بدأ العديد من الدول النامية يستشعر وطأة الحرب الروسية على أوكرانيا بعد يومين فقط من انطلاق عملية الغزو، ويعود ذلك إلى الاضطراب الحاصل في سلاسل الإمدادات من الحبوب، وما نتج عنه من ارتفاع صادم في الأسعار، وسط مخاوف متصاعدة من تبعات طول الحرب وما يمكن أن ينجر عنها من انعدام للأمن الغذائي.
كييف – عُرفت أوكرانيا باسم سلة غذاء أوروبا لعدة قرون. وتعد أحد أبرز المصدرين للحبوب والزيوت النباتية ومجموعة من المنتجات الأخرى الضرورية إلى أفريقيا وآسيا.
وتقع أخصب الأراضي الأوكرانية وأكثرها إنتاجية في المناطق الشرقية التي تحولت منذ الخميس إلى ساحة حرب بعد يوم فقط من إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اعتراف بلاده باستقلال دونيتسك ولوغانسك في إقليم دونباس عن أوكرانيا.
وتثير هذه الحرب التي أعلنتها روسيا والتي تستهدف على ما يبدو إسقاط السلطة الحالية الموالية للغرب، مخاوف بشأن سلاسل الإمدادات القادمة من هذا البلد الأوروبي، والارتفاع الكبير في الأسعار الذي سجل مع اشتعال شرارة الحرب الروسية – الأوكرانية.
وتُعدّ أوكرانيا مُصدِّرا رئيسيا للذرة والشعير والجاودار، لكن قمح البلد هو الذي يجسد التأثير الأكبر على الأمن الغذائي في جميع أنحاء العالم، ففي 2020 صدرت أوكرانيا ما يقرب من 18 مليون طن من القمح من إجمالي محصول بلغ 24 مليون طن، مما جعلها خامس أكبر مصدر في العالم.
العالم النامي الوجهة الأبرز للقمح الأوكراني حيث يستورد لبنان مثلا ما يقرب من ستين في المئة من القمح من أوكرانيا
تعتبر الصين والاتحاد الأوروبي من أبرز زبائن أوكرانيا، لكن العالم النامي هو الوجهة الأبرز للقمح الأوكراني، فعلى سبيل المثال يستورد لبنان من أوكرانيا ما يقرب من ستين في المئة من القمح.
وصرح وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام الجمعة بأن احتياطيات بلاده من القمح لا تكفي سوى لمدة شهر على الأكثر.
ومن بين أربع عشرة دولة تعتمد على الواردات الأوكرانية بأكثر من 10 في المئة من استهلاكها للقمح يواجه عدد كبير بالفعل انعدام الأمن الغذائي بسبب عدم الاستقرار السياسي المستمر أو العنف المباشر.
ويستورد اليمن وليبيا من أوكرانيا 22 في المئة و43 في المئة على التوالي من إجمالي استهلاكهما للقمح. واستوردت مصر، أكبر مستهلك للقمح الأوكراني، أكثر من 3 ملايين طن في عام 2020، أي حوالي 14 في المئة من إجمالي القمح الأوكراني المصدّر.
أمين سلام: احتياطيات لبنان من القمح لا تكفي سوى لمدة شهر على الأكثر
وحذّر برنامج الأغذية العالمي الخميس من أنّ الحرب في أوكرانيا ستؤدي على الأرجح إلى زيادة أسعار الوقود والغذاء في اليمن الذي مزقته الحرب، مما قد يدفع المزيد من السكان إلى المجاعة مع تراجع تمويل المساعدات.
وقال البرنامج في بيان “يؤدي تصعيد الصراع في أوكرانيا إلى زيادة أسعار الوقود والغذاء وخاصة الحبوب في اليمن الذي يعتمد بشكل شبه كامل على الاستيراد”.
وأوضح “تضاعفت أسعار المواد الغذائية في معظم أنحاء اليمن خلال العام الماضي، مما جعل أكثر من نصف البلاد في حاجة إلى مساعدات غذائية. وسيؤدي ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى دفع المزيد من الناس إلى الحلقة المفرغة المتمثلة في الجوع والاعتماد على المساعدة الإنسانية”.
ووفقا لبيانات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة قدمت أوكرانيا أيضا سنة 2020، 28 في المئة من القمح لماليزيا و28 في المئة لإندونيسيا و21 في المئة لبنغلاديش.
ولسوء الحظ يأتي جزء كبير من إنتاج القمح في البلاد من سلة الخبز التاريخية في شرق أوكرانيا، أي أقاليم خاركيف ودنيبروبتروفسك وزابوريزهيا وخيرسون، الواقعة غرب دونيتسك ولوغانسك، واللتين تحتلهما بالفعل القوات المدعومة من روسيا، وأعلن بوتين عن انفصالهما.
