تأكيداً لما سبق وأعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول المخاطر التي تهدد أوكرانيا بضياع وضعيتها كدولة مستقلة ذات سيادة، كشف جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية عن ما أسمته “مخططات” تضمرها الولايات المتحدة وبولندا لاستعادة وارسو سيطرتها على بعض الأراضي الواقعة في غرب أوكرانيا. وقال سيرغي ناريشكين مدير جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية أن المرحلة الأولى ستكون في إطار ما يسمى بـ”إعادة التوحيد”، وتبدأ مشاهدها الأولى بدخول القوات البولندية إلى المناطق الغربية من أوكرانيا تحت شعار “الدفاع عنها في مواجهة العدوان الروسي”.
ونقلت وكالة أنباء “تاس”، عن سيرغي ناريشكين قوله إنه “وفقاً للمعلومات التي تلقتها الاستخبارات الخارجية الروسية، فإن واشنطن ووارسو تعملان على خطط لفرض سيطرة عسكرية – سياسية محكمة من جانب بولندا على ممتلكاتها التاريخية في أوكرانيا”. وأشارت مصادر الجهاز الصحافي التابع للاستخبارات الخارجية الروسية إلى ما يجري من مناقشات حول السبل الرامية لتنفيذ هذه المهمة مع الإدارة الأميركية الحالية.
في المقابل، ذكرت مصادر بولندية أن الجدل يحتدم في وارسو أيضاً حول فكرة إرسال قوات حفظ السلام إلى أوكرانيا، بحسب طلب القيادة الأوكرانية.
قوات حفظ السلام – حصان طروادة
وأشارت المصادر ذاتها إلى أن “الفكرة قيد البحث، ليس بتفويض من الناتو، بل بمشاركة الدول الراغبة”، فضلاً عن أنه صار من المقرر في الوقت نفسه، نشر ما يسمى بوحدة حفظ السلام في تلك الأجزاء من أوكرانيا حيث يكون خطر الاصطدام المباشر مع القوات المسلحة للاتحاد الروسي ضئيلاً. وستشمل “المهمات القتالية” ذات الأولوية للجيش البولندي، الاعتراض التدريجي ضد سيطرة الحرس الوطني الأوكراني بما يشمله من الوحدات والفصائل التي تسميها موسكو “النازيون الجدد”، على المنشآت الاستراتيجية الموجودة هناك. وكشفت الاستخبارات الروسية عن أن ما يتوفر من معلومات يشير إلى أن المرحلة الأولى من “إعادة التوحيد” تتمثل في الدفع بالقوات البولندية إلى المناطق الغربية من أوكرانيا تحت شعار “توفير الحماية اللازمة ضد العدوان الروسي”، وهو ما تجري مناقشة تفاصيله في الوقت الراهن مع الإدارة الأميركية في واشنطن. وسيتم عقد الاتفاقات الأولية من دون تفويض من حلف الناتو لكن بمشاركة “الدول الراغبة”. ولم تتمكن وارسو حتى الآن من الاتفاق مع المشاركين المحتملين في “تحالف أصحاب التفكير المماثل”. وقالت إنه “من المقرر نشر ما يسمى بوحدة حفظ السلام في تلك الأجزاء من أوكرانيا حيث يكون خطر الاصطدام المباشر مع القوات المسلحة الروسية ضئيلاً”. وكشفت الاستخبارات الروسية عن أن الأجهزة الاستخبارية البولندية تبحث عن عناصر من ممثلي النخبة الأوكرانية تكون قادرة على التفاوض بشأن التوصل إلى تشكيل فصيل يمكن أن يحقق “التوازن الديمقراطي” المعارض للقوميين المتطرفين، ويكون في الوقت نفسه موالياً لوارسو.
وبحسب تقديرات الإدارة البولندية، وتأكيد جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية، فإن سيطرة بولندا على المناطق الواقعة غرب أوكرانيا التي يمكن أن “تدخلها” قوات حفظ السلام، يمكن أن تسفر عن تقسيم البلاد في أغلب الظن. وهذا يعني أن الأمر في حقيقته يتلخص في محاولة تكرار “الصفقة” التاريخية التي توصلت إليها بولندا بعد الحرب العالمية الأولى، عندما اعترفت الدول الغربية بحقها في احتلال بعض من الأراضي الأوكرانية بغية حماية سكانها ضد “أخطار البلاشفة”، على أن تعقب ذلك بضم هذه الأراضي إلى الدولة البولندية. وخلصت مصادر جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية إلى أن الأحداث اللاحقة أصبحت إظهاراً واضحاً للنظام الاستعماري والاستقطاب القسري باعتباره الوسيلة الرئيسة لبناء “بولندا الكبرى”. وذلك يعني ضمناً احتمال أن تكون قوات “حفظ السلام” المقترحة، بمثابة “حصان طروادة” الذي قد يقوم بتوفير ما يلزم لاستعادة ما فقدته بولندا من أراضٍ منذ سنوات الحرب العالمية الثانية، وما تضمره “القيادة العليا” في واشنطن بكل ما تملكه من آليات السيطرة على العناصر الأدنى في الأنساق القيادية في البلدان الأوروبية.
