هل استسلم أردوغان أم استيقظ؟

هل استسلم أردوغان أم استيقظ؟

زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأسبوع الماضي إلى السعودية توَّجت توجها جديدا بدأه العام الماضي سعى من خلاله لتهدئة التوتر مع عدة دول. في الجوار اختار أردوغان التركيز بالخصوص على أربع دول بعينها: السعودية، الإمارات، إسرائيل ومصر.
قبل سنة كانت أنقرة في حالة عداء بيِّن مع هذه الدول، لأسباب بعضها عقائدي كان يبدو مستعصيا على الحل. للتدليل على عمق التأزم آنذاك، يكفي التذكير بأن السعودية اتهمت أردوغان بتعمّد الإساءة لولي العهد الأمير محمد بن سلمان شخصيا، وتركيا اتهمت الإمارات بالمشاركة في انقلاب صيف 2016 الفاشل الذي استهدف أردوغان. بينما تتهم مصر تركيا بمحاولة زعزعة استقرارها من خلال إيوائها قادة تنظيم الإخوان المسلمين وناشطيه.
لا يمكن الاعتقاد لحظة أن أردوغان فاته أن التهدئة مع هذه الدول مفتاح ضروري يصعب من دونه أن تحافظ دولة مثل تركيا على مصالحها الإقليمية وتحقق منها المزيد. ما تغيّر الآن أنه اقتنع، أو أُجبر على الاقتناع، بضرورة إنهاء العداء لها. ولا يمكن تصوّر أن أردوغان فاته أن المصالحة مع السعودية هي الأهم والأصعب والأكثر كلفة، وأنها، عندما تتحقق، تسحب في طريقها تلقائيا الإمارات ومصر والبحرين. لهذا تركها الأخيرة لكي تكون الإسمنت الذي يتوّج به نهجه الجديد.
في ثلاثة أشهر حقق الرجل ما يحتاج آخرون إلى سنوات لإنجازه. قبل أن يزور السعودية، استضاف الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ في أنقرة. وقبل ذلك حطت طائرته في الإمارات في زيارة كانت إلى وقت قريب تبدو من ضروب المستحيل. بالتزامن مع الزيارات والاستقبالات، بعث رسائل ودية إلى مصر وأبدى نية طيبة للنظر في بعض مطالب نظام السيسي.
يقال في السياسة ألَّا صداقات دائمة ولا عداوات خالدة. هناك مصالح تتبدل وتتقلب والحذق هو الذي يجيد التكيّف معها. لكن السياسيين وقادة الدول الذين يجرؤون على التراجع 180 درجة في زمن قياسي كهذا وبالجملة، دون أن يرف لهم جفن، قليلون. أردوغان أحدهم. يجب أن تكون صاحب بصر وبصيرة وجرأة ثاقبة، أو أن تكون مأزوما إلى درجة الاختناق لكي تُقدم على مثل ما أقدم عليه أردوغان.

السياسة وقادة الدول الذين يجرؤون على التراجع 180 درجة في زمن قياسي، دون أن يرف لهم جفن، قليلون. أردوغان أحدهم

قراءة ما فعله أردوغان يتوقف على الربوة التي تنظر منها إلى ما يحدث. الذين يعتبرون هذا التحوّل عودة إلى واقعية سياسية تمليها الظروف الإقليمية والعالمية المعقّدة، محقّون. أنصار أردوغان وحلفاؤه المخلصون، وكذلك المستفيدون منه الذين يلتمسون له دائما الأعذار، يشكلون هذا المعسكر. ومحقون، في المقابل، الذين يعتبرون هذا التحول انكشافا للرجل ومعدنه الحقيقي، وهؤلاء هم خصومه الإقليميون الذين لم يتوقفوا عن البحث له عن كبوات تدينه. محقون، في الأخير، الذين يرون أن أردوغان تراجع عن مواقف «مشرفة» ثبت عليها طويلا ودافع عنها بعناد، وأنه مضطر لمراجعة نفسه اليوم لأن دوام الحال من المحال. وهذا المعسكر خليط من الخصوم والحلفاء.