ويحذر خبراء من أن ما يحصل من غزو روسي للمنطقة الشرقية سيؤدي حتما إلى انخفاضات حادة في إنتاج القمح وهبوط حاد في صادرات القمح بفعل فرار المزارعين والتدمير الجاري للبنية التحتية والمعدات، والشلل المصاحب لاقتصاد المنطقة.
ومن يسيطر على الأرض هو من يستخرج ثرواتها في نهاية المطاف، ولكن في ظل الظروف الراهنة في الأجزاء الشرقية من أوكرانيا وما تشهده من فوضى فإن للتدخل لعسكري الروسي تبعات خطيرة على الإنتاج.
شهدت أسعار الغذاء العالمية تصاعدا بالفعل قبل تفجر الأزمة الأوكرانية إلى جانب أسعار السلع الأساسية الأخرى، ويهدد الاضطراب الحالي بالمزيد من الصدمات في الأسعار مع تدافع البلدان المستوردة للحصول على الإمدادات في ظل اضطراب السوق.
وقد بدأت فعلا العديد من الدول ولاسيما الدول النامية تستشعر خطر انعدام الأمن الغذائي بعد يومين فقط على الاجتياح الروسي لأوكرانيا. وفي البلدان غير المستقرة سياسيا مثل اليمن ولبنان قد تؤدي صدمات أسعار الغذاء الإضافية بسهولة إلى تدهور الوضع السيء بالفعل.
وفي العديد من البلدان الأخرى أيضا يمكن أن يؤدي ارتفاع الأسعار وانعدام الأمن الغذائي إلى نشوب الصراعات وزيادة التوترات العرقية وزعزعة استقرار الحكومات وامتداد العنف عبر الحدود.
الحرب التي أعلنتها روسيا وتستهدف إسقاط السلطة الحالية الموالية للغرب، تثير مخاوف بشأن سلاسل الإمدادات القادمة من هذا البلد الأوروبي
ويحذر خبراء من مغبة الاستخفاف بهذه السيناريوهات، حيث لم يمض سوى عقد من الزمن على انتفاضات الربيع العربي، التي كان ارتفاع أسعار المواد الغذائية فيها بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل الثورة في تونس ومصر.
ويشكل ما حصل في كازاخستان عينة عن مدى السرعة التي يمكن أن يؤدي بها ارتفاع سعر السلع الأساسية إلى حصول اضطرابات. وقد تكون شكاوى السكان أوسع بكثير نتيجة تراكمات على مدى سنوات عديدة، ولكن غالبا ما تكون صدمة الأسعار هي التي تؤدي إلى نشوب الصراع. ويمكن أن يزيد الجوع من عدم المساواة الذي تنتج عنه توترات ويؤدي في الوقت نفسه إلى تطرف الحركات السياسية الجماهيرية.
وليس التدخل الروسي في الزراعة الأوكرانية أمرا جديدا؛ فقد أدت المجاعة المروعة التي تسببت فيها السياسات السوفييتية في أوكرانيا خلال ثلاثينات القرن الماضي (المعروفة باسم هولودومور والتي اعتبرها العديد من المؤرخين إبادة جماعية) إلى مقتل ما بين 4 و7 ملايين أوكراني.
وفي حين لعبت أسباب مختلفة دورا في المجاعة، تبرز الروابط بين حصص تسليم الحبوب القاسية التي فرضتها موسكو على المزارعين الأوكرانيين، والتجمع القسري، وترحيل المزارعين وقتلهم، والمجاعة العرقية الأوكرانية يصعب استبعادها.
توجد الكثير من الأسباب التي تدعو إلى معارضة الغزو الروسي لأوكرانيا. وعلى رأس القائمة تعطيل توصيل الطعام من واحدة من أهم سلال الخبز في العالم.
وبينما أصبح الغزو أمرا واقعا، يجب على الحكومات في جميع أنحاء العالم أن ترد بسرعة لتجنب انعدام الأمن الغذائي والمجاعة المحتملة، بما في ذلك عن طريق إرسال مساعدات غذائية إلى البلدان المحتاجة وتسريع تحولات سلسلة التوريد لإعادة توجيه صادرات أوكرانيا.
ويفترض أن تعمل البلدان على التخفيف من عدم المساواة، والحد من الفساد، وتحسين التمثيل السياسي. ويزيد كل ذلك من مرونة المجتمع، وليس فقط في ما يتعلق بالغذاء. ولأن خطر تغير المناخ قد وسع التفكير الإنساني ليشمل مستقبل الكوكب بأكمله، يجب أيضا أن يكون هناك بعد نظر حول الصراع الجيوسياسي. وقد تكون أزمة الكوكب وشيكة بالفعل، ولكن من المرجح أن تنجم عن أشياء قديمة قدم الحضارة البشرية نفسها: الحرب والمجاعة والوباء.
العرب