خلد أحد في مصر أن ما وقع في تونس سوف يحدث، ولا أن بن علي سيخرج فاراً من تونس. وخرج الشباب في 25 يناير، ثم تطورت الأمور في 28 يناير، والتحقت قوى عديدة بالشارع، ووقعت أحداث 2 فبراير، وهي ما عرفت بموقعة الجمل، وفشلت في إحباط حركة الجماهير، ثم التطور الأهم في 11 فبراير، وهو تخلي حسني مبارك عن منصب رئيس الجمهورية، وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد، مما يعني تسليم السلطة إلى الجيش. وهذا طبقا للنص المنشور في الجريدة الرسمية في 12 فبراير، وهي المرجع الذي سيستند عليه الباحثون، عند دراسة تلك المرحلة من تاريخ مصر، والباقي معروف، ولا يمكن وضعه فى سياق واحد مع ما جرى في تونس.
وجاءت المفاجأة التالية من ليبيا، وتحديداً من بنغازي، حيث انطلقت تظاهرات شعبية ثائرة يوم
17 فبراير، تهتف ضد معمر القذافي وحكمه، وتطالب بالتغيير، وسرعان ما سرت الشرارة في أنحاء ليبيا، وكان رد القذافي عنيفاً وعصبياً إلى أقصى حد، وتطورت الأحداث إقليمياً ودولياً بشكل دراماتيكي، وحدث التدخل الخارجى المباشر من تحالف دولي، قاده حلف الناتو، وشاركت فيه دول عربية، وكانت نهاية مأساوية للعقيد القذافي، حيث تم سحله وقتله. ثم أصبح ما يجري في ليبيا معروفاً، سلطتان وحكومتان ومجلسان نيابيان، ومناطق خارجة عن أية سلطة، وجهود دولية لم تصل إلى أي شيء. وبالتأكيد، لا أحد يستطيع ادعاء أن ما جرى في ليبيا يمكن أن يكون في أي سياق عام لأية موجة ثورية عربية.
كانت هناك إرهاصات احتجاجية بدأت فى اليمن أواخر يناير/كانون الثاني، وأخذت تتطور بشكل مضطرد، حتى بلغت ذروتها في 18 مارس/آذار، عندما تصدت قوات الأمن بعنف للمتظاهرين، ولأن لليمن طبيعة خاصة، وتحالفات وتداخلات إقليمية قبلية، خصوصاً مع المملكة العربية السعودية، فقد سلكت الثورة اليمنية مسلكاً خاصاً، بانقسامات حادة في صفوف القوات المسلحة، من ناحية، واستقطابات قبلية وطائفية، من ناحية أخرى، انتهت بمحاولة اغتيال الرئيس، علي عبد الله صالح، نجا منها، وتم نقله إلى الرياض لعلاجه، ثم تم فرض مبادرة لمجلس التعاون الخليجي يترك بمقتضاها السلطة مع ضمانات عدم الملاحقة، وسارت الأمور بعض الوقت، ثم حدثت الانتكاسة بانقلاب الحوثي ودعم صالح، وتطورت الأمور، بقيادة السعودية إلى تحالف عربي خليجي، وشن عمليات عاصفة الحزم ثم إعادة الأمل، ولا زالت المعارك جارية، وكذلك الجهود الدولية للتوصل إلى حل سياسي. وليس هناك من يستطيع القول إن ما جرى ويجري في اليمن يأتي في سياق ما أطلق عليه الغرب الربيع العربي.
بعد استعراض ما جرى في تونس الخضراء، ومصر الكنانة، وليبيا عمر المختار، واليمن السعيد، تبقى سورية وما جرى ويجري فيها. في أواخر فبراير/شباط 2011، خرج فتية في تظاهرة ضد النظام في مدينة درعا الصغيرة، فتعامل نظام بشار الأسد مع الفتية وأهاليهم وسكان درعا بدموية، فانطلقت دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي للتظاهر، فبدأت مسيرات واحتجاجات في 15 مارس/آذار مطالبة بالحرية، كان شعارها “الله .. سورية .. حرية”، وسارت في بعض المدن السورية فى البداية، مثل حمص واللاذقية ودمشق العاصمة، كان رد الفعل عنيفاً من قوات الأمن والجيش، وأيضاً شبيحة النظام. وتطورت الأمور إلى مآلاتها الحالية. لم تعد سورية سوريةً، فالأسد، على الرغم من أن الروس والإيرانيين وحزب الله وما بقي من جيشه وشبيحته معه، فإنه لا يتحكم في أكثر من 18% من التراب السوري، والباقى بيد جماعات وتنظيمات ومليشيات متطرفة. هل كان ذلك أيضاً متسقاً مع كل ما جرى ويجري، تحت لافتة الربيع العربي؟
تلك هي الدول العربية الخمس، من 22 دولة تحمل الهوية العربية، بحكم العضوية في جامعة الدول العربية، والتي شهدت أحداثاً جساماً، أريقت فيها دماء غزيرة، وغيبت السجون والمعتقلات عشرات الآلاف من كل الأعمار والأطياف. اختلفت البدايات والدوافع، واختلفت المسارات والمآلات، وإن كانت تقاربت في التزامن، فهل يمكن القول إننا أمام ثورات ربيع عربي، أم أنه مجرد وهم، حاول الغرب أن يسوقه لنا، حتى يرسخ في أذهاننا فكرة أننا فاشلون، وعلينا أن نلجأ إليهم، نتسوّل منهم بعض حقوقنا، فيجلبوها لنا من حكامنا الذين اختاروهم لنا.
لم يكن ربيعاً عربياً وفشل، ولن نقبل ذلك الوهم. إنها ثورات شعبية لبعض من شعوبنا، ولكل منها أسبابه ودوافعه المشروعة، انطلقت ثم تعثرت، لكنها لن تتوقف، وحتما ستنتصر.