لماذا يُفضل الخليج نظاماً دولياً متعدد الأقطاب؟

لماذا يُفضل الخليج نظاماً دولياً متعدد الأقطاب؟

نظم “مجلس محمد بن زايد”، في 13 أبريل 2022، المحاضرة الرمضانية الثانية تحت عنوان “الأمن والاستقرار في عالمنا المتغير.. من منظور دولة الإمارات”، وتحدث فيها معالي الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس دولة الإمارات. وتناولت المحاضرة موضوعات مختلفة، وإن كان الجانب الجدير بكثير من التأمل والتفكير هو ملاحظات معالي الدكتور قرقاش حول النظام الدولي وتحولاته الجارية، حيث رصد ست ملاحظات مترابطة، وهي تعطي خلاصة أن الهيمنة الغربية على النظام الدولي الحالي تعيش أيامها الأخيرة، وأن ما نشهده هو مخاض لنظام دولي متعدد الأقطاب.

ومن المفيد التوقف عند بعض الملاحظات واستقراء دلالاتها، خصوصاً تلك التي تعكس رؤية تحليلية عميقة، ويمكن للمراقب من خلالها استخلاص منظور خليجي واضح لحالة النظام الدولي ومستقبله، فهي تبين الرؤية الخليجية لملامح المشهد السياسي العالمي. كما تجدر الإشارة إلى أن مضمون تلك المحاضرة حمل لغة جديدة فيما يتعلق بعلاقات دولة الإمارات أو دول الخليج ومدركاتها للمكانة الأمريكية في النظام الدولي، ما يعطي مؤشراً حول الرؤية التي يُفترض أن يكون عليها هذا النظام أو على الأقل تُفضلها دول الخليج.

والرأي الغالب لدى المراقبين أن هناك إعادة تشكيل للنظام الدولي بعد أن كان أحادي القطبية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1989، وأنه يتجه حالياً ليكون نظاماً متعدد الأقطاب أو على الأقل ثلاثي الأقطاب، يضم بجانب الغرب أو أعضاء حلف “الناتو” كلاً من الصين وروسيا.

واللافت في هذا التحول العالمي المرتقب أن دول الخليج، خاصة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، طرف في هذا المشهد ولو بجزء بسيط، خصوصاً منذ بداية الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا، بتبنيها موقف “الحياد الإيجابي” وعدم الميل إلى طرف ضد الآخر في هذه الحرب. وهذا يعني أن لدول الخليج رأياً محدداً وواضحاً في شكل النظام الدولي المرغوب، وأنها بالرغم من تعقد الأزمة الحالية لم تكتف بالمتابعة السلبية، وإنما ترجمت رؤيتها إلى مواقف عملية ودور فاعل ومؤثر.

مواقف بارزة:

صحيح أن الولايات المتحدة مازالت حتى الآن هي الدولة العظمى الوحيدة وفق معايير التأثير الحقيقية في السياسة العالمية، وأنها هي التي تتحكم في العديد من الخيوط التي تحرك الأحداث العالمية. لكن أيضاً هناك دول كبرى أخرى باتت تنافس في مجال التأثير وتغيير الوقائع الدولية، مثل روسيا والصين. بل لا يمكن إنكار وزن دول إقليمية في تقرير مصير العديد من القضايا الحرب والسلم الدوليين؛ نتيجة لما تمتلكه من أدوات التأثير الاقتصادي والدبلوماسي، حيث أصبح من الصعب تجاهل مواقفها ورأيها في القضايا الدولية.

وبالتالي أبرزت الحرب الروسية – الأوكرانية موقفين مهمين في الاستراتيجية العالمية؛ الأول هو بروز موقف خليجي مستقل يراعي مصالح دوله بحنكة سياسية وهدوء دبلوماسي، بحيث لا تستفز الدول الكبرى الأخرى بل تقدم دلائل عقلانية ومنطقية لموقفها الذي يعتبر حتى الآن هو الأكثر صواباً. والموقف الثاني هو أن الولايات المتحدة لم تعد هي القوى الوحيدة المؤثرة في السياسة الدولية، حيث بدأت تظهر ملامح تُشكل نظاماً دولياً جديداً متعدد الأقطاب؛ ثلاثياً أو حتى ربما رباعياً بعد أن بدأ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، التحرك منفرداً لإقناع روسيا بعدم غزو أوكرانيا، وكأنه يمثل التحرك الأوروبي بعيداً عن الولايات المتحدة.