وثمة ما يشير إلى أن ما كشف عنه ناريشكين، مدير الاستخبارات الخارجية الروسية، يستهدف ضمناً فضح الدور الذي تمارسه بولندا بالتعاون مع الولايات المتحدة لإعادة رسم خريطة بلدان شرق أوروبا بما يقف على طرفي نقيض من كل المعاهدات والمواثيق الموقعة بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت بولندا تصدرت قائمة البلدان التي أيدت فصائل المعارضة في بيلاروس التي انتفضت ضد الرئيس ألكسندر لوكاشينكو احتجاجاً على تزوير نتائج الانتخابات الرئاسية في أغسطس (آب) 2020، ووقفت في صدارة القوى لحكومة أوكرانيا بمواجهة “الغزو” الروسي للأراضي الأوكرانية.
خط كورزون واتفاقات يالطا
وتشير وثائق التاريخ إلى أن العداء بين البلدين (روسيا وبولندا) يرجع تاريخه إلى قرون طويلة مضت، منذ ما قبل القرن السابع عشر، أي منذ بزوغ نجم عائلة رومانوف في نهاية القرن السادس عشر. تقول الوثائق أيضاً إن الحرب الروسية – البولندية المعروفة تحت اسم حرب الثلاثين عاماً، انتهت بانتصار عسكري هائل للإمبراطورية الروسية ضد بولندا وما تبع ذلك من توسعات في الأراضي كانت أوكرانيا إحدى ضحاياها.
ويمضي التاريخ ليصل إلى بدايات القرن العشرين وسنوات الحرب العالمية الأولى التي شهدت اندلاع ثورة أكتوبر (تشرين الأول) البلشفية في عام 1917 وما أسفرت عنه من اتفاقات ومعاهدات اقتطعت بموجبها مساحات كبيرة من أراضي أوكرانيا وبيلاروس، وتحديداً بموجب معاهدة ريغا في عام 1921، التي نصت على حق بولندا في اقتطاع الكثير من أراضي غرب أوكرانيا التي عادت روسيا واستردتها مع حلول أولى سنوات الحرب العالمية الثانية، ومعها كل الأراضي الواقعة شرق ما كان يسمى بـ”خط كورزون” الذي يفصل بين بولندا الحالية وحدود كل من بيلاروس وأوكرانيا. وجاء مؤتمر طهران الذي جمع الزعماء الثلاثة، ستالين وروزفلت وتشيرشل في نوفمبر (تشرين الثاني) – ديسمبر (كانون الأول) 1943 ليقر تعويض بولندا عما فقدته من أراضٍ وراء خط كورزون، خصماً من الأراضي الواقعة شرق ألمانيا، وهو أقر لاحقاً في “مؤتمر يالطا” في فبراير (شباط) 1945 الذي أقر تقسيم أوروبا.
وقد أعادت الأحداث التي أعقبت “الثورة البرتقالية” في أوكرانيا، في مطلع القرن الحالي وما أعقبها من تحركات ما يسمى بالنازيين الجدد في غرب أوكرانيا، الكثير من تاريخ الماضيين القريب والبعيد وما يمكن أن تطالب به البلدان المتاخمة لأوكرانيا من أراضٍ كانت تابعة لها تاريخياً، ومنها بولندا والمجر ورومانيا. وفي حديثه حول هذه القضية أشار إيليا كيفا، النائب المعارض في مجلس الرادا (البرلمان الأوكراني) إلى احتمالات أن تطالب هذه الدول بما جرى ضمه من أراضٍ إلى أوكرانيا إبان سنوات “النظام الشيوعي المقيت المحتل”، على حد تعبيره. وتنقل صحيفة “ار بي كا” الروسية ما كتبه كيفا على موقع تلغرام (Telegram) حول “أنه من الخطيئة ألا تتخذ هذه البلدان مثل هذه الخطوة في ظل حكم مثل هذا المهرج (في إشارة إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي) وعليها أن تتعجل ذلك، فلم يبقَ له من الزمن سوى القليل”. ومضى النائب المعارض ليشير إلى أن “مناطق تيرنوبل، وتشيرنوفيتسك، وفولين، ولفوف” أو كما يكتبونها بالأوكرانية “لفيف”، جاهزة بالفعل وتنتظر “الضم”، لأن سكانها حصلوا على جنسية ثانية. وأضاف كيفا إلى أنه من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، سيتعين عليهم هدم النصب التذكاري لزعيم القوميين الأوكرانيين ستيبان بانديرا، “لكن هذا بالتأكيد ليس مهماً بالنسبة إليهم”، على حد تعبير إيليا كيفا. ويذكر المراقبون الكثير من الجدل الذي احتدم بين القيادات الأوكرانية من جانب، والبولندية والمجرية من جانب آخر حول حقوق الأقليات المجرية والبولندية في هذه المناطق التي فقدتها كل من بولندا والمجر بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية.