يجب أن تكون صاحب بصر وبصيرة وجرأة ثاقبة، أو أن تكون مأزوما إلى درجة الاختناق لكي تُقدم على مثل ما أقدم عليه أردوغان

عندما تتأمل الصراعات والأزمات الإقليمية والعالمية تلاحظ بسهولة أن تركيا حاضرة في أغلبها بشكل وبآخر. وعندما تقرأ تشابك مواقف أنقرة واصطفافها في هذه الصراعات يسهل عليك تفسير لجوئها إلى سياسة تفكيك الألغام مع السعودية والإمارات وإسرائيل، واستطرادا مصر (الخيارات الدبلوماسية المصرية مستنسخة من السعودية والإمارات).
الرئيس الذي يناصر أوكرانيا بالدبلوماسية والطائرات المسيّرة الفتاكة دون أن يخسر روسيا (إلى الآن على الأقل) لن يجد صعوبة في إصلاح علاقاته المأزومة مع جيرانه. والرجل الذي يتحالف مع روسيا في بؤرة صراع معيّنة ويعاديها في بؤرة أخرى قريبة ويتعايش مع هذا «التناقض» سنوات طويلة، لا تستغرب منه أن يتصالح مع الرياض وأبوظبي وتل أبيب والقاهرة بالجملة وفي زمن قياسي. والرجل الذي يناصب فرنسا عداءً مزمنا دون أن يخسر الاتحاد الأوروبي رغم أن باريس أحد أعمدته، عليك أن تنتظر منه مفاجآت دبلوماسية. بكل هذه القدرة على التحمل والمناورة، لا غرابة أن نسمع يوما ما غير بعيد عن زيارة أردوغان دمشق أو استقباله بشار الأسد في أنقرة.
لكن من الضروري تذكّر أن السياسات الإقليمية التي اتبعها أردوغان خلال العقدين الماضيين، خصوصا منذ الربيع العربي، هي التي تحرك التحوّل الذي نشهده اليوم، لأنها كلّفته شخصيا وبلاده الكثير. كلّفته داخليا بأن أثّرت سلبا على استقرار تركيا الاقتصادي وحتى السياسي، وقد تكلفه انتخابيا في الاقتراع الرئاسي والنيابي صيف العام المقبل.
وكلّفته خارجيا مرتين.. مرة بهذه العداوات والأزمات الدبلوماسية المتتالية التي استنزفته، ومرة بأن عرقلت تمدد مصالح تركيا الاقتصادية والاستراتيجية في إفريقيا وآسيا، وهي كثيرة.
اللافت أن الحالة التركية بالذات يرتبط فيها الداخل بالخارج أكثر من غيرها. وقد فهم ذلك خصوم أردوغان، مثل الإمارات والسعودية وإدارة الرئيس ترامب، واستهدفوا اقتصاد تركيا وعُملتها على أمل تقليص نفوذ رئيسها وضرب شعبيته، ولِمَ لا الإطاحة به.
من المبكر الحكم على نجاح التوجه التركي الجديد. ومن الخطأ الاعتقاد أن تحالفات جديدة تنشأ على ضوئه. لا يجب أن ننسى أن ما بين منظومة الحكم في تركيا وتلك الحاكمة في الرياض وأبوظبي والقاهرة فروق عقائدية تستعصي على الحل.
لهذا يبدو الاقتصاد والصفقات التجارية الأكثر حضورا في هذه الزيارات (13 اتفاقية وبيانا بشأن شراكة اقتصادية شاملة خلال زيارة أردوغان إلى أبوظبي في شباط/فبراير الماضي).
تبقى مشكلة واحدة: لا يعجز أردوغان، بحكم تجربته في الحكم وفي المناورة وإدارة الأزمات، عن الفصل بين السياسة والاقتصاد. وتستطيع إسرائيل كذلك، لكن هل سيستطيع الحكام في الرياض وأبوظبي والقاهرة؟
مهم القول أخيرا أن تركيا ليست وحدها من تريد التهدئة. ففي مقابل حاجتها لإنهاء عزلتها ومتاعبها الاقتصادية، ليس من مصلحة السعودية والإمارات وحتى إسرائيل أن تكون لها علاقات مأزومة مع تركيا.
وصول إدارة بايدن للرئاسة في واشنطن وتجربة الانسحاب من أفغانستان والحرب في أوكرانيا عوامل خلطت الأوراق وأقنعت حلفاء أمريكا في المنطقة بأهمية البحث عن بدائل لها. وتركيا ورقة مساعدة في هذا البحث.

القدس العربي

كاتب