مصالح الخليج:

ربما تفاجأ العالم بالطرح الذي قدمه معالي الدكتور أنور قرقاش، واعتبره بمنزلة إعلان عن تفضيل دول الخليج لنظام دولي متعدد الأقطاب، خاصة أن دولة الإمارات، بفعل تحركاتها السياسية النشطة والمؤثرة والناجحة، صارت تعطي انطباعاً أنها تعبر عن جانب مؤثر من الرأي الخليجي.

وسبب المفاجأة أنها المرة الأولى التي يرتفع فيها الصوت الخليجي ضد الحليف الاستراتيجي التقليدي الذي لم يراعِ في العديد من مواقفه مصالح حلفائه الخليجيين، والذين من جانبهم استفادوا في إدارة العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية من دروس سابقة، منها ما كان يُعرف بـ “الربيع العربي” ودعم إدارة باراك أوباما آنذاك لتيارات سياسية ضد دول عربية حليفة للخليج، وتوقيع واشنطن الاتفاق النووي مع إيران في عام 2015 وما استتبع ذلك من تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، ثم الموقف الأمريكي غير المبالي من استهداف ميليشيا الحوثيين للأمن والاستقرار في السعودية ثم الإمارات.

ويعد الموقف الإماراتي شبه الصريح من نتائج التعاون والانفتاح على القوى الدولية الأخرى، خاصة الصين وروسيا، اللتين كانتا أقرب إلى فهم الموقف الخليجي مقارنة بالإدارة الأمريكية خلال فترتي حكم الديمقراطيين في عهد أوباما والرئيس الحالي جو بايدن.

وتؤشر المواقف الخليجية والعربية لأكثر من عامين إلى أن ثمة حالة تردد وتقاعس أمريكية تسببت في هزة لمسارات علاقاتها مع الدول العربية، والخليج بشكل خاص، مع دفع هذه الدول إلى محاولة استدراك مواقفها، والبحث عن مصالحها وأدوارها المفترضة والواجبة في رسم خرائط المنطقة والعالم. وهذا ما تطلب بدوره مراجعة دول الخليج لأولويات علاقاتها بما يحقق مصالحها الاستراتيجية العليا.

عوامل متعددة:

هناك 3 عوامل وراء تفضيل الإمارات، وربما الخليج، لتعدد القطبية بدلاً من سيطرة قطب وحيد حتى لو كان حليفاً استراتيجياً وتقليدياً، وذلك بعد أن أثبتت العلاقات مع الولايات المتحدة أن المعيار الوحيد هو البرجماتية في أسوأ صورها. وتتمثل هذه العوامل الثلاثة في الآتي:

1- تُفضل الصين وروسيا التعامل مع الدول العربية من دون التدخل في شؤونها الداخلية، على عكس الولايات المتحدة التي اختارت دعم بعض الخارجين على القانون مثل جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك السماح لبعض المنظمات المأجورة بشن حملات إعلامية تشوه صورة النظم العربية الحاكمة.

2- باتت الصين باتت قوة اقتصادية عالمية، وأحدثت ثورة كبيرة في المجال التكنولوجي ولديها مشروع “طريق الحرير” الذي سيربط الشرق بالغرب، وبالتالي هي لا تبحث عن مصالحها فقط وإنما تدمج الدول الأخرى في مشروعاتها الدولية. كما أن روسيا تشترك مع دول الخليج في قضايا الطاقة (أوبك+)، وتسعى لسد وتغطية الفراغ الأمني الذي تركه التراجع الأمريكي في المنطقة.