ويذكر المراقبون الخلافات التي نشبت بالأمس القريب بين المجر وأوكرانيا بسبب ما اتخذته الأخيرة من قرارات قالت بودابست إنها تنتقص من حقوق الأقليات المجرية في أوكرانيا ومنها انتهاك حقوق هذه الأقليات في التعليم واللغة والثقافة والتواصل مع الوطن الأم، فضلاً عن إغلاق المدارس المجرية، وما أعقب ذلك من ردود أفعال، منها القرار الذي اتخذته المجر بمنح كل المجريين المقيمين في أوكرانيا جوازات سفر مجرية مع كل ما يترتب على ذلك من حقوق داخل الوطن الأم.
وكانت العلاقات بين البلدين بلغت قدراً من الحدة بلغ حد التهديد باستخدام القوة العسكرية، وتبادل طرد القنصل المجري في بلدة بيريجوفو “الأوكرانية”، والقنصل الأوكراني في بودابست، وعودة تلويح بودابست بأنها لن تصوت إلى جانب انضمام أوكرانيا إلى الناتو أو إلى الاتحاد الأوروبي. وجاءت الأزمة الأخيرة التي كشفت فيها المجر عن مواقف مماثلة حين أعلنت عن رفضها استخدام أراضيها ممراً لعبور أي قوات أو أسلحة أو معدات عسكرية إلى أوكرانيا، وإن وافقت لاعتبارات إنسانية على قبول النازحين من أوكرانيا، في أعقاب اندلاع المعارك هناك. وذلك فضلاً عن المواقف المتميزة للقيادة المجرية التي تقف مناهضة للعقوبات ضد روسيا، أو حظر التعاون معها ولا سيما في مجال الطاقة على غرار ما أعلنته خلال الأيام القليلة الماضية حول قبولها ما تفرضه موسكو من شروط السداد بالعملة الروسية “الروبل” مقابل وارداتها من الغاز.
على أن ذلك لا يمكن أن يكون “نهاية العالم”، أو بقول أدق نهاية “المواجهة العسكرية الروسية – الأوكرانية”. فما كشفت عنه هذه العملية من تداعيات وتناقضات، ومنها ما يتعلق بمخطط استعادة بولندا لغرب أوكرانيا، وعاصمته لفوف (لفيف) التي اختارتها البلدان الغربية، عن عمد وسبق إصرار، بديلاً للعاصمة “كييف” بكل ما يحمل هذا الخيار من مغزى ومعانٍ.
فهناك في بودابست من لا يزال يتذكر ما فقدته بلاده من أراضٍ بموجب “معاهدة تريانون”، التي جرى توقيعها في بهو قصر تريانون الكبير في “فرساي” في ضواحي باريس، في الرابع من يونيو (حزيران) 1920. ومن المعروف أن هذه الاتفاقية أقرت إنهاء وجود إمبراطورية النمسا- المجر، وأعادت رسم حدود “القارة العجوز” على ضوء نتائج الحرب العالمية الأولى، بما أسفر عن ظهور دول جديدة مثل سلوفاكيا، وكرواتيا في يوغوسلافيا القديمة، وترانسلفانيا التي جرى ضمها إلى رومانيا، وهي البلدان التي قامت على أراضٍ مجرية، إلى جانب ما جرى ضمه إلى أوكرانيا من أراضٍ في شرق المجر. وذلك كله يفتح المجال أمام شتى الاحتمالات في إطار المخططات الرامية إلى بناء نظام عالمي جديد، على ضوء ما جرى الكشف عنه من مخططات تستهدف “إطاحة نظام بوتين”، وتقسيم روسيا على غرار ما سبق وواجهه الاتحاد السوفياتي، على طريق الوصول إلى “الصين” بوصفها الحلم أو الهدف المؤجل. فلن تكون أوكرانيا نهاية المطاف، حتى وإن جرت التضحية بها، أو بما كانت تتمتع به من و”ضعية الدولة المستقلة ذات السيادة”.
اندبندت عربي