3- لم يخدم انفراد الولايات المتحدة بالنظام الدولي استقرار العالم، كما كان يُعتقد، وإنما أتاح لها فرض إرادتها على باقي دول العالم، خاصة الدول العربية التي تمكن بعضها من استدراك هذا الخلل، ورتب أوضاعه بطريقة أعطته مرونة في التعامل مع التجاهل الأمريكي لاستقرار المنطقة، وحرر قرارته السياسية من السيطرة الغربية، وجعله يختلف في ملفات ويتفق في أخرى. وهذا ما ظهر بوضوح فيما ذكره وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بشأن نظرة الإدارة الأمريكية لمكانة دولة الإمارات، وذلك خلال لقائه في المغرب مع صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، في نهاية مارس الماضي.

وفي التفكير الاستراتيجي الخليجي الراهن، يقوم النظام الدولي على ثلاثة أعمدة رئيسية، هي الولايات المتحدة وروسيا والصين، مع وجود حلفاء إقليميين يرجحون كفة كل من الأقطاب الثلاثة. وربما صارت دول الخليج وغيرها من الدول العربية حريصة على أن توجد هذه القوى بالقدر نفسه من دون تفرد واحدة. ووفقاً لهذا الإدراك، فإن دول الخليج باتت أكبر من مجرد حليف يتأثر بما تفعله الدول الكبرى، حيث أصبحت لديها قدرة على التأثير العكسي إذا رأت أنها مُعرضة للإضرار بمصالحها المباشرة أو غير المباشرة، فالغرب ليس قدرها أو خيارها الوحيد، وإنما هو شريك في الملفات التي تخدم المصالح المشتركة.

إضافة إلى ذلك، فإن تفكير الولايات المتحدة في الخروج من منطقة الشرق الأوسط دون التشاور مع حلفائها أو الاستماع إليهم، لم يقلل من أهمية المنطقة بالنسبة للدول الكبرى الأخرى التي وجدتها فرصة لملء الفراغ الأمريكي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن لتلك القوى الأخرى مصالح وحسابات خاصة بها، ففي العلاقات الدولية المصلحة هي العامل الحاكم دائماً، على الأقل منذ انتهاء الحرب الباردة وتراجع البعد الأيديولوجي في السياسات الدولية. لكن ثمة فارقاً مهماً يتمثل في أن تلك القوى الكبرى (وتحديداً الصين وروسيا) لا تتعامل مع دول الشرق الأوسط ولا غيرها من دول العالم من منظور واحد فقط كما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما قد تراعي بكين وموسكو مصالح وحسابات الدول الأخرى وهي تسعى إلى مصالحها الذاتية.

في مقابل ذلك، خسرت الولايات المتحدة كثيراً في علاقاتها الدولية، وكذلك في مكانتها وصورتها لدى الرأي العام العالمي، خاصة بعد الانسحاب المفاجئ من أفغانستان في العام الماضي، ثم عدم منعها اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية.

الدفع نحو التغيير:

بات المشهد الدولي الحالي أقرب إلى محفل عالمي لمناقشة التغيرات الجارية في النظام الدولي والاحتمالات المتوقعة بشأنه. وتكاد تتفق آراء الخبراء والمحللين على أن الحرب الراهنة في أوكرانيا ليست مثل الأزمات التي أصابت النظام الدولي من قبل، حيث الاحتمالات ضئيلة لبقاء الوضع على ما هو عليه. ومن بين كثير ما حملته معها هذه الحرب، أن الدول العربية والخليجية ليست هامشية التأثير في المشهد، فهي في قلب التغيير الدولي وشريكة في الحراك بعد أن أكدت مكانتها في العالم وصارت لديها استراتيجية أساسها الدفاع عن أمنها ومصالحها الوطنية. وبالتالي من الطبيعي بل والضروري أن يكون لهذه الدول رؤية ودور في تفضيل نظام دولي على آخر، بل والدفع نحو هذا التغيير الأكثر استجابة لمتطلبات أمنها وتحقيقاً لمصالحها.

 مركز المستقبل للدراسات